أبعاد الوفاق الإيراني العالمي
محمد الأحمري
تمهيد
ليس بالإمكان تجاهل الحدث أوالحفلة الكبيرة التي هزت الدبلوماسية العالمية ومنطقتنا،التي كان لها النصيب الأكبر من وقع وآثار الاتفاق الإيراني مع العالم في فجر يوم 24 نوفمبر 2013م، ورغم التمهيد الذي سبق إعلان الاتفاق بنحو شهرين ثم تصاعد تأكيده حتى اللحظة الأخيرة؛ فإن التوقيع نفسه والحدث الأهم كان في اللحظات الأخيرة، وكانت تجري أثناء المفاوضات الأخيرة عمليات خداع، وتطمينات وتمويهات على منطقة الخليج، ما أربكها وقسمها وكشف لها ترهل سياستها.
وفي هذه الورقة نجول في جوانب عديدة من جوانب الاتفاق، و تفاعلاته، وما نتوقع له من آثار قريبة وبعيدة، ولا شك أن التمنيات تختلط بالمحاذير عند الجميع، ولكنها فرصة لتفهم الكثير من مشكلاتنا قبل التركيز على مشكلات الآخرين.
نظرا لوجود قضايا عديدة في الاتفاق وفي آثاره بشكل خاص؛ فقد حاولت جعل ذلك في نقاط لو قُرئت إحداها منفصلة عن الأخرى؛ فإنها غالبا تحمل فكرة مستقلة عن سواها، وسيكون النص متعبا لو سُرد دون فواصل بين قضاياه.
1
2
هناك تحول أمريكي من فكرة الهيمنة العسكرية المباشرة إلى التوجه الدبلوماسي الأقل عسكرة في المنطقة، بل في العالم، وذلك بسبب التكاليف المادية الهائلة، وبسبب الآثار المعنوية والصورة القبيحة عن أمريكا التي اقتنع بها العالم الإسلامي وغيره في زماننا، وارتفاع مؤشر الكراهية في العالم، وإن كان تراخي الحروب أعاد لها بعض السمعة، ولكن تراجع الاقتصاد أبقى مؤشر الشك عاليا، ونظرا لوجود أصوات إنسانية وتحررية بدأت تغزو الديموقراطيين وتكلف الجمهوريين في داخل الولايات المتحدة، ومع أن حكمة القوة:” أن تكون مخوفا خير من أن تكون مقدرا ومحترما” لكن السنين الأخيرة أوْدت بالقوة وبالاحترام معا. وهذا معناه ترتيب عام جديد في العلاقات، لا يقوم على بقاء توتر بين عدو وصديق للامبراطورية، ولكن الهدف وجود توتر متوازن ومخوفٍ بين رعايا الامبراطور، فلا تقدُّم ولا تقريب لطائفة منهم إلا بمقدار المساهمة في خدمة الامبراطورية.
3
هناك طاقم إيراني جديد أقل تشددا من طاقم الحكومة السابق، وهو أقرب للغرب من سابقه، وروحاني ينتمي إلى تيار مرن ومطلع على العالم، وميال إلى مكانة لبلده في الغرب، ومعجببه، والذين قالوا عنه إنه “جورباتشوف إيران” لم يكونوا واقعيين؛ فليس في إيران تلك الحالة الهائمة بإنهاء النظام، وروحاني من القيادة السابقة. وليس مثل السادات؛ لأن السادات كان مرتبطا بالغرب زمنا قبل وصوله، ولم يكن فوق السادات قيادة أعلى بينما في إيران هناك حدود لما يمكن لمثل روحاني أن يفعل؛ ذاك أن المرشد أعلى منه، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، وهناك برلمان. لذا فتفهُّم الحال السياسي الإيراني الداخلي مهم قبل أن ننشغل بالمقارنات التي قد لا توصلنا إلى نتيجة. بل لا يهم حتى أن نحرص على المفارقة المميزة لهم عن غيرهم؛ فالفقر يعصف بهم كما عصف بروسيا؛ ولأن حكام إيران خليط من اليسار الإسلامي، الذي يحمل أثقال الفترة السوفيتية أو الحرب الباردة، وطبقة جديدة نشأت من تحولات يمينة وتجارية أصابت رؤوسا اغتنت من الثورة والثروة التي تسلطت عليها.
4
هناك رؤية استراتيجية مضادة لحلفاء الغرب في المنطقة من داخل المؤسسات الأمريكية، وقد عمِلَ خبراءُ إيرانيون مؤثرون أو موالون لإيران ولما يسمونه “القوة الشيعية” المؤثرة الموثوقة في العالم ضد الأغلبية السنية المعادية وغير الموثوقة، وهم يستعيدون هذه النظرية من رصيد التاريخ ومن جغرافية المكان، وبعض هؤلاء المنظرين أصواتهم مسموعة في مواقع مؤثرة مثل والي نصر، عميد كلية الدراسات المتقدمة في جامعة جون هوبكنز، وهو منصب تولاه من قبل بول وولفوتز، وشخصيات مؤثرة أخرى. وعمل والي من قبل في إحدى كليات الحرب، وهو ابن المفكر الصوفي حسين نصر ، المدير السابق لجامعة طهران، وفي كتابه “انبعاث الشيعة” أسس لنظرية تحويل الثقة والولاء من السنة إلى الشيعة. ولا يبدو أن هذه نظرية تصلح الآن للاتباع، ولكنها تستحق الاهتمام، أو على الأقل الاستفادة منها.
5
الاتفاق يعترف في النهاية بإيران كقوة نووية سلمية، وينهي الجدل حول هذا، ويبقي التسلح النووي محرما، والعقوبات باقية لم تنته، مع سماح بسبعة مليارات تتسلمها إيران من ثمن النفط ومبالغ متخلفة عند دول مختلفة أوقفها الحصار، ويعد الاتفاق بمزيد من العقوبات لو تبينت مخالفة للاتفاق لاحقا، وهذه الخطوة الأولى التي ما كان يمكن لإيران التخلي عنها، وهي معلنة من قبل، خاصة بعد إنفاقها ما يقرب من مائتي مليار دولار على المشروع النووي ومعاناتها مقاطعة طويلة قاسية ومدمرة للاقتصاد، بالإضافة إلى شعور إيران بأن هذا البرنامج رمز للهيبة وللعزة الوطنية فلا يمكن لأي حكومة في طهران أن تتنازل عنه، بدا ذلك في حديث أوباما أنه:”من غير الواقعي اعتقاد أن إيران ستوقف برنامجها النووي وتفككه بالكامل إذا استمر تشديد نظام العقوبات الناجح ولم يتم إعطاء المحادثات فرصة للنجاح”.
6
من المهم ملاحظة أن الاتفاق الذي وقّع مع إيران من طرف والطرف الآخر هو مجلس الأمن:الخمس دول وألمانيا، يعطي قوة لموقف الطرفين، وفي حال الخلاف مستقبلا حول الاتفاق قد تنحاز لاحقا حكومات إلى إيران وتمنع أمريكا وإسرائيل من عمل منفرد ضدها؛ لأن ذلك سيكون خلافا في التفاصيل، وهم حققوا كسرا لموقف دولي ونقلوه إلى حالة أخرى، ويرى آخرون أن هذا الاتفاق ليس هينا بل بالعكس؛ يجعل الصين وروسيا أقسى على إيران لو تبين أن لها برنامجا مختلفا، ثم إن إيجابيات الاتفاق عند كثير من الغربيين أحسن من سلبياته.
7
الاتفاق والمفاوضات تمّت على مدى نحو عام، وبعضهم يقصر ذلك على فترة روحاني، وكانت المفاوضات مجهدة، ونفذت الاتفاق شخصيات عديدة ذات قدرات وتأهيل من الطرفين، منهم عدد من ذوي المهارة السياسية والقانونية والتقنية، ما ينبه إلى أن الحكومات التي تفتقر إلى طواقم واسعة وكثيرة تخسر على كل صعيد في السلم والحرب والوفاق والخلاف. وقد أظهرت إيران رغم المقاطعة جيلا مؤهلا، فكلما خرج وزير خارجية بعد زمن قصير أخرجوا بعده آخر أقدر من سابقه.
8
كشفت إيران عن وجود رؤية ولا أقول “خطة” مستقبلية للمنطقة، ورؤية للتعامل مع عرب الخليج، أو على الأقل فكرة تخفف الأزمة ولو مؤقتا، وذلك ما أشار إليه مقال وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف الموجه إلى حكومات الخليج، وهو مقال يستحق القراءة؛ فهو يدعو لوجود أو إنشاء “منظومة” جديدة في منطقة الخليج، واستعمل كل طريقة ممكنة في مقالته للتخلص من ذكر اسم “الخليج العربي”ولم يستخدم “الفارسي”؛ ليطالب باتحاد جديد يشمل الدول الثمان المطلة على الخليج، ويعظ بمواعظ لحْنها جميل، وحقيقتها تستحق المعرفة لا في النيات ولكن في الأعمال.
9
رسالة ظريف المذكورة رسالة طمأنة، وزيارة كيري لبعض الحكومات حملت نفس الرسالة “طمأنة” ولا يرى كثير من المتابعين معنى “الطمأنة” وأنها مجرد تهدئة لهلع الخائفين، ولمن لم يستعد ليوم خروجه عاريا للواقع دون حماية أمريكية، ليقع بعدها تحت حماية وتطمين إسرائيلي وهذه الطمأنة هي عين الخوف، وقصة الطمأنة تحمل رسالة واحدة: أن من خاف من شعبه و جعله مصدر الشر الأعظم فلا محيد له من أن يقف شحاذا لأمنه من عداته، ومن كارهيه ومن الشامتين به. وسياسة بعض الحكومات صريحة -دائما وبلا تعديل ولو شكليّا- في خصومتها ومخالفتها لمصالح الشعوب، ولكل حكومة يأتي بها شعب، أو يختارها وينتخبها.
إسرائيل تستفيد من بقاء النقاش عن السلاح النووي على أرض الآخرين، وتطالب بمواقف جذرية فيما يخص غيرها، وقد صرح نتن ياهو بأن الاتفاق ما هو إلا “خطأ تاريخي”، وإن كان من اتفاق فنموذج ليبيا أو كما صرح أحدهم: “نريد ليبيا” لأنها سلمت كل شيء يخص مشروعها النووي، فهي الأنموذج الذي تريده إسرائيل من إيران. وتلك مزايدة على ضجةٍ لتصرف العين عن عملها الذي يطور ما يزيد عن 200 رأس نووي، كما في بعض التقديرات، ولديها أكثر من 400 طائرة مقاتلة.
10
توجه وزير الخارجية الأمريكية كيري لتطمين إسرائيل قبل التوقيع، ثم توجه للإمارات بعده، ولم يقم بتطمين آخرين، وكأن وعود نتن ياهو كافية بأن لا يخاف الخليجيون من الصفقة، وادعى لهم أن بيده الكونجرس والجمهوريين والآي باك “أحد أهم اللوبيات الصهيونية الأمريكية” والإعلام، وبقايا المحافظين الجدد، ولم يخبرهم بالصلاحيات التنفيذية العاجلة التي يمنحها الكونجرس للرئيس في هذا الجانب، ولكن هذا الحشد التطميني الإسرائيلي أغوى عن عدة حقائق، أولها أن نتن ياهو مطلع أكثر هو وحكومته على تفصيلات عديدة في الاتفاق لا ينقلها للعرب، كما قد تلتزم أمريكا بوجود مفتشين يهود من جمهور مفتشي المواقع الإيرانية.
كما أن كراهية نتن ياهو لأوباما لا تعني تحكمه في مصير أمريكا مهما كانت قوة اليهود هناك، فهناك قوى يهودية في أمريكا وإسرائيل تكرهه، وتكره حكومته وتطرفها وترى أنها تضر بإسرائيل وأمريكا، ولن تؤمّن إسرائيل الحاكم العربي من الشعب ولا من الخارج، فإن كانت أمريكا تخلت، فإن يهود إن تولوا حماية حكام عرب فسيأخذون كل شيء، ولا يعطون، وسوف يبتزونهم بحجة الحماية أكثر مما ابتزتهم أمريكا، ويجندونهم ضد قضاياهم مثل قضية فلسطين، كما حدث في مذابح غزة عندما وقف عرب معها في المذبحة الجريمة 2008-2009. وإسرائيل العدو القريب الفقير الطامع المستعمر المتوسع، الذي استولى على جزر خليجية.
أما فرنسا التي أظهرت ميلا في البداية للمواقف الخليجية والإسرائيلية من الاتفاق لأسباب عديدة -منها مساعدات مالية خليجية أثناء غزوها لمالي- فإنها بادرت للحصول على ثمن مجاملتها عقودا وبيع أسلحة لتعوض ما يمكن أن يكون تجافيا إيرانيا مستقبليا للتجارة معها.
11
الاتفاق أعطى ملاحظة مهمة أن سلاح الدمار الشامل يعطي حماية ومهابة، ونعلم أن جولدا مائير جهزت السلاح النووي عام 1973 لمواجهة مصر وسورية، لولا أن أمريكا أغدقت عليها بجسر دائم من السلاح التقليدي والأحدث، والنووي أعظم الأسلحة مهابة ونفوذا في عالمنا، ومفيد جدا لمن يملكه -رغم شروره-، وإن أسلحة الدمار الشامل تحمي صاحبها، أو تؤجل سقوطه، أو يبادل بها، فحتى بشار كسب به زمنا لا ندري مدى طوله، بعد استخدام الكيماوي ضد الشعب، ولكن تنازله عنه أعطاه وقتا وتأجيلا لمصيره، وكذا غيره من قبله، فقد نال القذافي استقراره عشر سنوات حكم إضافية بعد تخليه عن النووي، وهنا ملاحظة مهمة وهي أن سلاح الدولة في عالم الحكومات الدكتاتوريات هو مجرد “سلاح شخصي” لشخص الحاكم وليس للبلاد، وهذا لا نراه في ظاهرة السلاح الإيراني والإسرائيلي وهذا تعامل قريب من حال الديمقراطيات والقوى الكبرى.
12
زيادة تخوف شخصيات خليجية من الدين وكراهية الأحزاب الدينية جعلها عمياء عن كل شيء، فالمريض النفسي بـ “البارانويا” أو “الارتياب” بعدو واحد يراه في كل شأن، وفي كل مكان؛ من السهل جدا تسخيره لمصالح أعداء مجاورين أو بُعَداء فيقيم سياسته على قاعدة: “عدو عدوي صديقي”.
13
بحكم الإقصاء الدائم للشعوب ومنعها من المشاركة، فإن حكومات عربية رأت في انتصار ديمقراطية مصر انتصارا للخصم: “الشعب” فسخرت كل شيء لإسقاطة ولقيت عونا إسرائيليا كثيفا لتدمير مصر، وغفلت عن أنه كان بإمكانها السير مع مصر لبناء قوة إقليمية جبارة لن ترعبها إيران ولا إسرائيل، ولكن الصغير لا يكبر مهما عُمّر، فغدروا بمصر، واستولى عليها من يكره الجميع وهو معقد من الجميع ويبتز الجميع ولا يهتدي طريقا لا محليا ولا قوميا ولا إسلاميا ولا وطنيا، فتعرى الخليجيون من كل جهة.
14
أظهرت الاتفاقية للعالم الخلاف الخليجي مكشوفا للجميع، فمثلا: هناك عمان التي كانت ترتب للاتفاق واتُخذ منها موقعا لكثير من المفاوضات بين الطرفين، وفي بعض مفاصله احتيج لذهاب السلطان قابوس لطهران، وقد أعلنت عُمان يوم 8 ديسمبر 2013 أنها لا ترغب في مشروع الوحدة الخليجية وستبقى خارجه. وأكد يوسف بن علوي المسؤول عن الشؤون الخارجية في عمان أنها “لن تكون جزءا منه” وأنها غير مستعدة للدخول في أي صراعات على الإطلاق لا شرقا ولا غربا. أما موقف قطر فهي لا تعامل إيران بِعَداء، ولا تقبل مواقف متطرفة مع ولا ضد، ومناطق اتفاقها في أمور كثيرة مع إيران معلومة وخلافهما في سورية معلن أيضا، علما أن المنطقة في حال تحولات سريعة جدا، وجذرية أيضا.
أما البحرين فظروفها لا تسمح بموقف صريح، والانقسام فيها كبير، لأن المعارضة في طرف والحكومة في طرف مقابل في السياسية الداخلية والخارجية، وما هو مشهور أن الأغلبية في البحرين شيعة وقضيتهم ومطالبهم قوية وتجد تأييدا دوليا، وبعد هذا الاتفاق ستكون هناك تحولات قسرية جديدة في المشهد، أما الكويت ففيها نسبة تقارب 30% من الشيعة، وأطراف من الحكومة تؤيد توجهاتهم أكثر من تأييدها لعلاقة وطيدة مع مجلس التعاون الخليجي. والرياض لها مواقف متقاربة وإن لم تكن متطابقة، وبخاصة مع وجود شخصيات نافذة في العائلة الحاكمة تخالف التأييد للرياض في موقفها. الإمارات شديدة الخطاب وشديدة الشكوى، ولكن موقف السياسي فيها يختلف دائما عن موقف التاجر، فوجود نصف مليون إيرانيوقوتهم التجارية فيها، وكون تجارة إيران بشكل رئيس مع دبي؛ فإن ذلك يجعل الموقف مضطربا، ويميل في النهاية إلى التهدئة، وكان موقف الشيخ زايد أيام حرب العراق وإيران الوقوف بين الطرفين فيما يشبه الحياد عمليا وإن كان ساهم بدور رئيس في تأييد إنشاء مجلس التعاون الذي قام لمواجهة نفوذ الثورة الإيرانية.
15
ومن أبعاد الاتفاق ما يتعلق بتركيا وإيران؛ فإن الأتراك لما رأوا عربا توجهوا نحو تدمير ديموقراطية مصر الحليف المتوقع وألحقوها بحالة عسكرية وإسرائيلية خافت تركيا من حصار نفوذها التجاري والاقتصادي والسياسي أن تفرضه إسرائيل بعد تقويها ببعض دول الخليج وبمصر، أو أن تكتسح إيران بعد المصالحة المنطقة، فبادرت لعلاقة أقوى مع إيران، ومن قبل مع العراق والكرد، وما صاحب ذلك من اتفاقيات أنابيب النفط والغاز.
16
بحكم كراهية إسرائيل للحزب الحاكم في تركيا ولشخص أردوغان وجد خليجيون أنفسهم مسخرين لإسرائيل ولحلف نتن ياهو، وأصبحوا في معسكره ضد تركيا، واستطاع نتن ياهو تسخيرهم لحزبه ولن يكونوا في هذه الظروف إلا كذلك، ولأسباب خطيرة أخرى، فكانت مصر الحرة الديمقراطية سندا إسلاميا وعربيا لتركيا وحلفا ضد تحالف نتن ياهو مع “عرب الاعتدال”، ولما سقطت مصر في حضن إسرائيل سخطت تركيا بسبب خبرتها مع الفشل العسكري ودكتاتوريات العساكر الطويلة في تركيا بل في العالم الواسع كله.
17
هناك حكومات عربية مهما تحسنت ظاهرا علاقاتها مع تركيا فلن تكون العلاقة إلا عدائية أو شبه عدائية؛ لأن تركيا ديموقراطية وهم دكتاتوريات، ولأن تركيا بعد نجاح ديمقراطية يقودها إسلاميون فإن الحكومات العربية التي تعودت العداء مع كل ما هو إسلامي لن يسعها إلا استمرار الخلاف، ولأنهم ناجحون والناجحون يورطون الفاشل في الكراهية والحسد، ثم إن النجاح سبب جاذبية كبيرة لا يمكن مقاومتها إلا بهجوم كاسح على كل ما تمثل. ثم إن هناك عداءا تاريخيا من زمن الخلاف بين ممثليات تركيا من طرف وممثليات بريطانيا من طرف آخر في المنطقة.
والحقيقة الواقعية: أنه لو تخلص العرب من عقد التخلف والفشل والرغبة في التبعية للصهاينة ومن كراهية الشعوب فإن تركيا هي الحليف الأمثل؛ بسبب الخصومات القائمة والمتوقعة بين إيران وتركيا، وبين إسرائيل وتركيا، ولأن إيران القومية ما بعد الثورية سوف تذهب لإسرائيل، أما تركيا فهجرت إسرائيل جزئيا ولا يتوقع قريبا علاقات حسنة معها، ولأن مشكلة النفط والغاز في البحر المتوسط ومشكلة قبرص وسورية وفلسطين وغزة تحديدا تتعاظم.
18
إيران سوف تتجه لإسرائيل، لأسباب منها: أن إيران أصبحت أكثر قومية من أي لحظة سابقة، والمزاج القومي كعقيدة إن لم يتنافر جغرافيا “حدوديا” فإنه ثقافة جامعة، ولأن الموقف اللاديني المتصاعد في إيران يخفف من المواقف الثورية الأولى، ثم إن الموقف العام من العرب ومن تركيا ومن السنة يمكن استعادته كأيام الشاة، وقد يكون محفزا في التواصل، وهناك تواصل بينهم في مواقع عديدة. ونعلم أن بيريز كان قد زار الشاة في السبعينيات ليؤسس له مفاعلا نوويا عسكريا، وكان بيريز يتاجر بالتقنية النووية التي كان طرفا لحصول بلده عليها -كما فعل عبد القدير خان مهندس السلاح النووي الباكستاني والليبي -، وهناك فرق بينهما: وهو أن بيريز موالٍ للغرب فهو ملاك، أما خان فهو مسلم باكستاني فهو شر! ثم إنه لا يستبعد أن يحتوي الاتفاق شيئا من التأسيس لتخفيف العداء مع الوجود الغربي في المنطقة، وأهمه إسرائيل.
نشر فريدمان عن تحالفٍ غير معلن بين حكومات خليجية حددها في مقال له وبين إسرائيل وأنه قد عاش حتى رأى ذلك، ورأى الوزراء العرب يجلسون في قاعة ومعهم مسؤولو الأمن في بلادهم ويحاضر لهم بيريز. فكم شعوبنا غائبة عن متابعة هذه العلاقات والولاءات الجديدة؟ المعادية لمصالحها ومغيبة عن تفهم هذه التحالفات وآثارها، ونلاحظ أنه بعد مجاملة نتن ياهو وتفهمه وهو شريك مكين في الاتفاق ثم تراجع في تشدده، فتراجع بعده خطاب العرب وقبلوا علنا بالاتفاق، مع أن قبولهم أو رفضهم لا يملكون غيره أصلا.
19
في إحدى المفاوضات السابقة مع الأمريكان التي قادها علي لاريجاني طالبت إيران بنفوذ في الخليج كبند من بنود التفاوض، والاحتمال قائم أن هذا طرح في المفوضات، أو وعدت إيران به بدور مقابل تنازلهم للأمريكان، وهي طموحات تتجاوز الأفق القريب والمستوى البسيط؛
مثال تلك الطموحات لإيران تصريح مهدي طائب رئيس مركز مكافحة الحرب الناعمة بأن:
” سورية هي المحافظة ال 35 وتعد محافظة استراتيجية بالنسبة لنا.” والهبّة للحج إلى طهران ما هي إلا مظهر للاحتماء والتواصل والغنائم التجارية لمن فشل في السياسة، ولكن هناك من لا يسمح بالتجارة للشعب، ولا يجيد السياسة ويخسر على كل الجبهات؛ حتى تلك التي صنعها دمرها أو تحولت ضده.
عانت إيران من انهيار اقتصادي كبير من الحصار واستمر انخفاض العملة مع شدة الحصار، وزاد الضيق الاقتصادي؛ ما أخاف الحكومة من زيادة الاعتراضات مما قد يشكل تحديا للسلطة وربما الاستقرار عموما، وحينها لا تغني قوة الجيش في مواجهة ثورة جياع.
ومع الاتفاق انتعشت الأسواق المالية العالمية في اليوم التالي للاتفاق، وانتعش السوق وسوق العملة تحديدا في دبي، بحسب وكالة رويتر وارتفعت العملة الإيرانية في اليوم التالي بمجرد الإعلان عن الاتفاق بمعدل 3%.
ثم إن الاتفاق يجعل دولا عطشى للنفط والمعادن والتصدير مع إيران تسعد بكسر الطوق. وهذا سيجعل أسعار النفط تتراجع ولو على مدى أبعد من زمن الاتفاق. وهو مفيد لإيران ومخيف لحكومات النفط، ولا يبدو أنه سيكون الانخفاض كبيرا بسبب حاجة أصحاب النفط الصخري والشركات لارتفاع الأسعار.
الاتفاق قد تكون له آثار اقتصادية دولية جيدة، والأثر الاقتصادي لا يعني أنه شر للمنطقة، قد يكون سلبيا على الضعفاء والشعوب المنهكة بالاستبداد وعديمة المبادارات، ولكن تحسن الاقتصاد وتحسن وضع الشعوب عالميا؛ أمر مفيد أن يقوم عالم الوفرة والرزق والصناعة والتجارة، بل إن الغرب يقرض أسواقا وحكومات ومناطق أحيانا على حساب بلاده –مؤقتا- ليبني له في الخارج أسواقا ويحرك اقتصادا يفيده، فليس الموقف الغربي المنفتح على إيران كله لصالحها فقط، بل إن الانفتاح مصلحة للشعوب المتعدية المصالح.
ليس صحيحا أن فقر منطقة يعني غنى أخرى، وانتشار الفقر يعني سيادة القلاقل، والشعوب الجائعة تنتقم ولو بالهجرة فقط، وقديوصلها آخرون أو الأغنياء المجاورون إلى أن تكون الحرب آخر ملجأ؛ فليحذر من يكيد جيرانه بإفقارهم أن يصبح هو ضحية حيلته.
كتبت النيويورك تايمز في صفحة “التحرير” استنكارا لموقف نتن ياهو وحكومته وانتقدت أيضا الجمهوريين –غالب الناقدين جمهوريون إلا “شومر” فهو من اليهود الصهاينة المتزمتين في ولائه لإسرائيل- في الكونجرس على سعيهم لمضاعفة الضغط والعقوبات على إسرائيل. وأن هذا الاستمرار ومضاعفة الحصار قد يسبب حربا، ويعيق التقدم في المصالحة، وكان تشديد الحصار قد قلل الدخل من النفط الإيراني من 110-120 مليار دولار إلى 40-50 مليار دولار أي أقل من النصف أو حوالي الثلث، ويقر المقال بأن إيران لن تتخلى عن برنامج صرفت عليه المليارات ومنعها من امتلاك السلاح النووي الذي أصبح يمثل رمزا للعزة الوطنية، وأن أمريكا لن تدخل في حرب مكلفة وتهز منطقة مضطربة، وقد التزم أوباما بالإقناع بأن العرض معقول ومقبول لكل الجهات.
خدعت أمريكا حكومات عربية خليجية واستنزفت النفط بأقصى ما يمكن للحقول والمعدات استخراجه، واستعملت نفط الخليج سلاحا لتركيع إيران، بحيث يتوافر النفط في الأسواق بكميات هائلة تمنع حاجة السوق العالمية للنفط الإيراني، وحاصرت نفط إيران بنفط العرب وبكل فعالية وتأثير، فلما خضعت إيران فاوضتهم واتفقت معهم، وتركت العرب بنفط مسفوك، ونقد محول لبنوكها، وبلا أمن، وللأسف فهي لما قررت الصلح لم ترسل لهم ولو مندوبا واحدا من باب “جبر الخواطر” ولكن كمية النفط الذي حاربت به أمريكا إيران كان ضد مصالح ومستقبل الشعوب في المنطقة، وسوف يأكله التضخم وآفات أخرى خليجية كثيرة، ولو بقي مخزونا استراتيجا لكان خيرا للمنطقة، لا سيّما في ظل أبحاث كثيرة مهمة تتحدث عن نضوب النفط.
الاتفاق قضى على صحة عقائد خليجية كثيرة، منها:
العقيدة الخليجية القائمة على أن مصدر الخوف هو الشعب وليس الخارج، قد تكون هذه الحادثة مساعدة في إعادة ترتيب مراتب الخوف.
نهاية التستر وراء عقيدة إقصاء الشعوب الدائم، فإن التخلي الأمريكي يجب أن يجلب الشعب لعلاقة حسنة مع الحاكم، وليس الهروب من مأمن غربي إلى مأمن إسرائيلي أو روسي أو إيراني وإبعاد الشعب.
نهاية عقيدة أن الحكومة الخليجية وكيلة للغرب ضد خصومه في المنطقة بدءا بالشعوب وانتهاءا بقوى بديلة جديدة.
نهاية عقيدة أن الزبون الذي يشتري السلاح الغربي آمن، لأنه يعمر ويحرك الأسواق وصناعة السلاح الغربي، ولكن يبدو أن الزبون سوف يبقى خائفا يتسول الأمن، وكلما تعرض للتعرية أكثر اقترب واشترى أكثر، فقد لا يبقى وليا فحسب بل خائفا ومستنزفا دائما، وهذا مؤشر توجه السياسة القادمة. ويبقى استذلاله بالمزيد من شراء السلاح، وإن كان سيذهب ليشتري من سوق أخرى كروسيا والصين وربما إسرائيل.
عقيدة أن هذه الأنظمة حليفة أو موالية لأنها تحارب التوجهات الإسلامية والعروبية،عقيدة تستحق إعادة النظر، لأن الغرب أصبح يفرق بين درجات الخلاف، ويعرف أن الإسلاميين لهم الشعبية والقدرة، وأن يوالي بعضهم ضد بعض، أو يقبل بالمعتدلين منهم، وليس من مصلحته بقاء مواجهات دائمة مع الإسلاميين، لأن العالم الإسلامي فهم أن هذا الموقف هو مجرد عداء للإسلام لا لفصيل منه، فوصل إلى نتيجة أن يقبل بوجود تيارات إسلامية حاكمة أو مشاركة في الحكم ولا يخرجها فيزيد العداء له، وحتى لا يبرر هذا عداء المجموعات الأكثر تشددا ضد الغرب، وحتى لا يكثّف عداوتها ويزيد عددها وأنصارها.
قلّت أهمية حكام الخليج كأعداء مجندين ضد التوجهات الإسلامية غربيا، بعد تواصل الغرب تعرفه على تفاصيل الحركات الإسلامية وخصوصا جماعة الإخوان في مصر، ولكن إسرائيل بحكم عدائها لحماس استطاعت تجنيد حكومات خليجية ضد الإسلاميين المعتدلين، فالهرهرة العربية والضجيج ضد الإخوان في الخليج أكثره مجرد صدى لموقف إسرائيلي أولا، ثم لموقف حكومي محلي ثانيا، ومتى عرفنا أن كثيرا من المعونات الخليجية تصرف للمجموعة الفلسطينية الموالية لإسرائيل، وتشارك إسرائيل في الموقف من حصارها لغزة، بل رضيت واستمرت في الصمت أو تأييد الحصار من قبل مذبحة 2008-2009 ومن بعدها إلى اليوم.
انتهى الكثير من فوائد الحكومات الخليجية بكونهم ممثلين للغرب ضد طموحات الشعوب في الديمقراطية والحرية، لأن قبضة الوكلاء الحديدية على الشعوب أنتجت عنفا ضد الغرب، وتبين أن دكتاتورية الحكومات الخليجية ومحاكمها الصورية وفشلها السياسي الظاهر ماهي إلا وجه من وجوه الفساد والنهب وتصاعد الغليان ضدها، وهذا يهدئه في نظر الغرب شيء من الحرية والعدالة، والذي لا يمكن للحكومات التابعة قبوله وهو منطقة خلاف بينهم وبين الأمريكان والأوروبيين، ولكن المصالح تكبت كثيرا ظهور هذا الصوت.
السياسات الخارجية المملاة على الحكومات الخليجية أنتجت تسليمها الخليج لطموحات خارجية كثيرة، كانوا يرونها في مصلحتهم، وساعدوا على تقوية تحالف بين من يرونهم خصومهم كإيران وتركيا. أما شعوبهم فأصبحت أكثر شكا وأقل ثقة في نياتهم تجاه مستقبلهم وحرياتهم، خاصة أن أمن وسياسة الخليج قد تتركه أمريكا لإسرائيل في ظل تغييب الشعوب عن المشاركة.
أنهى هذا فعالية الدوغمائية الخليجية في محاربة كل توجه إسلامي حتى ولو كان سينفعها، أورثت فشلا دائما جليا، ومتوقعا، فقد عادوا الثورة الإيرانية وكان من الأسباب كونها إسلامية، أو لفكرة تصدير الثورة، غير أن السبب الأكبر كونها ضد المصالح الغربية، ونسوا مصالحهم. وعادوا السودان بحجة أن حكومة البشير إسلامية، وبناء عليه أعانت حكومات عربية عبر تجار سلاحها المعروفين –بعضهم فاعل إلى اليوم- جرنج زعيم انفصال جنوب السودان على الانفصال، و وقتها كان الفاعلون في اقتطاع جنوب السودان الكنائس الأمريكية خصوصا وبقية خصوم الإسلام والعرب في السودان وانتهينا إلى مانراه الآن من خسارة عظمى مشهودة في السودان واقتطاع نصفه الغني.
إن الخلط الدائم بين الموقف الأيديولجي الحكومي المناوئ للمصالح العربية والإسلامية مع المصلحة الغربية وأيديولوجيتها تصبح أثقالا على الحكومات العربية متوالية وثقيلة فتضعفها وتسوقها إلى تصرفات متطرفة تودي بمصالحها أولا، قبل الضرر بمصالح العرب والمسلمين.
عقيدة “تدمير الآخرين لنبقى نحن”عقيدة فاشلةٌ تماما، فتدمير العراق والسودان واليمن ومصر لا يعني أنك الفائز حين تدمر جيرانك، إن الإضرار الحاصل أصبح علما على شخصيات معروفة منذ ثلاثة عقود لا تفهم إلا لغة التدمير والاغتيال، وهي تنفذ ما كانت تسمعه عن طريق السي أي أيه زمن الحرب الباردة، متكررة الأساليب باستمرار، ولو عاد عليها وعلى شعوبها بالضرر، فالأطراف نفسها وأحيانا الأشخاص أنفسهم ساعدوا وألبوا وقدموا كل عون متخيل لإسقاط صدام، فبدا الأمر شبيها بقصة تأخير حلق اللحية حتى يسقط صدام المشهورة التي قصّها بوب وود وورد. وانتهى الأمر بإسقاط صدام، وجاءت إيران وأصبحت على الحدود، ليطلق بعض متطرفي الشيعة العراقيين أو الإيرانيين صورايخ جراد منها، والواقع أسوأ من إطلاق الصواريخ، وهكذا تم إهداء أو تسليم العراق لإيران بسياسة عربية خليجية كان من دوافعها رغبة المحافظين الجدد “اليهود” في تأمين إسرائيل، وعبرت الخدعة بتمويل وسياسة عربية، وقل مثل هذا في الانقلاب الذي نرى مؤشرات فشله في مصر، وآثاره السيئة على من أعان عليه، فالانقلاب يتجه نحو جهات معادية لمن موله ورشى له كل جهات عديدة.
ينهي هذا الاتفاق -مهما قالوا إنه صغير- تلك العقلية المزاجيةالفردية التي تدير الأمور ببدائية، وأخذ يشد الجميع نحو مواقف لمصلحة الدول وليس لمصالح الأشخاص الشخصية والعارضة والتابعة. فبعض هؤلاء لا يفرقون بين مزاجهم الشخصي ومصير حكومات وشعوب، إن لك أن تكره أي فصيل في بلدك ولكن أن تكون مصدر تطرف استبدادي وفساد فهذه كارثة على الجميع.
بسبب تمكن الكراهية للإسلاميين وسيطرة العقد الشخصية لم يفكر خليجيون بحركة ولو تمثيلية أن يفتحوا أيديهم لقوى فلسطينية وعربية حقيقية مؤثرة، لتكون سترا لهم من العراء، وعونا لهم عند تخلي الحامي، فليس لهم من الجرأة والشجاعة ما يقربهم لسياسة واقعية، هذا مع آفاق ضيقة وقدرات ضعيفة محزنة، وتركوا زعماء سياسيين ومؤثرين على قوائم المنع من التواصل خضوعا لمطالب صهيونية متطرفة، ولو كانت هناك ذرة من نجابة سياسية لكان الحال غير الحال، ولكن السياسة تموت على أيدي بعضهم كموت الهمم والعقول والمبادرات.
عقيدة الخليج القائلة بأن إسرائيل هي أمريكا، هذه عقيدة مريحة للفكر، وموقف بدائي مهما بدا مبدئيا، وكان من المهم كسر الالتباس، ومعرفة الواقع، لا التبعية العمياء، فالتفاصيل مهمة، وهم يعرفون مسبقا أن هناك كراهية شخصية عميقة بين الرئيس الأمريكي ونتن ياهو.
رد بعض الحكومات العربية بالقول بـ “أن المهم هو النوايا الصادقة أو الطيبة”؛ قول لا معنى له فليس في السياسة تعلق بالنيات بل تعلق بالوقائع ونصوص العقود، وإذا كانت النيات لا قيمة لها في عالم العقود، فمن باب أولى ألا يفكر واعٍ في قصة النيات في التحالفات الدولية، بل هي في عالمنا القوة والقدرة والاستفادة من الفرص.
عقيدة بعض الحكومات أن السياسة هي: تأمين التحالف مع الخارج والقمع في الداخل، سياسة فاشلة ويجب أن تتغير، علاوة على أنها معادية للشعوب في زمن نهوضها، فإن الحكومة القوية هي تلك التي لها علاقة ثقة وتجانس في الداخل، والحكومات المهترئة هي تلك الحكومات القامعة في الداخل والعدائية معه، الودودة مع قوى الخارج، فكلما أظهر الدكتاتور توددا للخارج ظهر تناقضه وعدم الثقة بمسلكه وبمستقبله، وتلك كانت عقيدة قذافية خليجية مشتركة، ولذا عز سقوطه على شركائه في المهنة.
خيار الخليج الذهاب لروسيا ولإسرائيل ليكونا حليفين؛ مجرد خطوة خاطئة وفاشلة أخرى، لأن إسرائيل بعد التطبيع الواقعي مع عدد من الخليجيين تتحدث عن هيمنة قادمة لها على القرار السياسي في الخليج، وهذه ليست أساطير تقال بل حقائق تحدث أمامنا، ولم ننس تحالف مبارك مع إسرائيل في مذبحة غزة المؤسفة في تاريخ كل من سكت أو تهاون أو صمت فضلا عن من شارك.
سوف تبتز إسرائيل الخليج بحجة حمايتهم من إيران موقتا ثم تتركهم بعد استلامها لمقدراتهم وتورطهم في كل شيء، وقد تبين أن الشعوب المسلمة البعيدة وحكومات حرة كثيرة تخالف إسرائيل بينما يواليها ويخنع لها خط عربي قريب وبعيد منها.
خلافات الخليجين عميقة رغم التظاهر، وتجعلهم أقرب للتنسيق مع خصوم الخليج بعضهم ضد بعض.
ماذا تستفيد أمريكا والغرب؟
إنهاء حالة عداء مرهق تبين أنه لا يكف الإيرانيين عن تطوير سلاحهم ومواقفهم العسكرية، بل ضاعف المنتجات، وقد تولى أوباما الرئاسة والكمية المخصبة من اليورانيوم كانت قد بلغت ألفي كيلو غرام أويزيد قليلا، والآن بلغت كميةاليورانيوم المخصب حواليتسعة آلاف كيلو غرام. ومما علق به العلماء أنه في حال نجاح التخصيب والتجارب وتمرد إيران على الاتفاقات فإنها تحتاج إلى قريب من سنة ونصف لتستطيع تركيب القنبلة على صاروخ شهاب. كما يرى بعض المراقبين أن الاتفاق هو لمجرد شراء مدة ستة أشهر نحو إنجاز القنبلة. أما أحد شخصيات إدارة أوباما فيقول إنه في الخمسة عشر عاما الأخيرة كان دائما لدى إيران برنامج تسلح سري أو محاولة نووية سرية، ثم إن الأمريكان لا يثقون بأن الحرس الثوري لا يعد سلاحه النووي الخاص. وهناك من يرى أن تأجيل إنتاج السلاح النووي سيكون مفيدا حتى لأمريكا، فكما صرح كرستوفر هيل المفاوض الأمريكي في أزمة نووي كوريا الشمالية؛ “إن خمس سنوات من تأجيل العمل في المفاعل الكوري تستحق المحاولة.”
وقد أنفقت إيران في عام 2012 ستة مليارات على السلاح، وأنفقت حكومات الخليج مائة مليار، وأربعة ونصفالمصر، وإحدى حكوماته هي في السنوات القادمة خامس حكومة في العالم في التسليح، والسادسة بعدها خليجية أيضا، ومع هذا فقد بقي الخليج خائفا يهيم ظمأ للسلاح.
وكان من نصوص الاتفاق: إيقاف التطوير من نسبة 20% إلى أقل من 5% والتمكن من معرفة ما يحدث فعلا في المفاعلات، بمراقبة دائمة على مدار الساعة، وإيقاف منشأة أرك والماء الثقيل بها، وإيقاف استخدام ثمانية آلاف جهاز طرد مركزي تم تركيبها من قبل ولم تبدأ العمل. وهي اتفاقية مؤقتة لستة أشهر ويجري الاستعداد للجولات الطويلة التالية.
حاجة أمريكا إلى إيران في أفغانستان بعد خروجها، والطواقم المدربة والمتعلمة الآن في أفغانستان تدربت أو درست في جامعات إيرانية وشيعية في كابل، إذ استغلت إيران هزيمة طالبان فبنت قيادات وكوادر موالية لها في أفغانستان.
ثم حاجة أمريكا المستمرة لإيران في العراق، وحتى في سورية ولبنان، فقد تبين لها أن التحالف مع الخليج لا يساوي في السياسة ولا في المكاسب علاقتها مع إيران، وهي لن تفقد الخليج الخائف، وهو محتوى في الحضن ولن يفوت،أما مناورات تعلقه بروسيا فهي لا تزيد عن رشاوى عارضة، ولم تعد بعد روسيا لمنافسة الغرب.
الخليج قطع صلاته بالعالم ليرضي أمريكا، ومن الطريف أن حكومة خليجية كانت أيام صدام تمنع التعامل مع المعارضة الإسلامية السنية العراقية، وتقبل بالتعامل مع الشيعة، بل منعت السنة حتى من حقوق مشروعة لهم، هذه البدائية السياسية لم تطقها أمريكا ففتحت الخط مع إيران، خاصّة والسياسيون الأمريكيون تحدثوا بما كان يسوؤها من عدم وجود سياسيين في بعض البلدان لتتفاهم أو تتواصل معهم.
القيادات في منطقتنا يتمتعون بغفلة عن الجغرافيا السياسية، لأن غيرهم لا يريدهم أن يروها، فإن حكومات العرب على شاطئ الخليج حالها يختلف عن موقع وعلاقات إسرائيل وأمريكا فالجوار هنا يعني أن تصوغ نمطا سياسيا يناسبك ويختلف عن رأي إسرائيل ورأي أمريكا. ولو غادرت أمريكا غدا وراء المحيطات فما مقدار تضررها مقارنة بسكان هذه الأقاليم المجاورة لإيران؟ إن هؤلاء للأسف يأخذون المواقف ممن يؤثر عليهم جملة، وينفذونها كما قيلت لهم، ويزيدون كيلة، وهي كيلة المذهب والعنصرية المتبادلة عبر القرون، وهي ظواهر بعضها ثقافية ومنتشرة في كل بلاد الله. فتجدهم ينفذون العداء جملة والولاء جملة، وهذا نمط وافد وغير عملي ولا سياسي ويضر ويسيئ لكل شيء هنا، ولو وقع فيه غيرهم لما كان لائقا بهم ، كيف وهم أغلب من يوقده، ولا يتجاوز شيئا منه.
قطع الطريق على تقوية مجموعة البريكس علاقاتها مع إيران ودول البريكس هي: “البرازيل، وروسيا، والصين، والهند، وجنوب أفريقيا” خاصة أن هذه الحكومات رفضت المقاطعة النهائية وبعضها تناور على نسب تعامل قليلة مثل الهند وبدائل مادية عن الدولار، وهناك خوف من تفكك مجموعة الضغط على إيران.
طالما استطاع أعداء العالم العربي أن يملوا على الحكومات العربية تحديد عدوها بأنه الأفكار في المنطقة، أي الأفكار الإسلامية والقومية، وأي عناصر للحياة والتفكير والتأثير. وقد التزمت حكومات المنطقة التابعة بالعهد وهو إقصاء من كان له رأي أو أي فكرة أو أيديولجية مضادة للمحتل الغربي تحديدا، فهي تواجه اليساريين والقوميين والإسلاميين بالعزل والمنع عن أماكن التأثير والقرار، ولم يسقط هذاالعهد بعد سقوط روسيا، مع أنه كان من موروثات منظومة الحرب الباردة، السوفياتية الأمريكية، هذا العهد والوعد دمر القدرة السياسية في دول المنطقة، فليس كل مثقف بعثيّا ولا ناصريّا ولا إخوانيّا، وهؤلاء ليس كلهم يحملون خلافا حادا مع حكوماتهم، وإذا كان بعض اليسار المغضوب عليه واليمين الغربي تحسنت ظروفه أو تغير فكره فاستطاع وبسبب البيئة الديمقراطية أن يساهم في منظومات بلاده فإن هذا قد حرمت منه الحكومات والشعوب العربية فكانت خلافاتها الحزبية مرضا على وهن، فهي لا تملك الطاقات واستبعدت الموجود والمؤثر.
كما أن حكومات الخليج انشغلت مؤخرا بحرب الديمقراطية في بلدان الثورات، وكان همها كيف تعيد تنصيب الاستبداد على رؤوس الشعوب، فضيّعت العمل السياسي الدولي وضيعت مصالحها لاشتغالها بالإضرار بالعرب الآخرين.
المصالحة بين الغرب وأمريكا تعني تغييرا مهما قادما في أزمة البحرين، فمن غير الممكن استمرار التأزم هذا بعد المصالحة الأمريكية، وربما تتسع مناطق المصالحة إلى سوريةوإلى مناطق عديدة، لأن إيران تتقدم شابة وسياسية واعية ومتصالحة ومرنة وبراجماتية في مقابل مناطق عربية راكدة ويائسة وشائخة وعاجزة عن عرض أي بديل وأي محاولة قادرة على العمل مع غياب تام للمشاركة الشعبية.
قبل الاتفاق كانت بعض الدراسات تؤكد أن إيران قد تُغلب مصالحها النفعية على الأيديولوجيا الثورية والدينية، وبهذا يمكن أن تتنازل لإسرائيل وللغرب في مسألة السلاح النووي مقابل الحفاظ على سورية ولبنان مناطق نفوذ لها. وهي بهذا وبما يجري الآن تحقق بقاء مصالحها في سورية ولبنان وتكسر الحصار السياسي والاقتصادي، وتمد نفوذها، ليس إلى الخليج فقط ولكن للحفاظ على أطراف الامبراطورية الممتدة من حدود الصين إلى البحر الأبيض المتوسط، وكان لفشل حكومات خليجية دور في تأسيس هذا الوضع.
في إيران هناك صوت شعبي حقيقي وموجود مهما عورض وكبت ويتنفس من وقت لآخر ويؤثر، وهناك معارضة حقيقية مهما أسكتت، ولكنها جزء من الشعب ومن الصوت، وهناك جهات وأحزاب تنقسم بين الموافق والمخالف، وكان خامنئي قد رحب بالاتفاق بحذر، أما التوجه العام فهو تأييد وحفلة شعبية وحكومية عامة وفرحة بالاتفاق، لأسباب الخناق الاقتصادي الطويل، والملل من سياسة التجمد ضد الغرب، وهناك الشباب المتأثر المجذوب إلى نمط للعيش جديد، ولم يعاصر زمن ما قبل الثورة ولا مزاج الانتقام. غير أن أصوات من قبل الباسيج لم تزل عالية، تعترض على الاتفاق، وهناك خوف من هياج أو مظاهرات يسببها محافظون معترضون، ومنهم قريبون من الحكومة ومن المحافظين.
الطريف أن معارضة الكونجرس والسعودية وإسرائيل للاتفاق ساعدت روحاني والمرشد في الإقناع العام بأن الاتفاق مفيد لإيران عندما عارضه خصوم إيران التقليديون. وأيضا فإن من أهم مبررات القبول السائد في إيرانبالاتفاق هو النتيجة وهي الاعتراف العالمي بإيران نووية، وفك الحصار، وكذا الفهم بأن المرشد موافق، ويضغط متشددون إيرانيون بإنهاء كل الحصار، وإلا فإن المخالفين سيضغطون على روحاني للتراجع عن الاتفاق. وسبق للمخالفين أن واجهوا روحاني واستقبلوه برمي البيض والأحذية عليه عند عودته من نيويورك بعد مكالمة أوباما، التي رأوها مهينة لهم. وشبهوا الصلح باتفاق صدام مع الغرب “النفط مقابل الغذاء.” وهذا مشهد من الدبلوماسية الإيرانية المتوازية بين دبلوماسية الخارج وسياسة الداخل. كما أن التقسيم الشكلي للسلطات على ضعفه في إيران يقوي البلاد وينوع الرؤى، وهذا ما تفتقده حكومات الخليج.
من المهم ملاحظة أن الثورة الإيرانية ما زال بعض قياداتها يفكر باليسار واليمين ومعسكرات الحرب الباردة، ونتائج تفكيرها، وحكومات الخليج مهما كبرت وتعلمت وسافرت فإنها ترجع إلى عقلية خيمة في الصحراء يهددها غاز من قبيلة أخرى، وصاحب الضجة والعجة نافذ على طريقة القدماء، ولم تدخل بعض منظومات السياسة الخليجية إلى العصر الحديث، فهي ترى الخير في قبيلة الحاكم محضا والشر في القبائل الأخرى محضا، وهذا يمنع قيام مؤسسات ذات قدرة، ويمنع صعود حكومات ذات فكرة، أو حيوية سياسية.
الذي تحقق في الاتفاق يبدو صغيرا وإن كانت الحفلة كبيرة، ولكن المهم دلالاته ومستقبله فإن ما يشير إليه أمر كبير. كما أنه ليس نهائيا، ويمكن التراجع إلى بعض ما كان عليه الحال إلا الاعتراف بالبرنامج السلمي فقد حسم، ولو عند غيرهم. وليس لحكومات الخليج مكانة لأسباب عديدة حين يتحاور الكبار لحرص حكومات الخليج على أن تبقى ضعيفة وتابعة وصغيرة.
الخلاصة:
الاتفاق الإيراني ضرورة وليس مجرد حاجة، ولو تنازلت إيران عن النووي نهائيا فتجنبا لما هو أسوأ، وأما إن تمكنت إيران من إنجاز السلاح النووي فقد يعمل هذا على وجود توازن للإرهاب النووي بينها وبين إسرائيل، وسيجلب المزيد من التسلح النووي في تركيا وغيرها. وليس وجود السلاح الإيراني أقل خطرا وضررا من السلاح الاستعماري الصهيوني. وفي حال صدقت إيران في إنهاء مشروعها، فإن حال السلم والمصالحة تفسره حكومات خليجية شرا عليها، وليس الأمر كذلك، لأن مشكلة الموقف من إيران في أساسه مشكلة ضعف حكومات الخليجالسياسي المعروف، فإن الاتفاق إما أن يحسن من حالة التحدي، فتتحسن حقوق السكان، وتتحسن القدرات السياسية، أو تبقى على حالها، فهذه ليست مشكلة الإسرائيليينوإيران، إنها أزمات داخلية عويصة تريد إيقاف العالم مكانه كما هي واقفة: “تأكل القوت وتنتظر الموت”، وهذا لا يقبله آخرون ولا يريدونه.
كما أن بقاء حالة الانتظار الخليجية لدمار الآخرين أو ضربهم دلت التجارب الماضية أنه لا يزيد حكومات خليجية إلا المزيد من التخلف المتزمت، وما شراء السلاح من الغرب إلا مجرد رشاوى للغرب ليبقي حصاره قائما هناك، أو ليبقى كل شيء مكانه، وكل حال كما هو، وليست هذه سنة الحياة، والتجميد إن كان استراتيجة حكومات فإن غيرها يسعى لكسره، لكونه ضررا بالمنطقة وبالجميع، وإن وقفت فإن العالم يَسير ويُسيّر لما يسر ولما يضر. وقد يكون تورط إيران في علاقات سياسية منفتحة مع الغرب يخفف من غلواء شخصيات وأجنحة متزمتة في سلطتها.
” سورية هي المحافظة ال 35 وتعد محافظة استراتيجية بالنسبة لنا.” والهبّة للحج إلى طهران ما هي إلا مظهر للاحتماء والتواصل والغنائم التجارية لمن فشل في السياسة، ولكن هناك من لا يسمح بالتجارة للشعب، ولا يجيد السياسة ويخسر على كل الجبهات؛ حتى تلك التي صنعها دمرها أو تحولت ضده.
20
ومع الاتفاق انتعشت الأسواق المالية العالمية في اليوم التالي للاتفاق، وانتعش السوق وسوق العملة تحديدا في دبي، بحسب وكالة رويتر وارتفعت العملة الإيرانية في اليوم التالي بمجرد الإعلان عن الاتفاق بمعدل 3%.
ثم إن الاتفاق يجعل دولا عطشى للنفط والمعادن والتصدير مع إيران تسعد بكسر الطوق. وهذا سيجعل أسعار النفط تتراجع ولو على مدى أبعد من زمن الاتفاق. وهو مفيد لإيران ومخيف لحكومات النفط، ولا يبدو أنه سيكون الانخفاض كبيرا بسبب حاجة أصحاب النفط الصخري والشركات لارتفاع الأسعار.
21
الاتفاق قد تكون له آثار اقتصادية دولية جيدة، والأثر الاقتصادي لا يعني أنه شر للمنطقة، قد يكون سلبيا على الضعفاء والشعوب المنهكة بالاستبداد وعديمة المبادارات، ولكن تحسن الاقتصاد وتحسن وضع الشعوب عالميا؛ أمر مفيد أن يقوم عالم الوفرة والرزق والصناعة والتجارة، بل إن الغرب يقرض أسواقا وحكومات ومناطق أحيانا على حساب بلاده –مؤقتا- ليبني له في الخارج أسواقا ويحرك اقتصادا يفيده، فليس الموقف الغربي المنفتح على إيران كله لصالحها فقط، بل إن الانفتاح مصلحة للشعوب المتعدية المصالح.
22
ليس صحيحا أن فقر منطقة يعني غنى أخرى، وانتشار الفقر يعني سيادة القلاقل، والشعوب الجائعة تنتقم ولو بالهجرة فقط، وقديوصلها آخرون أو الأغنياء المجاورون إلى أن تكون الحرب آخر ملجأ؛ فليحذر من يكيد جيرانه بإفقارهم أن يصبح هو ضحية حيلته.
23
كتبت النيويورك تايمز في صفحة “التحرير” استنكارا لموقف نتن ياهو وحكومته وانتقدت أيضا الجمهوريين –غالب الناقدين جمهوريون إلا “شومر” فهو من اليهود الصهاينة المتزمتين في ولائه لإسرائيل- في الكونجرس على سعيهم لمضاعفة الضغط والعقوبات على إسرائيل. وأن هذا الاستمرار ومضاعفة الحصار قد يسبب حربا، ويعيق التقدم في المصالحة، وكان تشديد الحصار قد قلل الدخل من النفط الإيراني من 110-120 مليار دولار إلى 40-50 مليار دولار أي أقل من النصف أو حوالي الثلث، ويقر المقال بأن إيران لن تتخلى عن برنامج صرفت عليه المليارات ومنعها من امتلاك السلاح النووي الذي أصبح يمثل رمزا للعزة الوطنية، وأن أمريكا لن تدخل في حرب مكلفة وتهز منطقة مضطربة، وقد التزم أوباما بالإقناع بأن العرض معقول ومقبول لكل الجهات.
24
خدعت أمريكا حكومات عربية خليجية واستنزفت النفط بأقصى ما يمكن للحقول والمعدات استخراجه، واستعملت نفط الخليج سلاحا لتركيع إيران، بحيث يتوافر النفط في الأسواق بكميات هائلة تمنع حاجة السوق العالمية للنفط الإيراني، وحاصرت نفط إيران بنفط العرب وبكل فعالية وتأثير، فلما خضعت إيران فاوضتهم واتفقت معهم، وتركت العرب بنفط مسفوك، ونقد محول لبنوكها، وبلا أمن، وللأسف فهي لما قررت الصلح لم ترسل لهم ولو مندوبا واحدا من باب “جبر الخواطر” ولكن كمية النفط الذي حاربت به أمريكا إيران كان ضد مصالح ومستقبل الشعوب في المنطقة، وسوف يأكله التضخم وآفات أخرى خليجية كثيرة، ولو بقي مخزونا استراتيجا لكان خيرا للمنطقة، لا سيّما في ظل أبحاث كثيرة مهمة تتحدث عن نضوب النفط.
25
الاتفاق قضى على صحة عقائد خليجية كثيرة، منها:
العقيدة الخليجية القائمة على أن مصدر الخوف هو الشعب وليس الخارج، قد تكون هذه الحادثة مساعدة في إعادة ترتيب مراتب الخوف.
نهاية التستر وراء عقيدة إقصاء الشعوب الدائم، فإن التخلي الأمريكي يجب أن يجلب الشعب لعلاقة حسنة مع الحاكم، وليس الهروب من مأمن غربي إلى مأمن إسرائيلي أو روسي أو إيراني وإبعاد الشعب.
نهاية عقيدة أن الحكومة الخليجية وكيلة للغرب ضد خصومه في المنطقة بدءا بالشعوب وانتهاءا بقوى بديلة جديدة.
نهاية عقيدة أن الزبون الذي يشتري السلاح الغربي آمن، لأنه يعمر ويحرك الأسواق وصناعة السلاح الغربي، ولكن يبدو أن الزبون سوف يبقى خائفا يتسول الأمن، وكلما تعرض للتعرية أكثر اقترب واشترى أكثر، فقد لا يبقى وليا فحسب بل خائفا ومستنزفا دائما، وهذا مؤشر توجه السياسة القادمة. ويبقى استذلاله بالمزيد من شراء السلاح، وإن كان سيذهب ليشتري من سوق أخرى كروسيا والصين وربما إسرائيل.
عقيدة أن هذه الأنظمة حليفة أو موالية لأنها تحارب التوجهات الإسلامية والعروبية،عقيدة تستحق إعادة النظر، لأن الغرب أصبح يفرق بين درجات الخلاف، ويعرف أن الإسلاميين لهم الشعبية والقدرة، وأن يوالي بعضهم ضد بعض، أو يقبل بالمعتدلين منهم، وليس من مصلحته بقاء مواجهات دائمة مع الإسلاميين، لأن العالم الإسلامي فهم أن هذا الموقف هو مجرد عداء للإسلام لا لفصيل منه، فوصل إلى نتيجة أن يقبل بوجود تيارات إسلامية حاكمة أو مشاركة في الحكم ولا يخرجها فيزيد العداء له، وحتى لا يبرر هذا عداء المجموعات الأكثر تشددا ضد الغرب، وحتى لا يكثّف عداوتها ويزيد عددها وأنصارها.
قلّت أهمية حكام الخليج كأعداء مجندين ضد التوجهات الإسلامية غربيا، بعد تواصل الغرب تعرفه على تفاصيل الحركات الإسلامية وخصوصا جماعة الإخوان في مصر، ولكن إسرائيل بحكم عدائها لحماس استطاعت تجنيد حكومات خليجية ضد الإسلاميين المعتدلين، فالهرهرة العربية والضجيج ضد الإخوان في الخليج أكثره مجرد صدى لموقف إسرائيلي أولا، ثم لموقف حكومي محلي ثانيا، ومتى عرفنا أن كثيرا من المعونات الخليجية تصرف للمجموعة الفلسطينية الموالية لإسرائيل، وتشارك إسرائيل في الموقف من حصارها لغزة، بل رضيت واستمرت في الصمت أو تأييد الحصار من قبل مذبحة 2008-2009 ومن بعدها إلى اليوم.
انتهى الكثير من فوائد الحكومات الخليجية بكونهم ممثلين للغرب ضد طموحات الشعوب في الديمقراطية والحرية، لأن قبضة الوكلاء الحديدية على الشعوب أنتجت عنفا ضد الغرب، وتبين أن دكتاتورية الحكومات الخليجية ومحاكمها الصورية وفشلها السياسي الظاهر ماهي إلا وجه من وجوه الفساد والنهب وتصاعد الغليان ضدها، وهذا يهدئه في نظر الغرب شيء من الحرية والعدالة، والذي لا يمكن للحكومات التابعة قبوله وهو منطقة خلاف بينهم وبين الأمريكان والأوروبيين، ولكن المصالح تكبت كثيرا ظهور هذا الصوت.
السياسات الخارجية المملاة على الحكومات الخليجية أنتجت تسليمها الخليج لطموحات خارجية كثيرة، كانوا يرونها في مصلحتهم، وساعدوا على تقوية تحالف بين من يرونهم خصومهم كإيران وتركيا. أما شعوبهم فأصبحت أكثر شكا وأقل ثقة في نياتهم تجاه مستقبلهم وحرياتهم، خاصة أن أمن وسياسة الخليج قد تتركه أمريكا لإسرائيل في ظل تغييب الشعوب عن المشاركة.
أنهى هذا فعالية الدوغمائية الخليجية في محاربة كل توجه إسلامي حتى ولو كان سينفعها، أورثت فشلا دائما جليا، ومتوقعا، فقد عادوا الثورة الإيرانية وكان من الأسباب كونها إسلامية، أو لفكرة تصدير الثورة، غير أن السبب الأكبر كونها ضد المصالح الغربية، ونسوا مصالحهم. وعادوا السودان بحجة أن حكومة البشير إسلامية، وبناء عليه أعانت حكومات عربية عبر تجار سلاحها المعروفين –بعضهم فاعل إلى اليوم- جرنج زعيم انفصال جنوب السودان على الانفصال، و وقتها كان الفاعلون في اقتطاع جنوب السودان الكنائس الأمريكية خصوصا وبقية خصوم الإسلام والعرب في السودان وانتهينا إلى مانراه الآن من خسارة عظمى مشهودة في السودان واقتطاع نصفه الغني.
إن الخلط الدائم بين الموقف الأيديولجي الحكومي المناوئ للمصالح العربية والإسلامية مع المصلحة الغربية وأيديولوجيتها تصبح أثقالا على الحكومات العربية متوالية وثقيلة فتضعفها وتسوقها إلى تصرفات متطرفة تودي بمصالحها أولا، قبل الضرر بمصالح العرب والمسلمين.
عقيدة “تدمير الآخرين لنبقى نحن”عقيدة فاشلةٌ تماما، فتدمير العراق والسودان واليمن ومصر لا يعني أنك الفائز حين تدمر جيرانك، إن الإضرار الحاصل أصبح علما على شخصيات معروفة منذ ثلاثة عقود لا تفهم إلا لغة التدمير والاغتيال، وهي تنفذ ما كانت تسمعه عن طريق السي أي أيه زمن الحرب الباردة، متكررة الأساليب باستمرار، ولو عاد عليها وعلى شعوبها بالضرر، فالأطراف نفسها وأحيانا الأشخاص أنفسهم ساعدوا وألبوا وقدموا كل عون متخيل لإسقاط صدام، فبدا الأمر شبيها بقصة تأخير حلق اللحية حتى يسقط صدام المشهورة التي قصّها بوب وود وورد. وانتهى الأمر بإسقاط صدام، وجاءت إيران وأصبحت على الحدود، ليطلق بعض متطرفي الشيعة العراقيين أو الإيرانيين صورايخ جراد منها، والواقع أسوأ من إطلاق الصواريخ، وهكذا تم إهداء أو تسليم العراق لإيران بسياسة عربية خليجية كان من دوافعها رغبة المحافظين الجدد “اليهود” في تأمين إسرائيل، وعبرت الخدعة بتمويل وسياسة عربية، وقل مثل هذا في الانقلاب الذي نرى مؤشرات فشله في مصر، وآثاره السيئة على من أعان عليه، فالانقلاب يتجه نحو جهات معادية لمن موله ورشى له كل جهات عديدة.
ينهي هذا الاتفاق -مهما قالوا إنه صغير- تلك العقلية المزاجيةالفردية التي تدير الأمور ببدائية، وأخذ يشد الجميع نحو مواقف لمصلحة الدول وليس لمصالح الأشخاص الشخصية والعارضة والتابعة. فبعض هؤلاء لا يفرقون بين مزاجهم الشخصي ومصير حكومات وشعوب، إن لك أن تكره أي فصيل في بلدك ولكن أن تكون مصدر تطرف استبدادي وفساد فهذه كارثة على الجميع.
بسبب تمكن الكراهية للإسلاميين وسيطرة العقد الشخصية لم يفكر خليجيون بحركة ولو تمثيلية أن يفتحوا أيديهم لقوى فلسطينية وعربية حقيقية مؤثرة، لتكون سترا لهم من العراء، وعونا لهم عند تخلي الحامي، فليس لهم من الجرأة والشجاعة ما يقربهم لسياسة واقعية، هذا مع آفاق ضيقة وقدرات ضعيفة محزنة، وتركوا زعماء سياسيين ومؤثرين على قوائم المنع من التواصل خضوعا لمطالب صهيونية متطرفة، ولو كانت هناك ذرة من نجابة سياسية لكان الحال غير الحال، ولكن السياسة تموت على أيدي بعضهم كموت الهمم والعقول والمبادرات.
عقيدة الخليج القائلة بأن إسرائيل هي أمريكا، هذه عقيدة مريحة للفكر، وموقف بدائي مهما بدا مبدئيا، وكان من المهم كسر الالتباس، ومعرفة الواقع، لا التبعية العمياء، فالتفاصيل مهمة، وهم يعرفون مسبقا أن هناك كراهية شخصية عميقة بين الرئيس الأمريكي ونتن ياهو.
رد بعض الحكومات العربية بالقول بـ “أن المهم هو النوايا الصادقة أو الطيبة”؛ قول لا معنى له فليس في السياسة تعلق بالنيات بل تعلق بالوقائع ونصوص العقود، وإذا كانت النيات لا قيمة لها في عالم العقود، فمن باب أولى ألا يفكر واعٍ في قصة النيات في التحالفات الدولية، بل هي في عالمنا القوة والقدرة والاستفادة من الفرص.
عقيدة بعض الحكومات أن السياسة هي: تأمين التحالف مع الخارج والقمع في الداخل، سياسة فاشلة ويجب أن تتغير، علاوة على أنها معادية للشعوب في زمن نهوضها، فإن الحكومة القوية هي تلك التي لها علاقة ثقة وتجانس في الداخل، والحكومات المهترئة هي تلك الحكومات القامعة في الداخل والعدائية معه، الودودة مع قوى الخارج، فكلما أظهر الدكتاتور توددا للخارج ظهر تناقضه وعدم الثقة بمسلكه وبمستقبله، وتلك كانت عقيدة قذافية خليجية مشتركة، ولذا عز سقوطه على شركائه في المهنة.
خيار الخليج الذهاب لروسيا ولإسرائيل ليكونا حليفين؛ مجرد خطوة خاطئة وفاشلة أخرى، لأن إسرائيل بعد التطبيع الواقعي مع عدد من الخليجيين تتحدث عن هيمنة قادمة لها على القرار السياسي في الخليج، وهذه ليست أساطير تقال بل حقائق تحدث أمامنا، ولم ننس تحالف مبارك مع إسرائيل في مذبحة غزة المؤسفة في تاريخ كل من سكت أو تهاون أو صمت فضلا عن من شارك.
سوف تبتز إسرائيل الخليج بحجة حمايتهم من إيران موقتا ثم تتركهم بعد استلامها لمقدراتهم وتورطهم في كل شيء، وقد تبين أن الشعوب المسلمة البعيدة وحكومات حرة كثيرة تخالف إسرائيل بينما يواليها ويخنع لها خط عربي قريب وبعيد منها.
خلافات الخليجين عميقة رغم التظاهر، وتجعلهم أقرب للتنسيق مع خصوم الخليج بعضهم ضد بعض.
26
ماذا تستفيد أمريكا والغرب؟
إنهاء حالة عداء مرهق تبين أنه لا يكف الإيرانيين عن تطوير سلاحهم ومواقفهم العسكرية، بل ضاعف المنتجات، وقد تولى أوباما الرئاسة والكمية المخصبة من اليورانيوم كانت قد بلغت ألفي كيلو غرام أويزيد قليلا، والآن بلغت كميةاليورانيوم المخصب حواليتسعة آلاف كيلو غرام. ومما علق به العلماء أنه في حال نجاح التخصيب والتجارب وتمرد إيران على الاتفاقات فإنها تحتاج إلى قريب من سنة ونصف لتستطيع تركيب القنبلة على صاروخ شهاب. كما يرى بعض المراقبين أن الاتفاق هو لمجرد شراء مدة ستة أشهر نحو إنجاز القنبلة. أما أحد شخصيات إدارة أوباما فيقول إنه في الخمسة عشر عاما الأخيرة كان دائما لدى إيران برنامج تسلح سري أو محاولة نووية سرية، ثم إن الأمريكان لا يثقون بأن الحرس الثوري لا يعد سلاحه النووي الخاص. وهناك من يرى أن تأجيل إنتاج السلاح النووي سيكون مفيدا حتى لأمريكا، فكما صرح كرستوفر هيل المفاوض الأمريكي في أزمة نووي كوريا الشمالية؛ “إن خمس سنوات من تأجيل العمل في المفاعل الكوري تستحق المحاولة.”
وقد أنفقت إيران في عام 2012 ستة مليارات على السلاح، وأنفقت حكومات الخليج مائة مليار، وأربعة ونصفالمصر، وإحدى حكوماته هي في السنوات القادمة خامس حكومة في العالم في التسليح، والسادسة بعدها خليجية أيضا، ومع هذا فقد بقي الخليج خائفا يهيم ظمأ للسلاح.
وكان من نصوص الاتفاق: إيقاف التطوير من نسبة 20% إلى أقل من 5% والتمكن من معرفة ما يحدث فعلا في المفاعلات، بمراقبة دائمة على مدار الساعة، وإيقاف منشأة أرك والماء الثقيل بها، وإيقاف استخدام ثمانية آلاف جهاز طرد مركزي تم تركيبها من قبل ولم تبدأ العمل. وهي اتفاقية مؤقتة لستة أشهر ويجري الاستعداد للجولات الطويلة التالية.
حاجة أمريكا إلى إيران في أفغانستان بعد خروجها، والطواقم المدربة والمتعلمة الآن في أفغانستان تدربت أو درست في جامعات إيرانية وشيعية في كابل، إذ استغلت إيران هزيمة طالبان فبنت قيادات وكوادر موالية لها في أفغانستان.
ثم حاجة أمريكا المستمرة لإيران في العراق، وحتى في سورية ولبنان، فقد تبين لها أن التحالف مع الخليج لا يساوي في السياسة ولا في المكاسب علاقتها مع إيران، وهي لن تفقد الخليج الخائف، وهو محتوى في الحضن ولن يفوت،أما مناورات تعلقه بروسيا فهي لا تزيد عن رشاوى عارضة، ولم تعد بعد روسيا لمنافسة الغرب.
الخليج قطع صلاته بالعالم ليرضي أمريكا، ومن الطريف أن حكومة خليجية كانت أيام صدام تمنع التعامل مع المعارضة الإسلامية السنية العراقية، وتقبل بالتعامل مع الشيعة، بل منعت السنة حتى من حقوق مشروعة لهم، هذه البدائية السياسية لم تطقها أمريكا ففتحت الخط مع إيران، خاصّة والسياسيون الأمريكيون تحدثوا بما كان يسوؤها من عدم وجود سياسيين في بعض البلدان لتتفاهم أو تتواصل معهم.
القيادات في منطقتنا يتمتعون بغفلة عن الجغرافيا السياسية، لأن غيرهم لا يريدهم أن يروها، فإن حكومات العرب على شاطئ الخليج حالها يختلف عن موقع وعلاقات إسرائيل وأمريكا فالجوار هنا يعني أن تصوغ نمطا سياسيا يناسبك ويختلف عن رأي إسرائيل ورأي أمريكا. ولو غادرت أمريكا غدا وراء المحيطات فما مقدار تضررها مقارنة بسكان هذه الأقاليم المجاورة لإيران؟ إن هؤلاء للأسف يأخذون المواقف ممن يؤثر عليهم جملة، وينفذونها كما قيلت لهم، ويزيدون كيلة، وهي كيلة المذهب والعنصرية المتبادلة عبر القرون، وهي ظواهر بعضها ثقافية ومنتشرة في كل بلاد الله. فتجدهم ينفذون العداء جملة والولاء جملة، وهذا نمط وافد وغير عملي ولا سياسي ويضر ويسيئ لكل شيء هنا، ولو وقع فيه غيرهم لما كان لائقا بهم ، كيف وهم أغلب من يوقده، ولا يتجاوز شيئا منه.
قطع الطريق على تقوية مجموعة البريكس علاقاتها مع إيران ودول البريكس هي: “البرازيل، وروسيا، والصين، والهند، وجنوب أفريقيا” خاصة أن هذه الحكومات رفضت المقاطعة النهائية وبعضها تناور على نسب تعامل قليلة مثل الهند وبدائل مادية عن الدولار، وهناك خوف من تفكك مجموعة الضغط على إيران.
طالما استطاع أعداء العالم العربي أن يملوا على الحكومات العربية تحديد عدوها بأنه الأفكار في المنطقة، أي الأفكار الإسلامية والقومية، وأي عناصر للحياة والتفكير والتأثير. وقد التزمت حكومات المنطقة التابعة بالعهد وهو إقصاء من كان له رأي أو أي فكرة أو أيديولجية مضادة للمحتل الغربي تحديدا، فهي تواجه اليساريين والقوميين والإسلاميين بالعزل والمنع عن أماكن التأثير والقرار، ولم يسقط هذاالعهد بعد سقوط روسيا، مع أنه كان من موروثات منظومة الحرب الباردة، السوفياتية الأمريكية، هذا العهد والوعد دمر القدرة السياسية في دول المنطقة، فليس كل مثقف بعثيّا ولا ناصريّا ولا إخوانيّا، وهؤلاء ليس كلهم يحملون خلافا حادا مع حكوماتهم، وإذا كان بعض اليسار المغضوب عليه واليمين الغربي تحسنت ظروفه أو تغير فكره فاستطاع وبسبب البيئة الديمقراطية أن يساهم في منظومات بلاده فإن هذا قد حرمت منه الحكومات والشعوب العربية فكانت خلافاتها الحزبية مرضا على وهن، فهي لا تملك الطاقات واستبعدت الموجود والمؤثر.
كما أن حكومات الخليج انشغلت مؤخرا بحرب الديمقراطية في بلدان الثورات، وكان همها كيف تعيد تنصيب الاستبداد على رؤوس الشعوب، فضيّعت العمل السياسي الدولي وضيعت مصالحها لاشتغالها بالإضرار بالعرب الآخرين.
المصالحة بين الغرب وأمريكا تعني تغييرا مهما قادما في أزمة البحرين، فمن غير الممكن استمرار التأزم هذا بعد المصالحة الأمريكية، وربما تتسع مناطق المصالحة إلى سوريةوإلى مناطق عديدة، لأن إيران تتقدم شابة وسياسية واعية ومتصالحة ومرنة وبراجماتية في مقابل مناطق عربية راكدة ويائسة وشائخة وعاجزة عن عرض أي بديل وأي محاولة قادرة على العمل مع غياب تام للمشاركة الشعبية.
27
قبل الاتفاق كانت بعض الدراسات تؤكد أن إيران قد تُغلب مصالحها النفعية على الأيديولوجيا الثورية والدينية، وبهذا يمكن أن تتنازل لإسرائيل وللغرب في مسألة السلاح النووي مقابل الحفاظ على سورية ولبنان مناطق نفوذ لها. وهي بهذا وبما يجري الآن تحقق بقاء مصالحها في سورية ولبنان وتكسر الحصار السياسي والاقتصادي، وتمد نفوذها، ليس إلى الخليج فقط ولكن للحفاظ على أطراف الامبراطورية الممتدة من حدود الصين إلى البحر الأبيض المتوسط، وكان لفشل حكومات خليجية دور في تأسيس هذا الوضع.
28
في إيران هناك صوت شعبي حقيقي وموجود مهما عورض وكبت ويتنفس من وقت لآخر ويؤثر، وهناك معارضة حقيقية مهما أسكتت، ولكنها جزء من الشعب ومن الصوت، وهناك جهات وأحزاب تنقسم بين الموافق والمخالف، وكان خامنئي قد رحب بالاتفاق بحذر، أما التوجه العام فهو تأييد وحفلة شعبية وحكومية عامة وفرحة بالاتفاق، لأسباب الخناق الاقتصادي الطويل، والملل من سياسة التجمد ضد الغرب، وهناك الشباب المتأثر المجذوب إلى نمط للعيش جديد، ولم يعاصر زمن ما قبل الثورة ولا مزاج الانتقام. غير أن أصوات من قبل الباسيج لم تزل عالية، تعترض على الاتفاق، وهناك خوف من هياج أو مظاهرات يسببها محافظون معترضون، ومنهم قريبون من الحكومة ومن المحافظين.
الطريف أن معارضة الكونجرس والسعودية وإسرائيل للاتفاق ساعدت روحاني والمرشد في الإقناع العام بأن الاتفاق مفيد لإيران عندما عارضه خصوم إيران التقليديون. وأيضا فإن من أهم مبررات القبول السائد في إيرانبالاتفاق هو النتيجة وهي الاعتراف العالمي بإيران نووية، وفك الحصار، وكذا الفهم بأن المرشد موافق، ويضغط متشددون إيرانيون بإنهاء كل الحصار، وإلا فإن المخالفين سيضغطون على روحاني للتراجع عن الاتفاق. وسبق للمخالفين أن واجهوا روحاني واستقبلوه برمي البيض والأحذية عليه عند عودته من نيويورك بعد مكالمة أوباما، التي رأوها مهينة لهم. وشبهوا الصلح باتفاق صدام مع الغرب “النفط مقابل الغذاء.” وهذا مشهد من الدبلوماسية الإيرانية المتوازية بين دبلوماسية الخارج وسياسة الداخل. كما أن التقسيم الشكلي للسلطات على ضعفه في إيران يقوي البلاد وينوع الرؤى، وهذا ما تفتقده حكومات الخليج.
29
من المهم ملاحظة أن الثورة الإيرانية ما زال بعض قياداتها يفكر باليسار واليمين ومعسكرات الحرب الباردة، ونتائج تفكيرها، وحكومات الخليج مهما كبرت وتعلمت وسافرت فإنها ترجع إلى عقلية خيمة في الصحراء يهددها غاز من قبيلة أخرى، وصاحب الضجة والعجة نافذ على طريقة القدماء، ولم تدخل بعض منظومات السياسة الخليجية إلى العصر الحديث، فهي ترى الخير في قبيلة الحاكم محضا والشر في القبائل الأخرى محضا، وهذا يمنع قيام مؤسسات ذات قدرة، ويمنع صعود حكومات ذات فكرة، أو حيوية سياسية.
30
الذي تحقق في الاتفاق يبدو صغيرا وإن كانت الحفلة كبيرة، ولكن المهم دلالاته ومستقبله فإن ما يشير إليه أمر كبير. كما أنه ليس نهائيا، ويمكن التراجع إلى بعض ما كان عليه الحال إلا الاعتراف بالبرنامج السلمي فقد حسم، ولو عند غيرهم. وليس لحكومات الخليج مكانة لأسباب عديدة حين يتحاور الكبار لحرص حكومات الخليج على أن تبقى ضعيفة وتابعة وصغيرة.
الخلاصة:
الاتفاق الإيراني ضرورة وليس مجرد حاجة، ولو تنازلت إيران عن النووي نهائيا فتجنبا لما هو أسوأ، وأما إن تمكنت إيران من إنجاز السلاح النووي فقد يعمل هذا على وجود توازن للإرهاب النووي بينها وبين إسرائيل، وسيجلب المزيد من التسلح النووي في تركيا وغيرها. وليس وجود السلاح الإيراني أقل خطرا وضررا من السلاح الاستعماري الصهيوني. وفي حال صدقت إيران في إنهاء مشروعها، فإن حال السلم والمصالحة تفسره حكومات خليجية شرا عليها، وليس الأمر كذلك، لأن مشكلة الموقف من إيران في أساسه مشكلة ضعف حكومات الخليجالسياسي المعروف، فإن الاتفاق إما أن يحسن من حالة التحدي، فتتحسن حقوق السكان، وتتحسن القدرات السياسية، أو تبقى على حالها، فهذه ليست مشكلة الإسرائيليينوإيران، إنها أزمات داخلية عويصة تريد إيقاف العالم مكانه كما هي واقفة: “تأكل القوت وتنتظر الموت”، وهذا لا يقبله آخرون ولا يريدونه.
كما أن بقاء حالة الانتظار الخليجية لدمار الآخرين أو ضربهم دلت التجارب الماضية أنه لا يزيد حكومات خليجية إلا المزيد من التخلف المتزمت، وما شراء السلاح من الغرب إلا مجرد رشاوى للغرب ليبقي حصاره قائما هناك، أو ليبقى كل شيء مكانه، وكل حال كما هو، وليست هذه سنة الحياة، والتجميد إن كان استراتيجة حكومات فإن غيرها يسعى لكسره، لكونه ضررا بالمنطقة وبالجميع، وإن وقفت فإن العالم يَسير ويُسيّر لما يسر ولما يضر. وقد يكون تورط إيران في علاقات سياسية منفتحة مع الغرب يخفف من غلواء شخصيات وأجنحة متزمتة في سلطتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق