الخليج العربي ما بعد الوهم المتبدّد
مهنا الحبيل*
على مدار ثلاثة عقود، تعاملت خريطة الفكر العربي، وبالذات من مثقفي منطقة الخليج العربي والجزيرة، حيث يمثّل اليمن جزءًا رئيسياً عميقاً من التاريخ الاجتماعي والفكري للمنطقة، تعاملت مع كتلة الوحدة، تحت مشروع مجلس التعاون الخليجي، بإيجابيةٍ تزايدت تدريجياً.
وكان واضحا أن مثقفي الاتجاه السياسي الإصلاحي في الفكر الإسلامي، والتياريْن القومي واليساري، والليبراليين، قد شعروا أن هذه التجربة هي الخيار الأفضل الموجود، في ظل انهيارات حلم الوحدة العربية، والأمن القومي الجماعي.
وأَستَذكرُ هنا أن أحد المفكرين الاستراتيجيين من منطقة الخليج العربي كان يروّج أن مجلس التعاون الخليجي طائرةٌ مخطوفة لصالح الولايات المتحدة الأميركية، ثم انتهى الرجل إلى توازنٍ يرى المجلس ضرورة قومية للعرب، وأهل الخليج خصوصا.
ثم تحوّل، مع الأسف، إلى يميني اجتماعي عنصري، ضد بقية العرب، بل وبعض أهل الخليج العربي، وتحولت مواقفه إلى مراقبة دراما الموقف السعودي، المتقلّب منذ يوليو/ تموز 2013، والصمت أو التبرير الضمني له، لتأمين موضع أقدامه معه.
غير أن الأفكار اليسارية والقومية والإسلامية في الخليج العربي، الأكثر رشداً مما انتهى إليه هذا المفكر، بدأت تتعامل قديماً مع هذا الكيان القائم بعقلانيةٍ مبدئيةٍ، وليست واقعيةً سياسيةً وحسب!
فكيف نُنظم في إطار الرسالة الإسلامية، والفكرة العروبية ومصالح شعوب الخليج العربي، إطاراً وحدوياً بديلاً.
في ظل الإرث الصعب لمواقف حكام المنطقة، والخشية الحسّاسة من أي تأثيرٍ على مستقبل حكم كل دولة، بعد أن عاشت المنطقة تاريخاً استعمارياً صعباً، منذ قصف الأسطول الغربي الساحل، ومذابح البويكرك البرتغالي أهل الخليج العربي، ومن وصلت إليه قوات أسطوله في البحر، من سفن أهل الخليج.
ماذا عسى تيارات الفكر العربي أن تفعل، تحت هيمنة الأنغلوساكسون على ثروتهم القومية، وجغرافيتهم السياسية، في ظل كفاح قُطريٍّ صعب، في كل الدول الست، سعى، منذ الاستقلال، إلى تعزيز مفهوم المواطنة الحقوقية، وواجه ما واجه من صلف؟ وماذا عن الشأن القومي الجماعي؟
وما الذي يُشكله هذا الجسم القومي الذي بدأ يتحد في إطار سياسي واقتصادي؟
كان هناك فهم كامل وسخرية ثقافية من مهرجانات الفلكلور التي تعيشُها قمم المجلس، لكي تُغطّي الاحتفاليات الكرنفالية على الفشل المتتالي لهذه القمم، وعجزها عن تقدّم نوعيٍّ لمجلس التعاون الخليجي إلى إطارٍ وحدويٍ ينظم أمنه القومي، ويُخفّف من غلواء التدخل والهيمنة الغربية، ونفوذ القواعد العسكرية.
غير أن ذلك كلّه لم يمنع هذه النخب الغيورة، والقاعدة الشعبية الواعية، من التمسّك برابطة المجلس، والدفع به إلى مساحة أكثر تماسكاً.
ولم يكن مرجوّاً من المجلس الخليجي أي دعم لمسيرة الحقوق الوطنية لمواطني دول المجلس، وخصوصا بعد المشروع الخبيث للاتفاقية الأمنية التي تُحوّل التغوّل الأمني القُطري إلى شبكة تجسّس واعتقال إقليمي جماعي!
فتتّحد فيه كل سيئات وزارات الداخلية، وأجهزة مخابراتها، لتنهش من المواطن الخليجي، وتجعله تحت الاستهداف المعنوي والسياسي، ليرجف الخليج من تحت أقدامه، كونه استظلّ بهذا الهامش البسيط، من فوارق الحريات، ومارس الوحدة الخليجية الاجتماعية، بفطرته وروحه الطموحة.
في حين كانت دعاوى مكافحة الإرهاب ضخّا إعلاميا وتلاعبا قانونيا وسياسيا في بازار الغرب المنافق، في الوقت الذي كانت فيه بعض الأنظمة ترقص لعبتها الخاصة مع الجماعات المتشددة، والضحايا هو الوطن والمواطن الإنسان.
وعلى الرغم من ذلك كله، بقيَت الغالبية من النخبة متمسكةً بأمل الحفاظ على هذا الجسم (مجلس التعاون)، وخصوصا أصحاب التجربة، أو التأمل العميق في تاريخ المنطقة، ودلالات فتحها على البازار الإقليمي الدولي.
وبالتالي العودة إلى تقسيم المقسّم، والتسابق لتحقيق أمنٍ قُطري محدود بين دول المجلس، في تنافسٍ محمومٍ، يعود عبره الخليج إلى مرحلة انتدابٍ غربي، أو ما هو أسوأ في فوضى التوحّش، وهو ما مهدت الأزمة الخليجية له بالفعل.
وبالتالي، لا يُمكن مطلقاً اليوم أن تُجمّع الصورة لوضع إطار واقعي لمستوى من التنسيق الاجتماعي والسياسي، وقضايا الأمن القومي، فواشنطن، في دعمها وانقلابها، هي، في الوقت نفسه، الحليف لكل أطراف الصراع!
ولو طُرح من جديد المقترح العُماني القديم الذي دعمته بعض الأقلام في الخليج، وهذا القلم أحدهم، وهو مشروع تأسيس جيش خليجي، قوامه مئة ألف عسكري، يُشكل ضماناً ذاتياً ضد التهديدات، ويُعطي رسائل تردع أي دولةٍ تسعى إلى عملٍ أمني أو عسكري ضد دول المجلس.
وبالتالي يُخفف النفوذ العسكري الغربي في المنطقة، ويُفعّل الأمن القومي الإقليمي سياسياً وحوارياً، وتُتبادل أدوارٌ للضغط على طهران ومشروعها الطائفي، واحتواء تهديداتها عملياً، لو طرح هذا الاقتراح اليوم، لن تسخر منه مسقط وحسب، بل المشهد السياسي الاستراتيجي.
فأي جيشٍ يردُّ الغزو الداخلي الذي عزمت عليه الرياض وأبوظبي في الخامس من يونيو/ حزيران 2017 ويردع مشاريع التوحش الداخلي التي خطّطت للفتك بعضوٍ مؤسس، ثم أصبح المهدِد بالغزو، على مشروع لتفكيكه؟
هنا يستيقظ الضمير العربي في الخليج على واقع لا بد أن يعيه، أن الوحدة الخليجية باتت وهما متبدّدا.
ولكن هذا لا يوقف قلق الضمير العربي، والقلم المستقل الحادب على شعب المنطقة العربي، في الدفع لتأمين أكبر قاعدة ممكنة للسلم الأهلي أمام التقاطعات الضخمة التي صنعتها الحماقات السياسية داخل المجلس الخليجي.
فالمصيبة الكبرى أننا اليوم، في مساحة الوطن العربي، نبحث عن أول قواعد يقوم عليها التدافع الفكري لمشروع النهضة وأفقها، وهو الاستقرار الاجتماعي، والخروج من بيئات النزاع.
فكل حصيلةٍ سابقة ولاحقة، نحن نحتاجها لصناعة الفرد العربي الواعي، في الخليج وغيره، وصناعة مواطنة الحقوق والكرامة، لن تؤدي رسالتها في ظل التساقط الدموي، أو صراع الكراهية الشرس!
فضلا عن سقوط المنطقة في حرب الخرائط الدموية الجديدة التي عانت منها في فتراتٍ متكرّرة، وهو ما يجعل السلم الأهلي أولوية قصوى للتنوير العربي.
* مهنا الحبيل كاتب عربي مستقل مقيم في كندا
المصدر | العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق