فلقد أعلنت قائلا وأنت تحدد موعد ذلك الشهر الاستفزازي: "أن التبشير ليس دعاية دينية، أنه تعبير عن الحب، مواصلا بعناية: "إن عملية التبشير هي معيار كل فعل من أفعال الكنيسة". أي ان الهدف واضح بل وعنوان الموضوع الذي تم اختياره لتلك الحرب المعلنة ضد الإسلام والمسلمين ليس سوى: "متنصرون ومرسلون. كنيسة المسيح في مهمة تبشيرية في العالم". وذلك استمرارا ومواصلة لنصوص مجمع الفاتيكان الثاني، التي تعلن بكل جبروت في وثيقة "نور الأمم" البند 16: "إن هدف الخلاص يتضمن أيضا من يعترفون بالخالق، وأولهم المسلمون الذين يقولون إنهم من أتباع إبراهيم، ويعبدون معنا الإله الوحيد، الرحيم، الذي سيحاكم البشر في آخر يوم"! أي إن الكنيسة تأمر المسلمون بالخروج عن دينهم.
وهنا لا بد أن نعلن فورا وبكل وضوح: لا يا سيادة البابا، المسلمون لا يعبدون أبدا نفس الإله معكم، حيث أن يسوع المسيح هو إنسان ونبي، وقد قامت الكنيسة بتأليهه في مجمع نيقية الأول سنة 325، بينما يعبد المسلمون الله المنزه عن أي تشبيه على الإطلاق، الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. والفرق مطلق الوضوح.
وتحديد شهر تبشيري فوق العادة في أكتوبر 2019، احتفالا بمرور مائة عام على الخطاب الرسولي للبابا بنديكت 15 والمنشور يوم 30 نوفمبر 1919، حول فرض المسيحية على العالم أجمع وتشجيع الالتزام التبشيري للكنيسة وفقا للخطاب الرسولي "فرحة الأناجيل" حول تنصير العالم أجمع هو استفزاز غير مقبول. فلقد كان بنديكت 15 يؤكد أيضا على أن الرسالة العالمية ليست قاصرة على البعض من المسيحيين وإنما هي مفروضة على كل مسيحي في العالم أن يقوم بها. وهو ما فرضه أيضا مجمع الفاتيكان الثاني في العديد من الوثائق التي أصدرها، على كافة الأتباع، الذين يجدون أنفسهم مجبرون على المشاركة في ذلك التبشير.
ان "مؤتمر التبشير" الذي أقيم يومي 30 سبتمبر وأول أكتوبر 2018، كان يرمي الى تبادل الآراء والإعداد لمختلف الأساليب لفرض المسيحية على عالم اليوم. ولقد تناول الأسقف جيوفاني دل طوزو، رئيس الأعمال البابوية التبشيرية، معني التبشير، في المؤتمر الذي انعقد في باريس يومي 29 و30 سبتمبر 2018، وهو يؤكد ببساطة: "أن الكنيسة ليست قائمة إلا للتبشير". كما أوضح تحديدا: "أنه لا يمكنها أن تحرم البشر من النبأ السعيد بأن الرب يحبهم أنه لا إنقاذ لهم إلا به".
ومن الداعي للدهشة أن نطالع ذلك السقف مضيفا: "التبشير يعني أن نمنح الإنسان تجربة محبة الرب الذي يحبه، لكي يتعلم ذلك الرجل أو تلك المرأة، معنى المحبة ونحن مدفوعون لتبشيرهم"، مضيفا بعد قليل: "الأمر متعلق بإنقاذ ذلك الإنسان ونحن نعلمه طريق المحبة مثلما علمه المسيح بكلماته وبحياته".
والأكثر دهشة من كل ذلك أن نرى كيف ان ذلك الأسقف لا يعرف إنجيله بل ولا يعرف الفرق بين الحب والذبح، ويتحدث عن حب يسوع، يسوع الذي يقول في الإنجيل وفقا للوقا: "أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي" (19: 27). والفرق شاسع بين الحب والذبح!
والأدهى من ذلك، أن يضيف ذلك الأسقف: "بينما كان يغادر العالم، قام يسوع بإلقاء مهمة التبشير على الأتباع قائلا: "اذهبوا وكرزوا جميع الأمم باسم الآب والابن والروح القدس" (28 : 19)، مضيفا: "لذلك تقوم الكنيسة وأنها لا توجد إلا للتبشير"! ثم أضاف مستدركا: "ليس معنى أن هناك كنيسة فيوجد التبشير. إن الكنيسة لم توجد إلا من أجل التبشير"!
ويحرجني أن أذكّر ذلك الأسقف أن بدعة الثالوث المكونة من الاب والابن والروح القدس قد تم اختلاقها وفرضها على الأتباع في مجمع القسطنطينية الأول سنة 381. فما معنى أن نراها في الأناجيل التي تمت كتابتها، وفقا للكنيسة، فيما بين سنة 70 و120، إن لم يكن ذلك دليلا على التحريف والتزوير الذي يغص به الكتاب المقدس والتي تم فرضها على أنها حقائق تاريخية؟ والأدهى من ذلك ان الكتاب المقدس المعروف باسم "مخطوطة سيناء"، والذي يرجع للقرن الرابع، نطالع فيه ان إنجيل متي ينتهي عند الآية 8 وليس 20.. ولا داعي للإشارة بأن هذه المخطوطة تثبت وجود آلاف المتناقضات بينها وبين الأناجيل الحالية.
وفيما يلي مثال شديد الوضوح لهذا التحريف أو هذه "التنويعات"، كما يطلق عليها الفاتيكان، والتي يذخر بها الكتاب المقدس الحالي. ففي العهد القديم، في صموئيل 2، عند الحديث عن الاستيلاء على مدينة الربّة، يقول النص عن داود، في طبعة 1671 العربية: "الشعب الذي كانوا فيها أخذهم ونشرهم بالمناشير وداسهم بموارج حديد وقطعهم بالسكاكين وأجازهم بقمين الأجاجر كذلك صنع بجميع قرى بني عمون ورجع داود وجميع الشعب الى أورشليم" (12: 31).
وقد تحول هذا النص بقدرة قادر في الترجمات الحديثة الى: "أما عن الشعب فقد أخرجه وعلمهم النشر بالمناشير، ونوارج الحديد والسكاكين واستخدمهم في العمل بكمائن الأجاجر. وهكذا فعل بكل مدن العمونيين. وعاد داود وكل الجيش الى أورشليم"! وهو ما يعني أن العمونيين قد تحولوا من ضحايا منشورين ومقطعين ومحروقين في كمائن الطوب، الى عمالا أو موظفين يعرفون كيف يستخدمون المناشير والموارج الحديد والسكاكين!
وتؤكد الموسوعة البريطانية أن هناك من المتناقضات والتحريف والتغيير بين الأناجيل القديمة والحديثة ما يفوق المائة وثمانون ألفا من الحالات التي أثبتها العلماء.
فالتبشير أيها البابا لا يعني فقط الإعلان عن إنجيل يسوع غير الموجود، أو الدعوة الى المسيحية أو مجرد التنصير، لكن ذلك يعني في نفس الوقت: اقتلاع الآخر من إيمانه، وخاصة المسلمون، بما ان الإسلام يمثل أكبر تحدي لكل التحريف الذي تم في نصوص المسيحية. فالإسلام لم يتم تنزيله إلا لكشف كل ما تم من تلاعب وتحريف في الرسالتين السابقتين ولتوجيه العالم الى التوحيد الحق، الذي يعني التنزيه المطلق لله. أو بقول آخر إن الإسلام عبارة عن اتهام إلهي ضد كل ما قامت به الأيادي العابثة من تلاعب في النصوص.
وتكفي قراءة الخطاب/المقدمة التي كتبها القديس جيروم للبابا داماز في القرن الرابع لندرك معنى ذلك التحريف والتغيير الذي قام به ذلك القديس وتم فرضه على الأتباع.
وهناك تعليق آخر للأسقف بيترو دل طوزو متحدثا إلى الشباب المساهم في ذلك اللقاء: "إن الشباب به شيء من النبوة وعليه أن يدرك ذلك"! فإن كان ذلك السيد يدرك أو يعلم معنى كلماته و"أن الشباب به شيء من النبوة" فبأي ضمير شيطاني يسكت هو ورؤسائه على فضائح العديد من الكنسيين، بمختلف رتبهم، الذين ينقضّون بوحشية على ذلك الشباب ليحطم نفسيتهم الى الأبد؟ فمن الغريب رؤية المتهمون بالعديد من الفضائح الجنسية يتحدثون قد قدسية الشاب المبشّر، وأن نرى في نفس الوقت في مسألة الاعتداءات الجنسية المطروحة على الساحة العالمية، لا يفعل حيالها الفاتيكان سوى التلويح بالحصانة الدبلوماسية! فهل هؤلاء المعتدون فوق قانون البشر ولا يجوز المساس بهم؟
ففي الخطاب الثالث الذي كتبه ونشره المونسنيور فيجانو يقول بوضوح: "إن البابا فرنسيس يبدو متواطئا في هذا الفساد، أو أنه على دراية به ومدرك لما يقوم به. فهو مسئول بشدة لأنه لا يعترض ولا يحاول اقتلاع ذلك الفساد".
وحينما يكون من يحمل مثل هذا العتاد المكوّن من نصوص محرفة، وكنسيون متهمون بالرزيلة، وأتباع مخدوعون مجبرون على المساهمة في مذبحة تنصيرية يطلق عليها: "عمل محبة"، فلا يحق له إعلان الحرب على الإسلام والمسلمين لاقتلاعهم من دينهم، وإنما يتعين عليه أن يجمع أغراضه ويرحل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق