الجمعة، 24 أبريل 2015

حسام الغمري يكتب : كيف تغير المصريون في الخارج ؟


حسام الغمري يكتب : كيف تغير المصريون في الخارج ؟


قبل أكثر من عشر سنوات انتقلت للإقامة في مدينة الشيخ زايد قادما من أحد الأحياء المزدحمة في محافظة الجيزة ، وحين ذهب لشراء بعض لوازم المنزل من ماركت قريب من الشقة حيث أقمت لاحظت شيئا غريبا لم اعتده داخل حدود القاهرة الكبرى القديمة حيث كنت اتنقل للعيش في احيائها المتباينة منذ عام 1989 ، ذلك الشيء هو ان المصري الذي يدخل الماركت في مدينة الشيخ زايد لا يبدأ في التحدث الى البائع الا بعد أن ينتهى تماما من طلبات ” الزبون ” الذي سبقه في الدخول الى الماركت ، وهكذا اختفى صياح الدجاج الذي كنت اشفق على كل بائع مصري منه حين يتحدث اليه جميع زبائنه بطلباتهم في آن واحد .

لماذا تغيرت سلوكيات المصري في المدينة الجديدة ؟ – هكذا سألت نفسي – قبل أن أجيب عليها قائلا : ان المصري في الوادي الضيق يعاني من ثقافة الزحام التي تراكمت بداخله جيلا بعد جيل ، ومن ابرز ملامحها التدافع الذي بلغ ذروته بين المصريين في السنوات الأخيرة ، فلا فرصة لك كي تمر الا بدفع من بجوارك بعيدا عن مسارك ، وتتجلى هذه الظاهرة في القطارات المزدحمة وامام بائع الخبز ، ثم تطورت الى التحرش الذي بدأ في الباصات المزدحمة وانتهى في كل مناحي الحياة .

فلقد غادرت مصر وهي بلد المتحرشين

المدرس يتحرش بتلاميذه من أجل الحصول على درس خصوصي

والطبيب يتحرش بمرضاه فيصف لهم الدواء الذي تنتجه أو تستورده شركة تمنحه امتيازات اما مالية أو عينية

ونفس الشيء يفعله المهندس والمقاول والبائع ، والفنانة التي تتعرى حتى تجذبك الى السينما حيث يعرض فيلمها.

نفس الشيء فعلته الأحزاب والتيارات السياسية التي تحرشت بالتيار الإسلامي حتى أبعدته عن الحياة السياسية ثم الاجتماعية والثقافية، حيث تعد 30 يونيو ابرز مثال من أمثلة التحرش والتدافع الذين أصبحا من الثقافات الأساسية في المجتمع المصري .

والشرطة في مصر تتحرش بالجميع بأوامر من الجيش قائد أوركسترا التحرش في بلادي ومؤلف نوتته الموسيقية

وهكذا صارت بلادي أوبرا تحرش كبيرة .

ولكن الشيء الجيد ان هذه الثقافات الناتجة عن الزحام والفقر مكتسبة و ليست أصيله ، لذا يستطيع المصري التخلص منها بمجرد اقامته في الخارج حيث يكتشف ان الإنسانية والمدنية قد ذهبتا بعيدا عن ذلك الذي يراه يوميا في المدن المصرية وقد صار جزء منه يوما دون أن يشعر ، ومع الوقت تكسبه الحياة الجديدة في الخارج أو بمعنى أدق تقشع عن نفسه غبار الحياة في مصر بما تتطلبه من مهارات التدافع اللازمة للبقاء في مجتمع صممه اعداؤه كي يبقى كذلك ، فتضيع شوكته ، ويصبح بأس المصريين بينهم كبير ، هذا البأس هين على اعدائهم .

لذا حين اسمع عن مصريا ينعت نفسه داخل مصر بالليبرالي أضحك حتى الثمالة لان الفكر الليبرالي بنى على الشعار الذي أطلقه الفيلسوف و الباحث الاقتصادي آدم سميث ، دعه يعمل دعه يمر laissez faire laissez passer ، بينما ثقافة التدافع المكتسبة في مصر انشأت حزبا واحدا شموليا هو حزب المنفسنين أعداء النجاح .

وهذا الشعار لا يختلف في جوهرة عن حديث النبي صلي الله عليه وسلم الذي يقول : ” عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى “

قال لي صديق عزيز لا أشك في صدقه واسلامه انه بصدد شراء مسكن له في مدينة أوروبية حيث انه لم يعد قادرا على العيش في القاهرة حتى بعد زوال الانقلاب – ان شاء الله – لأسباب تتعلق بسلوكيات المصريين العاديين أنفسهم – فهو كما قال لي – لم يعد يحتمل ان يدفع عربونا لاحد العمال لإنجاز أمر ما ثم يبدأ في مطاردته هاتفيا حتى يتم له ما اتفقا عليه ، وبعد فترة يضطر الى التودد له واسترحامه حتى يلتزم بموعد واحد من المواعيد التي يضربها على نفسه ، هذا بالنسبة للعمال ، فما بالك ان دفعتك اقدارك الى التعامل مع القطاع الحكومي لا سيما القطاعات التي تديرها وزارة الداخلية وما أكثرها في مصر ، أما لو جننت وفكرت في الاستثمار في مصر دون ظهير من ” كبارات البلد ” يسهل لك الحصول على أبسط حقوقك ، فمصير شركتك الى الزوال لا محالة لان التنافس الوحيد المسموح به في مصر هو التنافس على استرضاء هؤلاء الكبار وكسب ودهم مهما كلفك الأمر من وقت ومال وربما أشياء أخرى تأباها نفس الحُر .

هذا الصديق لا ألومه مطلقا على ما قال ، فالله سبحانه لا يكلف نفسا الى وسعها ، ونحن قد تركنا حكم العسكر ليفعل بنا الافاعيل عبر عقود حتى بهتت ملامحنا وذابت صورة المصري الراقي التي كانت تعكسها أفلام الاربعينات ( صدقني يا إبراهيم افندي ) لتطل علينا صورة المصري الجديد وهو اما اللنبي أو الألماني .

والفرق بين الحياة خارج مصر والحياة داخلها هو فرق في الأصول لا في الفروع

فالأصل في الحياة خارج مصر ان النظام يعمل على جعل الحياة أكثر يسرا ورفاهة بالنسبة اليك مع الإصرار على حفظ النظام العام بصرامة و تفهم .

بينما الأصل في الحياة داخل مصر ” انه يطلع تيييييييييت ” اذا اردت فعل أي شيء قانوني أو الحصول على أي حق طبيعي من حقوقك ، ” وكده كده النظام باقي ومستقر يا روح تييييييييت ” أما الصرامة في تطبيق النظام فتعتمد على مقدار اقترابك من أهل السلطة .

ففي مصر فقط تستطيع ان تقتل دون ان تخشى القضاء ان كنت واحدا من أسياد البلد أو على علاقة وثيقة بهم .

و في مصر فقط تصارع حتى تتم يومك ، وان مر دون حصول كارثة تحمد الله قائلا : الحمد لله اليوم عدى على خير .

وهذا يصيبك بقدر كبير من التشويش في الأفكار ويجبرك على بذل واستهلاك قدراتك الذهنية في البديهيات ، بينما في الخارج فإن طاقاتك توجه فقط صوب العمل والابداع ولا تصارع مطلقا من أجل الحصول على كل ما يجب على الانسان الحصول عليه لأنه ولد انسانا ، وهكذا تتضح امامك كافة الصور بفصل تام للألوان ، فترى الأبيض كما خلقه ربه ، وترى الأسود على حقيقته ، تستمتع بالأخضر والازرق ، وتتباهى بباقي الألوان .

لذا لا أشك مطلقا ان الاعلام المصري الذي ولد خارج مصر سيقفز قفزات واسعة في الشهور التالية ليضع خلفه بخطوات اعلام السيسي مهما كان حجم المليارات التي تنفق عليه ، وقد يكون انعكاس هذه التجربة على الداخل هو أكثر ما يخشاه النظام العسكري ، لذا لا تتوقف حملاته التحريضية ضد قطر تارة وضد تركيا تارة أخرى بأمل وأد هذه التجربة الوليدة التي أبشر شركائي فيها بأن التاريخ سيحكي عنها يوما بسطور من نور .

وأخيرا أقول لك عزيزي المصري ، ان كانت لديك فرصة الخروج من مصر فلا تتردد ، اما ان كنت مضطرا للبقاء فيها فاجعلها مكانا يصلح للاستخدام الآدمي .

والله من وراء القصد

وهو نعم المولى ونعم النصير

حسام الغمري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق