الأربعاء، 22 أبريل 2015

قراءة في "فقه التغيير".. من وحي الأحداث الأخيرة


قراءة في "فقه التغيير".. من وحي الأحداث الأخيرة

نبيل الفولي
أكايمي وباحث مصري


من اللمسات التجديدية الرائعة التي قدمها الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في مجال الفقه الإسلامي أن نستحضر التاريخ وتجاربه المتراكمة ونحن ننظر في القضايا والنوازل الجديدة والمتجددة، خاصة قضايا الأمة الكبرى والعامة، يقول "يخيل إلي أن هناك نقصا في تفكيرنا الفقهي يجب تداركه على ضوء ما وعينا من تجارب تاريخية، وعلى ضوء ما وعى العالم كله من كفاح للطغاة والمستبدين" (معركة المصحف ص 90).

وأحسب أن ثمة معالم ثلاثة أساسية تمثل محددات هذه المسألة، وهي:

الأول: تكرار التجارب في الحياة الإنسانية يؤكد سننا معينة يجب على الفقيه والمفكر مراعاتها وفهمها بعمق، ويفيد الفقيه في هذا أن يدرس جيدا -إلى جانب العلوم الشرعية واللغوية اللازمة- "فلسفة التاريخ" و"فلسفة القانون"، وكذلك "علم الاجتماع"، لما فيهما من زاد معرفي ينبغي أن يكون حاضرا في العقل الفقهي المعاصر.

الثاني: التجارب التاريخية ذات التأثير العميق والمتنوع -وإن كانت صغيرة- أولى بوقوف المفكر والفقيه عندها من التجارب المفتقدة لهذه الخصائص، مهما تكن ضخامتها. وهذا درس يعلمنا إياه القرآن ذاته بما سجل من حوادث وما ترك منها.
 
الثالث: الأحداث الجارية جديرة بالاعتبار كالأحداث التاريخية الماضية، فهي الواقع وعالم الوعي الفعلي الذي يجب حضوره في واعية الفقيه والمفكر.
نقد الصورة التقليدية
"تكرار التجارب في الحياة الإنسانية يؤكد سننا معينة يجب على الفقيه والمفكر مراعاتها وفهمها بعمق، ويفيد الفقيه في هذا أن يدرس جيدا -إلى جانب العلوم الشرعية واللغوية اللازمة- "فلسفة التاريخ" و"فلسفة القانون"، وكذلك "علم الاجتماع"، لما فيهما من زاد معرفي ينبغي أن يكون حاضرا في العقل الفقهي المعاصر"
ولعل من أخطر القضايا التي يجب فقهها وفهمها في سياقات التاريخ والتجارب الاجتماعية الإسلامية وغير الإسلامية: فقه تغيير المنكر، أو "فقه التغيير" مطلقا، وهذا ما أحاول الوقوف أمامه هنا، لا لكي أقدم فتاوى جاهزة تخرج عن دائرة تخصصي العلمي، ولكن لأحدد الخطوط العامة لهذا التغيير بصورة تبدو للناظر متكاملة أكثر مما في الطرح التقليدي للقضية.

لقد ركز الفقهاء والدارسون عند نظرهم في هذه الفريضة على المنكر ذاته من حيث طبيعته وحجمه، وتبع ذلك حديث طويل عن الإنكار على ذوي السطوة والسلطان وشرائطه، والخروج على الحاكم الظالم بالسلاح وحكم الشريعة فيه.

كما اهتموا كثيرا بالنظر في المآل، فاشترطوا ألا يجر التغيير إلى منكر أكبر، وتبع ذلك تصور تغيير المنكر -في غالب الأحوال- على أنه عمل فردي وفوري، كما تبعه ربط "خفي" بين حجم المنكر ووسيلة تغييره، بمعنى أن المنكر الكبير تغيره وسيلة كبيرة، وإلا كان العجز عذرا لنا، وهذا ما لم تقله الشريعة في آية ولا حديث.

والحقيقة أن النظرية الإسلامية في تغيير المنكر حين نريد صياغتها من النصوص تبدو معالمها بهذه الصورة المعروضة ناقصة، فحجم المنكر -مع أهميته- ليس هو الأساس في المشكلة، كما أن خوف المنكر الأشد هو حد شرعي صحيح، إلا أنه مثَّل -تاريخيا- نقطة حرجة منعت في كثير من الأحيان، لا من تغيير المنكر فحسب، بل حتى من الإعداد لتغييره، أو اختيار وسيلة أخرى أكثر ملاءمة له، ومن هنا ساغ أن يتكلم الفقهاء عن حالات يسقط فيها التكليف بتغيير المنكر، بل يصبح عندهم حراما!

كما أن نظرتنا إلى التاريخ وتحليلاتنا لأحداثه تأثرت بقوة بتلك الاعتبارات، فصرنا نتكلم عن التجارب الفاشلة في تغيير المنكر دون الناجحة، فتكلمنا كثيرا عن فشل ابن الأشعث ومن معه من العلماء في خلع الحجاج وكف ظلمه عن الناس، وفشل ما أسموه "ثورة ابن الزبير"، وتكلمنا طويلا بل أقمنا المناحات على مقتل الحسين رضي الله عنه ومن بعده زيد بن علي بن زين العابدين ومحمد النفس الزكية في مواجهة عسف السلطة الأموية ثم العباسية.

وفي المقابل، نسينا أن إزالة صلاح الدين الأيوبي الدولة الفاطمية في مصر في القرن السادس، وقضاء يوسف بن تاشفين قبله على دول الطوائف في الأندلس، وخروج عبد الرحمن الداخل على الفوضى الضاربة في الأندلس قبلهما حتى جمع الجزيرة تحت راية واحدة، وغيرها كثير، هي تجارب من نفس النوع، ولكنها كانت ناجحة.
ماذا يقول التاريخ؟
"كان الثمن الذي قدمه الجزائريون فادحا جدا، لكن النجاح في تحقيق الهدف لم يجعل موت مئات الآلاف من الناس وتدمير القرى وتخريب المدن منكرا أشد من الاحتلال، وأحسب أن الإخفاق -لو حدث- ما كان ليقلل من قيمة هذا الحكم"
دعنا قبل أن نحدد معالم النظرية التي تبدو -فيما أرى- أكثر استيعابا لفهم مسألة التغيير، نقف مع التاريخ وقفات قصيرات نقدم بها للتنظير المقصود، لأنها مدخله وأداته إلى جانب النصوص الشرعية نفسها.
في الهند، تبنى السلطان الأمي جلال الدين أكبر (ت 1014هـ) فكرة "الدين الإلهي" الذي زعم أنه نسخ دين الإسلام وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بمناسبة بداية الألفية الثانية للهجرة، وتضمن هذا الدين عقائد وثنية، وشعائر منقولة عن الهندوس، وعطل أركان الإسلام الأساسية.

وهذا كفر صراح وبواح لا تأويل له ولا اختلاف في توصيفه، فهل يجب في هذه الحال الخروج على السلطان بقوة الجيوش والسلاح؟ الإجابة التقليدية: نعم إن استطعنا، وما لم يجر ذلك إلى منكر أشد، وإلا فنحن معذورون!

إلا أن ما جرى في التاريخ سيمنحنا خبرة أخرى للحصول على تقعيد عام للمسألة لا يعطينا إجابة جاهزة بقدر ما يفتح بصائرنا على أبعاد للمسألة غير حاضرة في الإجابة السابقة، فقد قام الإمام أحمد بن عبد الأحد السرهندي وتلاميذه في وجه الطوفان، فتواصلوا مع الشخصيات المؤثرة في الدولة، وعملوا على تصحيح عقائد الجماهير وحراستها من التشويه الزاحف، ودرّس الشيخ وعلّم في السجن وخارجه، وتحمّل وصبر، حتى صارت للحق أركان تحمله، فمات مشروع جلال الدين أكبر بموته.
فهل يعني هذا الحرمةَ المطلقة للخروج على الظلمة والمجرمين والسفاحين من الحكام والولاة، وأنه يجب أن نسلك طريق التعليم والتربية في كل حال؟

الإجابة: لا بالطبع، فليست هناك وسيلة جاهزة لكل حالة بحسب ضخامة المنكر أو ضآلته، والجيل الذي يواجه الأزمة أو "المنكر" عليه اختيار الوسيلة المناسبة في ضوء فهم عميق للواقع ومعطياته، وهنا تبدو الخبرة العملية والواقعية هي صاحبة الوظيفة الأولى في اختيار وسيلة التغيير، وليس فتوى الفقيه.

وإذا عطفنا على مرحلة تاريخية أخرى، وهي النصف الأول من القرن الماضي، سنجد أننا أمام واحد من عباقرة التغيير في التاريخ، وهو الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، إذ لم يكن هناك خلاف شرعي على وجوب إخراج المحتلين الفرنسيين من الجزائر بكل وسيلة ممكنة، لكن فقه الرجل للحالة الجزائرية والأوضاع الدولية في عصره جعلته يتعلم أن تشكيل القاعدة الاجتماعية التي تتحمل مسؤولية المواجهة مع الاحتلال هو أول الواجبات، وأنه بدون ذلك فالمقاومة ومحاولة تغيير المنكر عمل بلا حصيلة ولا جدوى.

ونجح ابن باديس في ما رامه، وتشكل هذا الجيل الذي قدم -بعد وفاة إمامهم الكبير- زهرة أبنائه ثمنا للحرية، وجاد على الدنيا بأكثر من مليون شهيد.
"تؤكد تجربة الثورات المجيدة، إضافة إلى ما ذكر من معان، أن المجتمع مسؤول عن اجتهاده في اختيار وسيلة التغيير، فما دام قد بذل جهده في اختيارها، وتحمل مسؤولية اختياره في كل حال، فقد أعذر إلى الله تعالى أولا، ثم إلى التاريخ"
وهنا نرجع إلى فكرة تقييم التجارب التغييرية في عالمنا بناء على فهمنا الصحيح لنظرية تغيير المنكر، فقد كان الثمن الذي قدمه الجزائريون فادحا جدا، لكن النجاح في تحقيق الهدف لم يجعل موت مئات الآلاف من الناس وتدمير القرى وتخريب المدن منكرا أشد من الاحتلال، وأحسب أن الإخفاق - لو حدث- ما كان ليقلل من قيمة هذا الحكم.

والأصل أن العقلاء -الذين يعون مثل هذه الدروس- لا ينبغي أن يغيروا رأيهم في شهداء مقاومة الاستعمار والاستبداد إن فشل هؤلاء المقاومون في تحقيق أهدافهم، ما داموا قد سعوا إلى قراءة المشهد قراءة دقيقة قدر الإمكان، ولم يدفعهم إلى اختيار الوسيلة نزق وسفاهة، أو استسلام ويأس.

أخيرا، ننظر في صفحة الواقع القائم أمامنا، أعني صفحة الربيع العربي بإنجازاته وأزماته، فقد خرجت الجماهير خلال ما مضى من سني العقد الحالي من القرن الـ21 في عدة دول عربية تغير منكرا طال بقاؤه في أوطانها في صورة ديكتاتوريات حاكمة وفساد مسّ شره الكبير والصغير، وكانت وسيلة التغيير الأساسية التي اختارتها الجماهير هي التظاهرات الغفيرة والاحتجاجات الحاشدة ومطالبة المستبدين بالرحيل.

وقد آتت هذه الوسيلة في بدايتها أكلا طيبا في تونس ومصر ومن بعدهما اليمن، إلا أنها انقلبت إلى حرب ضروس في كل من ليبيا وسوريا ومن بعدهما اليمن، ثم تعقدت الأمور في جملة هذه الأقطار، وما زال الصراع فيها محتدما بين الشعوب الباحثة عن الحرية وخصومها.

وتؤكد هذه التجربة المجيدة، إضافة إلى ما سبق من معان، أن المجتمع مسؤول عن اجتهاده في اختيار وسيلة التغيير، فما دام قد بذل جهده في اختيارها، وتحمل مسؤولية اختياره في كل حال، فقد أعذر إلى الله تعالى أولا، ثم إلى التاريخ.

معالم منسية
وكي ألملم أطراف الموضوع في هذه العجالة في ضوء ما سبق، ألخص أهم جوانب النظرية الإسلامية في التغيير -كما بدت- فيما يلي:
(أ‌) الأمر بالمعروف وفعله وإشاعته أكبر مدخل للنهي عن المنكر، فالشريعة التي عاقبت على مجرد التكلم السالب في الأعراض، وأوعدت من "يحبون" شيوع الفاحشة في الذين آمنوا بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، هي شريعة تحب أن تكون أجواء المجتمع نظيفة، وهواؤه الأخلاقي كله طهورا. ومن هنا لا يبدو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجرد تصرف فردي في موقف عابر، بل هو سمت أمة وعلامة مجتمع: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.
"إن رياح التغيير التي حملتها الثورات العربية ما سكنت إلى الآن، بل تعيش جدلية الوسيلة الملائمة، لا جدلية التغيير نفسه، وهي قد تحملت نتيجة اجتهادها في اختيار الوسيلة فيما سبق، وإن كان تمسك الفساد والاستبداد بسلطته قد دفع إلى تحويل الاحتجاجات إلى مجازر وحروب أهلية في بعض الحالات"
(ب‌) المنكر كله مطلوب تغييره، فلا علاقة للتغيير بكبر المنكر أو صغره: "من رأى منكم (منكرا) فليغيره"، وأما وسيلة التغيير فتحددها -بعد الاستطاعة التي هي شرط عام في كل التكاليف- الجدوى وليس حجم المنكر، ويُبدأ بالوسيلة الأكثر ملاءمة للأحوال والأوضاع، وليس الأرفق ولا الأشد، فقد يكون الدفع برفق مُطمِعا، وقد يكون الدفع بعنف مثيرا لفتن أكبر.

(ج‌) المجتمع المسلم مكلف بأن يجتهد في اختيار الوسائل الملائمة لتغيير المنكر، وذلك هو الاختبار التاريخي الدائم للمجتمع حتى لا ينخر سوس المنكر في عظامه.

(د‌) العجز عن وسيلة لا يسقط غيرها، والفورية في تغيير المنكر ليست شرطا، ولا يعني التراخي هنا الصمت والتوقف والسكوت عن المقاومة، ولا الجبن والتخلي عن المسؤولية. كما لا يعني هذا كله أن المجتمع متربص بعضه ببعض، بل يقوم بوظيفته الأخلاقية الطبيعية كما يفهمها الإسلام.

(هـ‌) لا يعني تغيير المنكر إشاعة الفتن ونشر الاضطرابات في البلاد، بل يعني الدفاع عن وجود "المعروف" وحقه في البقاء والسيادة في عالم الإنسان.

إن رياح التغيير التي حملتها الثورات العربية ما سكنت إلى الآن، بل تعيش جدلية الوسيلة الملائمة، لا جدلية التغيير نفسه،
وهي قد تحملت نتيجة اجتهادها في اختيار الوسيلة فيما سبق، وإن كان تمسك الفساد والاستبداد بسلطته قد دفع إلى تحويل الاحتجاجات إلى مجازر وحروب أهلية في بعض الحالات، فالمسؤولية التاريخية ليست على من طالب بحقوقه، ولكن على اللص الذي أصرّ على أن يجمع بين السرقة والقتل.

ولكي ننصف هذه التجربة التاريخية المهمة في تاريخ العرب عموما، فعلينا أولا: ألا نقيِّم الحدث أثناء سيرورته كما يفرض علينا المنهج التاريخي، وثانيا: أن نحمد لثوار الربيع -في كل حال- مرونتهم واجتهادهم قدر الطاقة في اختيار وسيلة التغيير، ورجولتهم في تحمل مسؤوليتهم عن هذا الاختيار، نصرهم الله.
المصدر : الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق