الأربعاء، 7 نوفمبر 2018

حوار مع فوكوياما..

حوار مع فوكوياما.. 
كيف انتقلنا من النضال ضد السلطة للنضال ضد المجتمع؟



Washington Post

صحيفة يومية

فرانسيس فوكوياما هو أستاذ العلوم السياسية بجامعة ستانفورد وقد كان آخر مؤلفاته "الهوية: مطالب الكرامة وسياسات الاستياء"، الذي صدر بالإنجليزية في سبتمبر/أيلول. تحدث مؤخرا مع رئيس تحرير صحيفة غلوبال فيوبوينت، ناثان غاردلز. إليكم نص المقابلة:

الواشنطن بوست: لقد انفرط عقد التماسك الاجتماعي في مختلف الديمقراطيات الغربية بعد أن كان في يوم من الأيام أساس الإجماع السياسي فيها، مما أفسح المجال لقدر هائل من التنوع الثقافي والأيديولوجي بشكل بدأ يقوّض أي إحساس مشترك بالانتماء. وهذا بدوره يؤدي إلى البحث عن هوية جديدة لدى الشرائح المتشرذمة، أكانت تلك الشريحة حركة "حياة السود مهمة"، أو كان تيار التفوق الأبيض العائد بقوة، أو حركة حقوق المثليين والعديد من الحركات الأخرى. أنت تناقش كل ذلك في كتابك الجديد، ما الذي برأيك أوصلنا إلى هذه النقطة؟

فرانسيس فوكوياما: لقد انبثق ما نسميه سياسات الهوية من رحم الحركات الاجتماعية في الستينيات، والتي كانت تتمحور حول المطالب الحقوقية للأميركيين من أصل أفريقي والنساء والمثليين والمثليات وغيرهم من المجموعات المهمشة، الذين سعوا لأن يتم الاعتراف بكرامتهم والحصول على حلول ملموسة لحرمانهم الاجتماعي. وقد تطورت هذه المطالب على مر السنين فحلّت محل الطبقة الاجتماعية والاقتصادية بصفتها المعيار التقليدي للطريقة التي يفكر فيها الكثير على اليسار حول مسألة اللامساواة. ومع أن هذه [المطالب] تعكس تظلّمات مهمة، فإنها في بعض الحالات بدأت تأخذ طابعا حصريا حيث إن "التجارب المعاشة" هي ما يحدد للأشخاص هويتهم. وقد خلق هذا عقبات أمام التعاطف والتواصل (لدى الآخرين)

نحن الآن في مرحلة انتقلت فيها (عدوى) سياسات الهوية إلى اليمين. هناك العديد من العوامل التي تتفاعل مع بعضها البعض لإنتاج الموجة الشعبوية التي ظهرت في أوروبا والولايات المتحدة. أحد هذه العوامل هي العولمة وتأثيرها غير المتكافئ إلى حد كبير على سكان البلدان المتقدمة. لم يسبب تصدير الوظائف إلى العمالة الخارجية والتغيير التكنولوجي الضرر لمداخيل الطبقة العاملة فحسب، بل أدّيا أيضا إلى تدهور اجتماعي واسع يُنظر إليه على أنه فقدان للمكانة.

هذا فيما شكّلت مستويات الهجرة العالية تحدّيا آخر للمفاهيم التقليدية عن الهوية الوطنية، مما أفسح المجال للسياسيين الشعبويين الذين ألقوا باللوم على النخب في التسبب بهذا الوضع. وفي الواقع، فإن تلك النخب تستحق اللوم بالفعل، فسياساتها الخاطئة هي ما أنتج كلًّا من أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة عام ٢٠٠٨، وأزمة اليورو في الاتحاد الأوروبي، وكلاهما أضر بالعمال العاديين أكثر بكثير مما فعل بالنخبة نفسها. كل هذا تم استغلاله من قِبل سياسيين انتهازيين من فيكتور أوربان في المجر إلى دونالد ترمب، الذين يرون أن إذكاء نيران هذه النقمة سيكون الراعي المثالي لطموحاتهم.
  

واشنطن بوست: أدرك الفيلسوف جورج هيغل أن الحرية هي في نهاية المطاف حصول الإنسان على الاعتراف بكرامته. يبدو أن هذا المفهوم قد ضاع خلال فترة الصعود الطويل نحو الازدهار الاقتصادي. اليوم، ما يثير الدهشة هو رؤية التحشيد الذاتي للمجموعات الهامشية بناء على المسائل الثقافية، والنقمة الشعبوية المضادة -أي الحروب الثقافية للهويات ضد الهويات الأخرى- كما تظهر في أكثر البلدان تقدما حيث كان يفترض أن يكون الجميع متجانسا في حياة من الرخاء الاستهلاكي الطابع. هل تأتي الكرامة قبل المصلحة المادية الآن كقوة دافعة في الشؤون الإنسانية؟ ما العلاقة بين الدخل والمكانة، والحصول على المزايا؟


فوكوياما:
إن سعادة الناس مدفوعة بمستويات الدخل النسبية لا المطلقة، وبالاعتراف الاجتماعي بالمكانة. وكما أشار آدم سميث في كتابه "نظرية المشاعر الأخلاقية": "يشتهر الغني بفضل ثرائه، بينما يتوارى الرجل الفقير في أعين الآخرين". إن العديد ممن صوتوا لسياسيين شعبويين يشعرون بأنهم كانوا غير مرئيين للنخبة الذين لا يبالون بمعاناتهم في حين أنهم مستعدون لتأييد المهاجرين والأقليات وغيرهم من "الأقل استحقاقا". إن هذا التصور غير صحيح، لكنه رغم ذلك يقف وراء الكثير من الغضب الذي يشعر به أعضاء من كانوا الأغلبية السكانية السابقة. هذا هو السبب في أن الناخبين الذين صوتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كانوا على استعداد للمخاطرة بخسائر اقتصادية طالما أنهم يستطيعون "استعادة بلدهم"، كما أنه يفسر لماذا يرحب مؤيدو ترمب في الغالب بتصريحاته المناهضة للنخبة في غياب المكاسب الاجتماعية والاقتصادية الملموسة.
الكاتب آدم سميث 

بشكل أعم، فإن القومية والحركات الدينية المسيّسة مثل الإسلاموية تستند أيضا إلى مفهوم الكرامة المجروحة. تعرضت روسيا للإهانة من قِبل حلف شمال الأطلسي عندما قام بالتوسع شرقا خلال فترة ضعف روسيا. هذا فيما تنهض الصين اليوم متعافية مما يسمّى "قرن الإذلال". ويعتقد المقاتلون التابعون لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أنهم يستعيدون كرامة المسلمين المقهورين والمضطهدين في جميع أنحاء العالم. من الواضح أن كل هذه الحركات مستعدة للتضحية بالمصالح المادية من أجل استعادة "كرامة" الجماعة.

الواشنطن بوست:
يبدو أننا نشهد زوال المؤسسات التي كانت تقوم بتسهيل الانصهار الاجتماعي (مثل الخدمة العسكرية الإجبارية والتعليم العام الذي تختلط فيه جميع الأعراق والطبقات) بشكل يترافق مع صعود معايير وممارسات استقطابية -حيث تقوم وسائل الإعلام السائد بمجاراة رغبات الجماعات الثقافية في سوق شديد التنافس، مع وجود نموذج تجاري لشركات وسائل الإعلام الاجتماعية الكبرى يزيد من التفاعلية من خلال الربط بين أولئك الذين لديهم طريقة تفكير مماثلة- والسياسات الغوغائية التي تقوّي الاختلافات الأهلية. كانت النتيجة هي عزل الطموحات الاجتماعية عن بعضها البعض. هل ترى وجود تفاعل متبادل بين هذه التطورات؟

فوكوياما:
من الواضح أن نمو حجم المعلومات المتداولة قد أنهى هيمنة الشبكات الإعلامية الأميركية الكبيرة والإذاعات العامة الأوروبية، مما أدى إلى انقسام الفضاءات الإعلامية إلى معسكرات حيث يتحدث الناس فقط إلى أشخاص يشبهونهم في الرأي والهوية، وهذا ما يُطلق عليه مصطلح "فقاعة الترشيح" (Filter Bubble).
  
في السنوات الأخيرة، شجّعت نماذج الأعمال لمنصات وسائل الإعلام الاجتماعية مثل فيسبوك وتويتر هذه الظاهرة بشدّة، إذ إن في مصلحة هذه المنصات تحقيق الانتشار الواسع للمحتوى، وهذا ما يغذيه غالبا نظريات المؤامرة والهجمات الشخصية. من الصعب للغاية الفصل بين السبب والنتيجة هنا: من الواضح أن الأميركيين استقطابيّون حتى بدون وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك فإن تراجع المؤسسات الجامعة الموثوق بها ساهم أيضا في (زيادة) هذا الاستقطاب.
   


من وجهة نظري، لا يمكن التغلب على هذه المشكلة إلا إذا بدأت المنصات الكبرى، أولا، بالإقرار بأنها شركات إعلامية وأن تعمل بمقتضى ذلك بتحمل مسؤولية تنظيم المعلومات بالطريقة التي تقوم بها شركات الإعلام التقليدية. وهي بحاجة أيضا إلى تقليص حجمها، حيث إنه من الخطر إعطاء هذا النوع من النفوذ لشركات تُشكّل في الواقع احتكارات عالمية. نحتاج أيضا إلى المزيد من المقاربات المدروسة للاندماج الوطني، مثل الخدمة الوطنية. هناك عدد قليل جدا من الأماكن التي يتفاعل فيها الأميركيون من مختلف الطبقات الاجتماعية مع بعضهم البعض، كما كانوا يفعلون إبان حقبة التجنيد الجماعي.

الواشنطن بوست:
في الوقت الحالي، يبدو أن المعركة حول الهجرة تُشكّل الموضوع الرئيسي للسياسة في أميركا وخاصة في أوروبا. ألا تحتاج المجتمعات المنفتحة إلى حدود وطنية واضحة؟

فوكوياما:
يقول دونالد ترمب المئات من الأشياء السخيفة والكارهة، ولكن بين الحين والآخر، فإنه يقول شيئا صحيحا. أحد هذه الأشياء هو أن الدول لها الحق في السيطرة على حدودها. في الواقع، من المستحيل وجود ديمقراطية يكون الشعب فيها سيّدا إذا لم يتمكنوا هم أنفسهم من تحديد ماهية هذا "الشعب". إن الاعتقاد بأن الولايات المتحدة قد فقدت السيطرة على حدودها، بالإضافة إلى أزمة المهاجرين في أوروبا الناجمة عن الحرب الأهلية السورية، دفعت العديد من المواطنين إلى الشعور بأن مجتمعاتهم قد فقدت السيطرة على جانب مهم جدا من السيادة الوطنية.


كانت الهجرة أمرا إيجابيا بالنسبة للولايات المتحدة ويمكن لها أن تكون جيدة للغاية لأوروبا أيضا. لكن يجب إدارة الهجرة بشكل صحيح. يجب أن يتم دمج المهاجرين في هوية وطنية معرّفة بمعايير انفتاحية وليبرالية بدلا من الاستمرار في العيش في مجتمعات ثقافية منفصلة. يمكن للتنوع أن يكون شيئا إيجابيا، إلا أن التنوع الكبير في القضايا الأساسية المتعلقة بالالتزام بالقيم الأساسية للبلاد هو موضوع إشكالي. لذا يتعين على كل من الولايات المتحدة وأوروبا العمل لدمج المهاجرين واللاجئين في آن واحد والتأكد من أن العملية نتيجة لعملية ديمقراطية. تذكر أن سوريا وأفغانستان لديها مناطق متنوعة، وأيضا البلقان، لكن لم تتمتع أي من هذه البلدان بحياة سياسية سلسة.

الواشنطن بوست:
ما الذي يمكن فعله لإعادة بناء الفضاء العام وإصلاح الإجماع الاجتماعي في المجتمعات التعددية؟ كيف ننتقل من ساحة معركة السياسات الهوياتية إلى ما تسميه أنت "هوية وطنية عقائدية" مبنية على القيم المشتركة الشاملة؟

فوكوياما:
هناك العديد من الأشياء التي يجب القيام بها لخلق تماسك اجتماعي أكبر. يجب تعريف الهوية الوطنية من خلال معايير سياسية تتوافق مع التنوع الثقافي الفعلي الموجود في معظم المجتمعات المتقدمة. لم يعد من الممكن تعريف المواطنة عن طريق العرق أو الدين، بل يجب أن تكون مرتبطة بقيم التنوير الليبرالية مثل الدستورية وسيادة القانون.


الواشنطن بوست:
في وقت ينفرط فيه عقد الغرب ويتحول إلى اللامركزية، تزدهر الصين كدولة مركزية وموحدة. كيف سيؤثر ذلك على الجغرافيا السياسية؟

فوكوياما: إن النجاح الظاهري للصين هش وتنفّذه دولة تطفلية وديكتاتورية. لقد أخذ حيّز الحرية الفردية يتقلّص باطّراد في عهد الرئيس شي جين بينغ. ومع نظام الرصيد الاجتماعي الجديد التي تنفّذه البلاد، سيتم استغلال البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي لفرض نوع من السيطرة الشمولية لم نشهدها حتى في أيام جوزيف ستالين وماو تسي تونغ. لا يملك المواطنون الصينيون أي فرصة لمقاومة هذا النظام لأنه يحظر بلا رحمة أي نوع من العمل الجماعي.

إن قرار "شي" بإزالة الحدود على مدّة ولاية الرئيس يلغي الميزة الأفضل التي كانت موجودة في النظام السلطوي الصيني والتي كانت قد ظهرت بعد (إصلاحات) عام ١٩٧٨، عندما قام الحزب الشيوعي الصيني بتبني مبادئ الحدود الزمنية، والتقاعد الإجباري، والقيادة الجماعية في حكمه. يتم تفكيك كل هذا لتعود البلاد إلى أيام النظام الذي كان قد أنشأه ماو قبل الثورة الثقافية.


يعتمد مستقبل هذا النظام بشكل كبير على استمرار نجاح نموذجه الاقتصادي. لقد تم دعم معدلات النمو من خلال الاقتراض الهائل من المحافظات والبلديات. إذ إنه ببساطة من غير الممكن أن تستثمر دولة نحو ٥٠٪ من ناتجها المحلي الإجمالي، كما فعلت الصين في السنوات الأخيرة، دون أن تعاني من انتكاسات كبيرة في الطريق لأن هذه الاستثمارات تفشل في تحقيق عوائد حقيقية. لن يأتي الاختبار الحقيقي للنظام حتى تعاني البلاد من أول ركود حقيقي أو أزمة مالية. سنرى بعد ذلك ما إذا كان هناك إجماع اجتماعي حقيقي في المجتمع الأوسع.

من الناحية الجيوسياسية، لقد صاحب صعود الصين موقف أكثر عدوانية لها على المستوى الدولي. على سبيل المثال، بعد أن وعدت بأنها لن تقوم بعسكرة بحر الصين الجنوبي، قامت بكين بفعل ما وعدت أنها لن تفعله تماما. وهي تستخدم مبادرة الحزام والطريق لنشر نفوذها عبر أوراسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. سوف يكون صعود الصين، إذن، أخطر تحدٍّ يواجه النظام الدولي في السنوات القادمة.

هذا التقرير مترجم عن: Washington Post 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق