معارك الفراغ الثوري
باتت مواعيد تذكّر المحطات الكبرى في تاريخ الثورة المصرية مناسباتٍ لمزيد من الانتحار الذاتي للقوى التي شاركت فيها، وكأنهم توافقوا على مواصلة العمل من أجل القضاء على أية فرصةٍ لاستعادتها واستنهاضها مجددًا.
قبل يومين، كانت ذكرى الموجة الثانية، الأكبر والأنبل، في مسيرة ثورة يناير 2011، وهي أحداث شارع محمد محمود التي نفذ فيها المجلس العسكري الحاكم مذبحة أراد بها الإجهاز التام على الثورة، وإعادة مصر إلى حدود الرابع والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011.
كان من المتصور، في اللحظة الراهنة، وقد اتضح للجميع أن لهذه الثورة خصمًا واحدًا، يجلس في سدة الحكم الآن، أن يتجاوز رموز هذه الثورة وقادتها مرحلة العبث والنزق، على أرضية باعوا الثورة وخانوا الثورة.. إلى آخر هذه القائمة من الشعارات التي تحلّلت واهترأت حد الملل والأسى.
غير أنه من الواضح أن كثيرين في لحظة الضياع، أو بالحد الأدنى الفراغ الثوري، لا يزالون مستسلمين لشهوة العبث بالتواريخ والوقائع، ربما قتلًا للفراغ، وبالأحرى تشبثًا بالرغبة في الإقصاء لكل مختلف، وكأنهم بذلك ينفردون بوضعية النقاء الثوري، وحدهم، وكل ما عداهم أعداء للثورة وخونة لها.
يكفي في هذه الوضعية أن يبدأ أحدهم بإطلاق صيحة "الإخوان باعوا الثورة في محمد محمود 19 نوفمبر/ تشرين ثاني 2011"، ليندلع الحريق، وتفتح الدفاتر فيرد معسكر آخر بصيحة "القوى الأخرى باعت وخانت في 30 يونيو/حزيران 2013"، وما بعدها من محطاتٍ أكثر دموية وفظاعة من أحداث شارع محمد محمود.
ولو راجعت السنوات الخمس الماضية، ستجد أن الصراع العبثي يتكرّر بالألفاظ ذاتها، وعبر شخصياتٍ بعينها، لا تريد أن تتخلى عن لذة تمليح الجراح واجترارها بسعادة، متبلة بالتحريف والاختلاق والكذب، أحيانًا، لسحق الطرف الآخر، وإخراجه من معادلة الثورة.
كان من الممكن، بل من المهم، التغاضي عن مهازل الحفل السنوي السخيف، لمناسبة ذكرى "محمد محمود"، لولا أن هناك من تعامل مع المناسبة بكثيرٍ من إغفال الحقائق، وتحريفها وتشويهها، وقلبها أحيانا، فالثابت أن هناك قوى سياسية ثورية، في مقدمتها الإخوان المسلمون، ارتكبت خطأ فادحا في التعاطي مع مذبحة شارع محمد محمود، لكن ذلك لا يعني أن يدّعي أحد أنهم مشاركون في المذبحة، هم أو غيرهم من الأطياف السياسية الأخرى التي لم تتخذ موقفًا مبدئيًا في الانحياز للثوار، وأعني كل الأطراف التي ولّت وجهها شطر انتخابات البرلمان، ولم تعبأ بالدم المراق في الميادين، أحزابًا وأفرادًا من القوى السياسية، من خارج تيار الإسلام السياسي.
وإذا كان في استذكار المعارك الكبرى، والتوقف عندها، ما يؤكّد أن الثورة في الذاكرة والوجدان، لا تزال، فإنه من الواجب التعامل بنزاهة وشفافية مع الأحداث، وحين يقول كاتب بحجم علاء الأسواني وانتشاره في ذكرى محمد محمود إن "مجلس الإخوان والسلفيين الذي ساند المجلس العسكري في قتل الثوار في محمد محمود وبقية المذابح.
وقاحة الإخوان مدهشة، إذ يتحدثون الآن عن الثورة التى خانوها مرارا وتكرارا، ومشوا على دماء الشهداء إلى مقاعد السلطة"، فهذا نوع من التحايل على التاريخ، ذلك أنه لم يكن هناك مجلس شعب قد تشكّل، حين ارتكبت المذبحة، فالانتخابات البرلمانية بدأت مرحلتها الأولى بعد عشرة أيام من الواقعة، واختتمت مرحلتها الأخيرة في يناير/ كانون ثاني 2012.
ثم إنه، وإذا كان هذا البرلمان مشاركًا ومساندًا في عملية قتل ثوار محمد محمود، فلماذا يذهب ثائر شهير، مثل علاء الأسواني، إلى هذا المجلس في فبراير/ شباط 2012 مع وفد من القوى الثورية، أفرادًا وكيانات، لكي يطلب من رئيسه، محمد سعد الكتاتني، أن يتسلم السلطة ويتولى حكم البلاد، عوضًا عن المجلس العسكري؟.
في ديباجة مبادرة تسليم السلطة التي شارك الأسواني في صياغتها، والذهاب بها إلى البرلمان، صحبة عديد من المشاركين في الثورة، من بينهم علاء عبد الفتاح وكريمة الحفناوي وكاتب هذه السطور تقرأ:
نحن مجموعة من الحركات الثورية والشخصيات العامة المهمومة باستكمال مسيرة ثورة 25 يناير، والمشغولة بقضية العبور الآمن لما تبقى من المرحلة الانتقالية، بما يوقف نزيف الدماء المصرية، ويؤمّن نقلا كاملا وفوريا للسلطة من المجلس العسكري للمدنيين، نتوجه إلى برلمان مصر الذي جاء كمعطى ثوري عبر انتخاباتٍ نزيهةٍ شارك فيها الشعب المصري بمشروع مبادرة للخروج من المأزق الناتج عن سوء إدارة هذه المرحلة.
وإذ يرى مقدّمو هذا المشروع أن البرلمان الحالي يستمد شرعيته من إرادة الشعب المصري، فإننا نضع مجلس الشعب أمام مسئوليته تجاه الجماهير المصرية في لحظةٍ بالغة الصعوبة والحساسية، تسيل فيها دماء المصريين، نتيجة المسير في طريق المرحلة الانتقالية على نحو يتسم بالارتباك والعشوائية وعدم وضوح الرؤية، وعدم الجدّية في القطيعة مع النظام السابق الذي قامت الثورة لإسقاطه.
السؤال هنا: إذا كان مجلس الشعب قاتلًا، فكيف تعرض على واحد من"القتلة" أن يحكمك بدلًا من شريكه القاتل الآخر؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق