الأربعاء، 2 يوليو 2014

مدرسة الأمريكتين لتدريب السفاحين ج2

مدرسة الأمريكتين لتدريب السفاحين ج2


محمد يوسف عدس

(1)
ذكرت في المقالة السابقة أن مدرسة الأمريكتين سيئة السمعة قد تغير اسمها إلى هذا الاسم الجديد:Western Hemisphere Institute for Security Cooperation(معهد التعاون الأمني للنصف الغربي من الكرة الأرضية)، وكان التغيير كما ذكرنا مجرد محاولة التفافية للتخلص من ضغط الجماهير وانتقادات الناشطين في جمعيات حقوق الإنسان الدولية والمحلية.. ومحاولة من الكونجرس الأمريكي لنزع فتيل الغضب وتهدئة المظاهرات، وتخفيف حالة الاحتقان العام التي أثارتها نشر تقارير مفصلة عن جرائم خريجي هذه المدرسة في دول أمريكا اللاتينية.. ولذلك لم يرَ الكونجرس بأسًا من تغيير اسم المدرسة إلى هذا الاسم الجديد ..! .
كذلك تغيّرت أهداف وبرامج التعليم في المدرسة وفق إطار جديد.. ولكنها جميعا في حقيقة الأمر تغييرات في الشكل البرّاّنى فقط ولا تمس الجوهر الجُوّأنيّ.. 
ومن ثَمَّ إذا نظرت في موقع هذا المعهد على شبكة الإنترنت ستجد كلاما جميلا عن: برامج تدريس في إطار المبادئ الديمقراطية والدستور، وأن أهداف المعهد تشتمل على تبادل المعارف والمعلومات، وتحقيق الشفافية والثقة والتعاون، عن طريق تنمية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وفهم تقاليد الولايات المتحدة وعاداتها..
وقد أعاد الكونجرس صياغة أسماء برامج الدراسة على الوجه التالي:
تنمية مهارات القيادة، ومحاربة المخدرات، وحفظ الأمن، والديمقراطية، وإدارة الموارد، والتأهيل لمواجهة الطوارئ، وتخطيط برامج الإغاثة.. ويؤكد الكونجرس على أن تشتمل برامج المعهد على "8ساعات مكتسبة" إجبارية في كل برنامج دراسي تُخصص للديمقراطية وحقوق الإنسان... وأصبح شعار المعهد هو(الحرية والأمن والإخاء)..
ولضمان تنفيذ الخطة بلا تلاعب شكّل الكونجرس مجلس مراقبة تحت اسم:Board of Visitors مهمته مراجعة وتقييم برامج الدراسة وأساليب التعليم والمعدّات التعليمية..
وتتألف عضوية المجلس من: اثنين من رؤساء لجان الخدمة العسكرية في كل من المجلسين التشريعيين، والقائد العسكري المسئول عن التدريب في الجيش الأمريكي، إلى جانب ستة من اختيار وزير الدفاع نفسه، وواحد من اختيار وزارة الخارجية، إضافة إلى عدد من الشخصيات المختارة من كبار الأكاديميين ورجال الدين، وأعضاء من لجان حقوق الإنسان.. ويترأّس هذا المجلس حاليا الأسقف روبرت مورلينو...!
ولكـن رغم كل هذه [الزّفة الإعلامية الأمريكانية] لا تزال أسماء خريجي هذا المعهد تظهر حتى الآن في عمليات إجرامية جديدة، فيها انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان.. ويدافع المعهد عن نفسه بقوله: لا يجب أن تكون أي مؤسسة تعليمية مسئولة عن ممارسات خرّيجيها .. كلام معقول..!
ولكن انظر ماذا يقول الميجور( جُـو بِلير) المدير الأكاديمي السابق في المعهد ، إنه يؤكد أنه: "لم يتم أي تغيير أساسي في المناهج سوى استبدال الأسماء القديمة بأسماء جديدة.. إنهم يدرسون برامج طبق الأصل من البرامج التي كنت أقوم بتدريسها من قبل في المدرسة .. ويستخدمون نفس الكتب الدراسية التي قمت بوضعها.. " .
(2)
تأكيدًا لهذا الكلام حدث الآتي .. كما ترويه لنا ليزا هوجارد Lisa Haugard وهي من أبرز القيادات الناشطة في الحملات ضد المدرسة ثم المعهد:
"في 28 يوليه 1996ظهر تقرير عن فحص كتب دراسية للمعهد كانت تُدرّس في السنوات بين 1981 و 1992 تذكر صراحةً أنه مسموح للمحققين بقتل رجال حرب العصابات وتعذيبهم ، وامتهان أجسادهم واغتصابهم.. وفى 20 سبتمبر1996 اضطر البنتاجون تحت ضغوط الكونجرس للكشف عن كتب تدريب من إعداد الجيش الأمريكي استخدمت بالفعل فيما بين سنة 1987وسنة 1991 في أمريكا اللاتينية، وفى برامج الاستخبارات العسكرية في المعهد وهى مستقاة بحذافيرها من برامج سابقة للمدرسة .." .
وطبقا لنتائج الأبحاث والمقارنات التي قامت بها ليزا هوجارد.. رأينا أن هذه الكتب تعلّم الطلاب آليات القمع البشري، وتحرّض على امتهان حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية.. وفى أنحاء العالم...! 
وتؤكد ليزا هوجارد أن هذه الكتب تشتمل على شرح أساليب بث الخوف .. والاعتقال غير القانوني للأفراد المشتبه فيهم .. وتبيح التعذيب والقتل .. وخطف أعضاء أسر الهاربين الذين لا تُعرف أماكن وجودهم أو إيوائهم، وذلك لإجبارهم على تسليم أنفسهم للسلطات[ وهكذا لم تغادر هذه الكتب صغيرة ولا كبيرة مما يحدث في سيناء وفى غيرها من أماكن إلا أحصتها ، يعنى التطبيق يسير بنجاح على قدم وساق في كل مكان] ..
تقول ليزا هوجارد:
" لقد اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية أن هذه الكتب كانت غلطة...! و بعد أن قامت بتحقيقاتها جمعت الوزارة نسخ هذه الكتب لحرقها .. ولما كانت هذه الكتب قد سبق توزيعها على دول أمريكا اللاتينية طلبت الوزارة سحبها من حكومات هذه الدول ، لأنها حسب زعمها لم تعد تمثّل السياسة لأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية .."
وهنا تسجل ليزا هوجارد في تقريرها ملاحظة بالغة الأهمية حيث تقول: " إن اثنين فقط احتفظا بنسخهما فلم يسلماها للوزارة هما: دافيد أدنجتون و[ ديك تشيني].. " .. ونحن نعرف من هو ديك تشينى هذا .. إنه نائب الرئيس بوش الأصغر.. وصاحب مشروع القرن الأمريكي للسيطرة على العالم ، وكان وراء مخططي حرب أفغانستان وحرب العراق
 (انظر مقالي عنه بعنوان: (ديك تشينى هو الرئيس).
أودّ أن أشير هنا إلى الجهد الخارق الذي تبذله امرأة أمريكية لمحاربة المدرسة المشئومة والمعهد الذي يتابع مهمة مدرسة السفاحين ، ومن غير ليزا هوجارد التي دأبت بلا كلل ولا ملل على قيادة حملات وتنظيم مسيرات ومظاهرات ضد المدرسة ثم المعهد..
وأرى أن من أهم منجزاتها وأبرز وسائلها في حربها الإعلامية أنها تحتفظ بقاعدة معلومات تحتوي على أسماء جميع الخريجين وتتابعهم في كل ممارساتهم الإجرامية في بلادهم .. تحذيرا لكل من يقترب من المعهد أو يحاول الالتحاق به.. وقد أثّر هذا الجهد المتواصل في تغيير أساليب المعهد وسياساته ، فقد أصبح يتوخى الحذر ، ويلجأ إلى السرية في حركاته تجاه العالم الخارجي ، فبدأ يرسل مدربيه سرا إلى الدول [الصديقة..!]
بدلا من استقبال بعثاتها إلى المعهد فيصبح أعضاؤها معرضين للرصد والمتابعة من جانب نشطاء حقوق الإنسان .. وسنعرض نماذج من آثار برامج تدريب الخبراء الأمريكيين فى البلاد الصديقة...
(3)
في مقال طويل يقطر بالحزن والألم والمرارة يتعجب كاتبه من سلوك من نحسبهم (وفقا لوظائفهم) إنهم هم القائمون على تنفيذ القانون، وإقرار العدالة بين الناس، ورعاية حقوق المواطنين، والمظلومين، فإذا بهم يفعلون عكس ذلك تماما ..
المقال للكاتب الصديق الدكتور محمد عباس منشور تحت عنوان (اتخذها ياربّ شهيدة) في موقع العرب نيوز..
يقول مستنكرا: "إما أن ينهاهم الإسلام عن محاربة الله ورسوله والمسلمين أو أن يدفعهم حربهم وطواغيتهم إلى الردة؛ في هذه النقطة بالذات يجب أن يبحث الباحثون: كيف جعلوها تزني وتصلى..؟ وكيف جعلوه يصلي وينكّل بمن يصلى..؟! كيف اجتمع هذا وذاك.. ؟ أي عقار رهيب مثبّـط لمناعة القلب والروح أعطوه لهم كي يجمعوا بين الشيء وضده.. دون عذاب للضمير.. ودون انهيار..؟ ..كان يمكن أن أفهم لو أنهم فعلوا كعسكر أتاتورك ووزرائه.. لو أنهم أعلنوا الكفر وجهروا به.. وارتدّوا عن الإسلام وسخروا منه.. أما أن يجمعوا بين هذا وذاك فأمر محيّر...! وفي بحر الحيرة المتلاطم سقطت البديهيات وتعارضت المسلّمات... والتجأت الأسرة المسلمة للكنيسة لا للمسجد.. للقسيس.. لا للشيخ...!".
والحقيقة أننا جميعا تدور في عقولنا نفس الأفكار ونفس التساؤلات، ولكنني معني أكثر بتأصيل مصادر هذا الخلل المروع في سلوك وشخصيات الأفراد الذين يقومون بتعذيب الضحايا الأبرياء دون أن تهتز فيهم الضمائر والمشاعر الإنسانية ..!! وأعتقد أن في مقالي السابق عن مدرسة الأمريكتين لتدريب السفاحين، جزء هام من الإجابة على هذه التساؤلات، وفى مقالات أخرى سابقة لي إجابات مؤسسة على دراسات علمية لبعض جوانب أخرى لهذه الظاهرة .. تناولتها تحت عناوين مختلفة منشورة في مجلاّت ومواقع كثيرة منها: (الفاشية الناعمة) و(ظاهرة جنجر يتش في السياسة الأمريكية) و (كيف يختار الرئيس المستبد أعوانه) و(تفكيك الشخصية).
وأحاول هنا أن أعيد إلى الأذهان بعض ما كتبته في المقال الأخير تصويرا لما يدور في بعض برامج تدريب الضباط لتحويلهم إلى أدوات تعذيب، فالمسألة يا صديقي الدكتور محمد عباس ليست مجرد عقار سحري لتثبيط مناعة القلب والروح، إنها أعمق من هذا بكثير إنها عملية لاقتلاع الروح والقلب أصلا، وإحلال أنواع من الحجر على هيئة قلوب وأرواح صناعية، واستبدال وجوه إنسانية طبيعية بأقنعة صناعية ، والنتيجة: كائنات ممسوخة لها أظافر وحوش تختفي تحت جلود بشرية ناعمة، ومع ذلك يظنون أنهم يحسنون صنعا، وأنهم حماة الأمن وحماة الوطن..
ولو قُدِّر لك أن تشهد وتتابع كيف تطورت حياة شاب بريء متخرج حديثا من الكلية، مليء بالوطنية والحماس والمثل العليا، ومن أسرة كريمة، ثم ألقاه حظه العثر في واحد من هذه البرامج التدريبية، وكيف تحول أو مسخ في بضع سنوات إلى شخصية أخرى لهالك الأمر ولما صدّقتَ عينيك: تلاشى الوجه البريء .. زحفت عليه تجاعيد الشيخوخة المبكرة، وتناثر في رأسه شعر أبيض.. إنه لا يشعر بالأمن إلا في مكتبه بقلعة التحقيقات الأمنية.. أما في خارجها فقلبه يرتعد كالفأر المذعور.. رغم أن تسعة من الرجال يتناوبون على حراسته كل يوم، ويملئون جعبته بمعلومات مفصّلة عن كل ما يحدث أو يتحرك حول مسكنه ..! إنه يتنقّل في سيارات مرسيدس يتغير لونها من وقت لآخر للتمويه.. فهي مرة بيضاء ومرة سوداء.. ولا تراه يسير على قدميه في الطريق أبدا.. ولا يمكن أن تراه ماشيا مع زوجته أو أولاده .. حتى لا يتعرف عليهم أحد ويترصدهم بعد ذلك.. لا حياة اجتماعية مثل بقية الناس، فلا أصدقاء ولا معارف .. ولا شعور بالأمن..عقله مسكون بالخوف من أعداء مجهولين .. تتقاذفه الشكوك والهواجس وعدم الثقة في كل الناس وفى كل الأشياء.. فهناك عدو أو أعداء بتربصون به في كل ركن وفى كل لحظة.. إنه يمثل حالة مرضية يعرفها علماء الطب النفسي باسم (بارانويا الشيزوفرنيا) أو نحو هذا ..
كم أرثى له ولأمثاله ، فمثل هذه الشخصية تنتهي حياتها عادة بمأساة أو بأمراض مستعصية، وآلام عضوية رهيبة في فراش الموت الطويل.. والعياذ بالله... وتلك بعض آثار برامج تفكيك الشخصية في مجال الإنسان الفرد..
أما في الحياة العامة فإنها كارثة.. إنها تنتج عاهات مستديمة في حياة الأسر وحياة المجتمعات...!
[ فقد لوحظ أن الضباط المتدربين يحملون معهم أسلوب العقاب العنيف نفسه في التعامل مع ذويهم عندما تنشأ الخلافات بينهم .. فهذا هو الأسلوب الذي لم يعودوا يتقنون غيره في مواجهة المشكلات العائلية الطارئة .. وقد ذُكرت أمامي قصة ضابط اختلف مع حماه فجاء به إلى الزنزانة مع حماته وأمرهما بالوقوف ووجهيهما إلى الجدار رافعين أيديهما إلى أعلى لمدة أربع ساعات.. ونعْم النسب..!.
وفى أمريكا ساد العنف في مواجهة المشكلات الأسرية بين ضباط المارينز العائدين من الميدان.. وكثرت حوادث قتل الزوجات والأبناء على أهون الخلافات...!].
(4)
في المقال السالف ذكره (وهو دراسة لبرنامج واقعي تم تنفيذه بالفعل) كتبت أقول: " اشتمل برنامج التدريب على عقوبات رادعة لمن يتردد في إطاعة الأوامر أو التراخي في تعذيب المعتقلين.. وكان التهديد مستمراً: أن كل من يخفق أو يتوانى في إيقاع أشد الآلام بالمعتقلين المُعَذَّبين سوف يتعرض هو نفسه للتعذيب الأليم.. كذلك كان الضباط يحرّضون المتدربين على أن يكون كل واحد منهم جاسوساً على الآخرين.. ويشجعونه على تقديم تقارير عن كل بادرة من زملائهم إذا تراخى أحدهم عن تعذيب المعتقلين...
من ناحية أخرى كان هناك إلى جانب العقوبة والعصي جزرة مؤكدة، فقد كان القادة يفاخرون بالمبتدئين ويقولون لهم: كم أنتم محظوظون لأنكم أصبحتم أعضاء في مجموعة الأقوياء المهمين الذين يدافعون عن النظام.. ويوحي إليهم القادة بأنهم قد أصبحوا من صنف آخر من البشر لا يخضعون للأخلاقيات والفضائل السائدة بين العوام.. وأن لديهم (بحكم وضعهم الجديد) حصانة أن يتصرفوا بجرأة ضد أي شخص ولو كان من الضباط الأعلى رتبة إذا تشككوا في ولائه للنظام...
كان شعورهم بالانتماء إلى مجموعة خاصة من النخبة المتميزة يتأكد من خلال اللغة الخاصة المتداولة، والمحاضرات اليومية التي يجرى فيها التأكيد على خطورة الأعداء الذين يحاربهم النظام .. وأن هؤلاء الأعداء ليسوا إلا ديدان وحشرات ينبغي سحقها بالأقدام.. كانوا يطلقون على أساليب التعذيب المروِّعة أسماء لطيفة تجعلها محبّبة إلى قلوب القائمين بالتعذيب: فالضرب العادي لأحد المعتقلين باللكمات الجماعية هو "حفلة شاي" أما إذا كان الضرب المطلوب بالعصي الغليظة فهذه "حفلة شاي بالجاتوه"... وهكذا نجد بين هذه المجموعة الخاصة قاموس مصطلحات خاص بها، ورموز خاصة، ولغة تعبير مختلفة عن بقية الناس.. الضحايا لهم أرقام وأوصاف مختلفة معروفة فقط لأفراد المجموعة.. إنهم مجرد أشياء وسلع للتداول بل للسخرية والتندّر.. ولا حصر لما نسمع من مساخر في هذا المجال...!
الطاعة التامة والإخلاص في تنفيذ أوامر الضابط المختص هما المعيار الذي توزن به كفاءة القائمين بالتعذيب، فالذين يثبتون طاعتهم وإخلاصهم على طول الخط يُعفون من قواعد النظام الصارم الذي تخضع له حياة الجنود العاديين؛ حيث يُسمح لهم بإطالة شعر الرأس كما يحلو لهم ، وأن يغادروا المعسكر حين يرغبون دون استئذان أو تصريح.. وأن يستخدموا السيارات الرسمية لقضاء شئونهم الخاصة ، ويستطيعون الحصول على وجبات غذائية متميزة بالمجان من المطاعم .. وكانوا يحصلون على وعود مؤكدة بمنحهم وظائف مدنية محترمة بعد انتهاء مدة الخدمة العسكرية..
(5)
منظومة متكاملة:
هكذا نجد أنفسنا أمام منظومة حياة كاملة مقطوعة الصلة تماماً عن سياق الحياة العامة العادية.. منظومة لها أسرارها وقوانينها الخاصة ولها لغتها ومصطلحاتها الخاصة.. ولها قيمها ومعاييرها وأساليبها في العمل مختلفة عما تعارف عليه الناس في المجتمع العام.. والوظيفة الوحيدة لهذه المنظومة هي القمع والتعذيب، فيها تتم صناعة فئة من البشر ليكونوا آلات تعذيب وحشي إلى حد إزهاق الأرواح.. أدوات تجرّدت من العقل والشعور والضمير، ثم أُطلقت على طائفة أخرى من البشر قُدّر لهم – بلا ذنب ولا جريرة – أن يخضعوا لأهوال من التعذيب وأصناف من الآلام البدنية والنفسية المروعة .. لا حدود لها ولا أمل في توقّفها .. لا شاهد هناك يشهد ولا قانون يردع .. فالقانون الوحيد السائد هو قانون الغاب: المفترس والفريسة ، القاتل والضحية معا وجها لوجه.. ولا ثالث يقف حائلا بينهما...! فهل يمكن أن نتحدّث هنا عن قلب ومشاعر وضمير...؟!.
إذا لم تكن مقتنعا بعد فتعال معي نقلّب بعض صفحات من كتابي (البوسنة في قلب إعصار) لنرى بعض النماذج الوحشية في التطبيقات العملية لبرامج التدريب الصربية في حرب التطهير العرقي ضد المسلمين.. أقول: "في القرى والبلدات التي كان يعيش فيها الصرب الأرثوذكس والبشناق المسلمون جنبا إلى جنب في وُدّ وسلام، جيرانا متعارفين ومتعاونين، كان المدنيون الصرب في أول الأمر يستنكرون ما تقوم به المليشيات الصربية المسلحة من أعمال عنف وإرهاب ضد السكان المسلمين .. فلما دخلت المليشيات الصربية بلدتهم انقلبت الأمور رأسا على عقب .. فما الذي حدث...؟! لمّا رفض السكان الصرب الانضمام إلى هذه إلى المليشيات كان قادتها يقتحمون بيوت الرافضين عُنوة فيخرجون رجلا من الأسرة ويقدّمون إليه سلاحا .. قد تكون بندقية أو مجرد سكّين حادّ .. ثم يأمرونه بالذهاب فورا إلى منزل جاره ليقتله، فإذا امتنع الرجل قتلوه بالرصاص أمام أسرته وبصقوا عليه.. ويعترف جنود المليشيات الصربية للصحفيين الأجانب باستهانة واستخفاف شديدين
 [بأن قتل اثنين أو ثلاثة من الصرب الرافضين كفيل بجعل الرابع والخامس يُذعن للأوامر بلا مناقشة .. بل يأتي الواحد منهم إلينا بعد أن قتل جاره ليسألنا: من تريدوننى قتله من المسلمين ..؟؟].. وهكذا بمجرد أن يمارس الشخص العادي عملية القتل مرة أو مرتين حتى يدخل في دائرة العنف الجهنمية التي لا تنتهي عند حدّ.." ، فقط لي هنا ملاحظة في تفسير هذه الظاهرة الصادمة .. وهى أن الإنسان العادي يمكن تحت [ظروف معينة] أن يتحول إلى كائن شرس مفترس حتى لجيرانه .. وتتميّز هذه الظروف بانهيار الضبط الاجتماعي؛ فعندما يرى المجرم أن السلطة التي يفترض فيها أنها تنفذ القانون وتحمى أفراد المجتمع من العدوان هي التي تشجع وتأمر بارتكاب الجرائم ضدهم..! تتغير كل قيم الدنيا في عينيه .. فماذا يحدث بعد أن يرتكب القاتل جريمته وهو يعلم أنه لا يترتب عليها أي عقاب، بل يلقى التشجيع والاستحسان..؟! هنا تكون كل القيم الأخلاقية والاجتماعية التي نشأ عليها في أسرته وتربّى عليها في المدرسة والمجتمع قد انهارت تماما، وحلّت مكانها أوامر السلطة الجديدة التي تدعّم سلوكه.. لقد أصبحت سلطة الإرهاب والعنف والاستبداد هي مرجعيته المقدّسة ... لعل هذا يفسر لنا الكثير من حوادث التعذيب والعنف والقتل التي يمارسها بعض أفراد الشرطة في مواجهة الأهالي لأوهى الأسباب وبلا أسباب على الإطلاق.. ثم يقال في تبريرها إنها حوادث فردية..! لا .. هذا مجرد هراء.. ويجب بحث الأمور بجدية أكثر قبل أن يكتسح الجميع طوفان العنف والفوضى.. فالمجتمع كله على حافة الهاوية...!
(6)
سألني بعض القراء أين يجدون مقالاتي؟؟ والحقيقة أنها مبعثرة في مواقع كثيرة ولكن يمكن الوصول إليها ببساطة عن طريق جوجول: فقط اكتب اسم المؤلّف كاملا ثم عنوان المقال المطلوب.. كذلك سأل أحد القراء هل من مخرج من هذا البلاء أم أنه قدرٌ أبديّ لا فرار منه..؟ 
وأقول: إن الله الذي قدّر الهوان والشقاء والمذلّة، على المتهاونين المتكاسلين السلبيين المستسلمين، هو هو نفسه الله الذي قدّر العزة والكرامة والنصر للمجتهدين المناضلين العاملين، الرافضين للظلم والاستبداد، والصابرين على التضحيات والأذى في البأساء والضّراء..
لقد أطلق ابن الخطاب واحدة من عباراته الخالدة حين قال:
" يعجبني الرجل إذا سيمَ الخسفَ أن يقول لا.. بأعلى صوته" .. تصوّر لو أن مليونا واحدا من ثمانين مليون من البشر في نفس واحد ولحظة واحدة صاحوا بأعلى أصواتهم جميعا: [لا .. ]
لزلزلت الأرض تحت أقدام الطغاة.. {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم} تلك هي القاعدة الذهبية والقانون الإلهي الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل.. كذلك يجب أن نفهم أن نصف الطريق إلى حلّ أي مشكلة هو وضع المشكلة وضعا صحيحا .. بحيث يتم فهمها فهما صحيحا من أكبر عدد من الناس .. وبذلك تحتشد الإرادات الجمعية في طريق المقاومة والتغيير الصحيحين ..
وتلك هي مهمة الكاتب والمفكر والمثقف المخلص..
 يجب أن نفهم على وجه التحديد من هو العدوّ الحقيقي الذي يريد تفكيك هذه الأمة إلى قبائل وطوائف وأعراق متعاكسة متصارعة متقاتلة..
فإذا لم تكن أمريكا والكيان الصهيونيّ على رأس هذه القائمة ووجدْت أسماء أخرى مما ترشّحه لك وسائل الإعلام الناطقة بلسان السلطات المستبدّة .. وتروّج له فرق المنافقين والمرتزقة وأصحاب الهوى والمصالح .. وأنصاف المتعلمين .. وأشباه المثقفين.. والمتفيهقين ..
إذا وجدت هذا فيجب أن تراجع أولوياتك فورا لأنك واقع في خطأٍ جسيم..
يجب أن نفهم أن الحرية لا ينالها إلا الذين يسعون إليها وهم مستعدون لخوض التضحيات من أجلها ، فإذا لم تتحقق لهم في حياتهم القصيرة فإنهم بتضحياتهم قد وفّروا على أبنائهم دفع ثمن أغلى للحصول على الحرية المؤجّلة..

أقرأ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق