الخميس، 29 نوفمبر 2018

كناشة العمر

كناشة العمر

 محمد الشبراوي
تقول العرب "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب"، وأنت ترى وتسمع تلك العجائب كل لحظة، لا أقول كل دقيقة؛ فلم يعد الفن لأهل الذوق الرفيع، ولم يعد الإعلام لأصحاب الرسالة الناجعة والأفكار النافعة؛ فاختلط الحابل بالنابل، وكلٌّ على ليلاه غنى.

أضحت نسبة المشاهدة معيار الأفضلية، وقُدِّمَ التافهون نماذجَ للأجيال المقبلة من مجتمعاتنا، ويضرب المرء أخماسًا بأسداس حسرة على واقعنا، ثم إذا به ينشر ولو بشكل غير مباشر ويروِّج للأغاني الهابطة والثقافة المهترئة.

بات الفن مهنة من لا مهنة له، وعن الإعلام فحدِّث ولا حرج، دون أن يتساءل الناس: لماذا وصلنا إلى هذا الدرك الأسفل من السفسطة والإسفاف؟ ولم يدر بخلد الكثيرين تقديم ثقافة أخلاقية واجتماعية موازية تتغلب على رائحة العفن المتزايدة، أو على أقل تقدير تعادل انتشار القبح الفني والإعلامي والثقافي. قد تهز اليوم كتفيك وتمضي لحال سبيلك، لكنك غدًا وأنت تقلِّب كُنَّاشة عمرك ستندم، وستشعر بغصة مريرة لتخاذلك واستسلامك للمحيط الخانق.

الكُنَّاشَة في اللغة أي المجلد، والأصل الذي تتشعب منه الفروع، وإذا كان مجلد حياتك وأرشيف ذكرياتك يحوي اللطائف والنفائس؛ فإنك ستزهو به وتفتخر ويروقك أن يراه كل من حولك. 


أما إن كانت كُنَّاشة حياتك هزيلة؛ فإنها قد يؤسفك جمعها، وربما تتنصل منها وتتنكر لها؛ فتتحول من كُنَّاشَة إلى كُناسة، ويستحيل المستقبل الجميل ومعه كناشة العمر إلى تلال من القمامة والبؤس والشقاء. 
وللعلاقة بين الكناشة والكناسة قصة يجدر بنا التعريج عليها والإشارة إليها.
ألَّف الأديب يحيى حقي كتابًا عنوانه "كُنـَّاشَةُ الدكان"، وقد تغيرت كلمة "كناشة" بخطأ من سامي فريد إلى "كناسة"، واغتفر يحيى حقي الخطأ؛ ليتحول التساهل والغفران إلى قبول الخطأ، وتحول المعنى الجميل إلى كناسة. 
كتب فريد: "ها نحن قد قرأنا معًا -تقريبًا- كناسة الدكان، وجاء الوقت الذي أخبرك فيه عن حكاية الكناشة التي تحولت بذكائي (!!) إلى كناسة.. شرفني العمل مع صديقي وأستاذي يحيى حقي في مجلة (المجلة) من ديسمبر 1963 وحتى أغسطس 1970، لأنتقل بعد هذا للعمل في جريدة الأهرام، واستمرت علاقتي بأدبينا الكبير حتى وفاته وبعد وفاته.

وفي بعض أيام شهر مايو من عام 1968، كان يحيى حقي يستعد لسفرته السنوية إلى فرنسا مع قرينته السيدة جان، وجاء إلى المجلة ليسلم مودعاً ويوصينا بالمجلة ثم يسلمني مقاله الافتتاحي، وكان عنوانه الثابت (من إحدى الروايات)، أما المقال نفسه فكان بعنوان (من كُنَّاشَة الذكريات). سلمني الأديب الكبير مقاله وأوصاني وشدد عليَّ ضرورة مراجعته بدقة وتصحيح ما قد يقع فيه من أخطاء مطبعية.

أخذت المقال دون أن أفتحه لأطير به إلى المطبعة في ساحل روض الفرج حتى ألحق العدد، وعند خروج البروفة فوجئت بكلمة كناشة.. هي كلمة غريبة ولا تسألوا شابًا عمره يتجاوز السابعة والعشرين بشهورٍ أن يعرف معناها. ظننت أول الأمر أنها أول غلطة مطبعية، وبإخلاص التلميذ المحب لأستاذه رحت أصححها إلى كناسة، وراجعت المقال كله واطمأننت عليه.

صدر العدد، وعاد يحيى حقي من فرنسا حاملاً إلينا هداياه البسيطة والجميلة دون أن ينسى أحداً، ومضى اليوم في حكايات وسلامات، ثم التفت نحوي منزعجاً فجأة يسألني عن هذا الذي عملته فأضحكت مصر كلها عليه! كناسة يا سامي! كناسة! أنا أكتب كناسة! حرام عليك! سألته وقد استبد بي الفضول: أمال إيه يا أستاذ يحيى؟ قال: كناشة يا ابني! كناشة.. متعرفش الكناشة؟!

هززت رأسي نافيًا وخيَّم البله على وجوه كل الحاضرين؛ فوجد الأستاذ نفسه مضطرًا لأن يشرح لنا أن الكناشة هي الدفتر الكبير الذي يسجل فيه التاجر الألفي حساباته.. الوارد والصادر منه وإليه وعليه والباقي وإلى آخره. هتفت بصوتٍ يقترب من البكاء: وكنت هعرف أنا إزاي حكاية الكناشة دي؟!

ببساطة لا مثيل لها قال: "كنت هعرف إزاي؟"، ولم يتجشم عناء البحث عن معنى الكلمة الواردة في العنوان، وصدقت العرب: "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب"؛ أليس كذلك؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق