أهمية العمل وترك العجز*
د. محمد موسى الشريف (فك الله أسره)
إن العمل على رفعة دين الله والتمكين له في الأرض أمر جليل عظيم، وهو عمل الأنبياء والمرسلين والمصلحين، في قافلة نورانية طويلة من لدن آدم حتى تقوم الساعة، وإن الملتحق بهذه القافلةِ لحائز على شرف عظيم، والمتخلف عنهم قد فاته خير كثير.
والله – تعالى – يكافئ العاملين مكافأة عظيمة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيثبتهم وينصرهم، ويربط على قلوبهم ويثبتهم، وينير دربهم، ويطرد وسواس الشيطان عنهم.
قال تعالى: ( يا أيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).
وأما في الآخرة فإن الدرجات العاليةَ مقصورة عليهم، ومرافقةَ الأنبياء مكافأة لهم، وتكرر النظر إلى وجه الله الكريم أعظم نعيم يتنعمون به في الجنة.
وينبغي أن يُعلم أن العامل إنما يعمل لنفسه كسباً للحسنات ورفعة في الدرجات، والعاجز إنما جنى على نفسه تفريطاً في الحسنات ودنواً في الدرجات.
قال الله – تعالى - : (ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون).
والعامل يكافئه الله – تعالى – ويرى نتيجة عمله ويبشر بها في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).
والعاجز يظل حياته بين كسل وملل، ووساوس وشبهات، واعتراضات وانتقادات حتى يدركه الموت وهو على ذلك.
والعامل هو الذي يملي على التاريخ ما يسطره، ويرغمه أن يفسح صفحات من أسفاره لكتابة سيرته وتسطير مآثره، أما العاجز من الثقات فإنه يعيش على هامش التاريخ لا يعرف كيف يقرأ أحداثه ويستفيد منها بله أن يؤثر فيها، يظل قابعاً في مكانه حتى يأتيه الموت لا يعرفه أحد ولا تبكي عليه السموات والأرض.
والناظر في أحداث التاريخ منذ آدم – عليه الصلاة والسلام – إلى يومنا هذا فإنه يجزم أن لا مكان فيه للعاجز القابع، وأن الثقات العاملين في سباق وتنافس للوصول إلى الغاية العليا وهي رضى الله تبارك وتعالى.
وسأذكر جوانب توضح مدى أهمية استغلال العمر الذي نعيشه في دنيانا، وأنه إن غفلنا وعجزنا عن استثماره فسيفوتنا خير كثير كثير.
الناظر في أحوال المسلمين اليوم يقدر أن أكثر الصالحين العاملين لم يلتزم طريق الصلاح ويفقهه إلا في حدود سن العشرين، تقل قليلاً أو تزيد قليلاً، ومعنى ذلك أنه قد فات عليه ثلث عمره تقريباً فلم يستفد منه الاستفادة المرجوة، وهذا بناء على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين)).
وهذا مشاهد ملحوظ، فلنفرض جدلاً أن رجلاً صالحاً من الناس سيعيش ستين سنة في هذه الدار، إذا لا يتبقى من عمره إلا أربعون، وهذه الأربعون تمضي كالتالي، وهو الغالب، ولكل ما ذكرته أو سأذكره في هذه الفقرة استثناءات لا تشوش على الأصل:
أولاً: يمضي ثلثها في النوم، وهذا ديدن أكثر الناس، وهناك أناس ينامون اثنتي عشرة ساعة في اليوم – والعياذ بالله – أي نصف حياتهم، وهناك من ينام أقل من ثمان ساعات وهذا قليل.
ومعنى هذا أنه قد نقص من الأربعين ثلاثة عشرة عاماً ونيف.
ثانياً: يمضي ثلثها في العمل، وهذا للمعتدل أيضاً؛ إذ بعض الناس يعملون عملين أو أكثر، وعلى هذا – أي عَمَلُ ثلث الوقت – ينقص من الأربعين ثلاثة عشر عاماً أخرى ونيفاً.
ثالثاً: وعلى هذا التفصيل السابق يتبقى للإنسان الذي يعيش ستين عاماً ثلاثة عشر عاماً تقريباً فقط يقضي فيها فرائضه الدينية وشؤونه الدنيوية من زواج ورعاية أولاد، وزيارة أقارب وأصدقاء، وطعام وشراب، وذهاب إلى أماكن النزه والأسواق ... إلخ. فكم يتبقى له للتنافس مع المتنافسين في شؤون الآخرة والتسابق إلى نعيمها؟
لهذا كان السلف يقلِّلون ساعات النوم والعمل وقضاء الحاجات حتى يتوفر لهم وقت أكبر بكثير مما ذكرته، والله أعلم.
وسيرة الإمام النووي رحمه الله – تعالى – سيرة عطرة عظيمة تصلح للتمثيل على حال سلفنا في استغلال الزمان في الأعمال الصالحة وعلى تقليلهم الطعام والشراب والعمل والنوم حتى يتبقى لهم أوقات عظيمة يستثمرونها في طاعة الله تعالى.
لما انتقل رحمه الله تعالى من بلدته نَوَى إلى دمشق اجتهد في مسابقة الزمان، حيث ظل سنتين كاملتين لم يضع جنبه على الأرض بل ينام متكئاً على كتبه، ولم يزل يشتغل بالعلم، ويتعبد العبادة العظيمة من صلاة ليل وصيام دهر مع الزهد والورع بل التزام دقائق الورع، وعدم إضاعة شيء من الأوقات، فقد كان يدرس كل يوم اثني عشر درساً على مشايخه، وضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلاً ونهاراً، وهجره النوم إلا من غلبة، وضبط أوقاته.
وكان يقول: ((إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه)).
أرأيت – أخي القارئ – كيف يستفيد الصالحون من زمانهم بل يسابقونه، مسابقة، وما ذاك إلا لأنهم عرفوا قيمة الزمان وقصره فاستفادوا منه أحسن استفادة.
وقد اكتفيت ببعض سيرة الإمام النووي مثالاً لما أردت إيراده، وفي السلف عشرات من أصحاب الهمم أمثاله، رحمهم الله تعالى جميعاً.
وأورد مثالاً قريباً منّا، وهو الشيخ البشير الإبراهيمي الجزائري، فقد عكف منذ بلغ السابعة على القرآن فحفظه، ثم حفظ كثيراً من المتون في الأصول والحديث، واللغة والبلاغة، ودواوين الشعر، وتصدر للأستاذية منذ بلوغه الرابعة عشر من عمره، وارتحل إلى مصر والحجاز وبلاد الشام واغترف من بحور علمائها، خاصة في المدينة المنورة حيث وضع دعائم جمعية علماء المسلمين الجزائريين هو والشيخ ابن باديس، وكان ذلك سنة 1913، ثم لم تنشأ إلا في سنة 1931 لتكون شوكة في حلوق الفرنسيين، وكان قد تصدر للتدريس في وهران إحدى مدن الجزائر الكبيرة حيث كان يلقي عشر دروس في اليوم الواحد من صلاة الفجر إلى العشاء، ثم ينقلب إلى بعض النوادي الجامعة بعد صلاة العشاء ليلقي محاضرات في التاريخ الإسلامي، وبنى بهمته 400 مدرسة إسلامية ومائتي مسجد للصلوات والمحاضرات مما أفزع المستعمر فنفاه إلى الصحراء، ثم عاد من منفاه ليرأس جمعية العلماء بعد وفاة ابن باديس فحمل المهمة الضخمة، وواصل الليل بالنهار دون نوم في أحيان متعددة، وبعث الهمة في أبناء الجزائر، وبنى المعاهد والمدارس التي كانت تقدم جنود الاستقلال بعد ذلك، ورأى ثمرة جهاده استقلالاً للجزائر سنة 1962 ليحلق بربه راضياً سعيداً سنة 1965، رحمه الله تعالى.
نعم قد يقال إن الإسلام دين شامل؛ فالعمل عبادة، والنوم بنية صالحة عبادة، وهذا صحيح لكني أردت في هذه الفقرة بيان قصر الزمان، وقلة المتبقي منه – بعد قضاء الحاجات الإنسانية من عمل ونوم – للتنافس على الدرجات العالية، وذلك لأن النية الصالحة قد يشترك فيها أكثر الناس، لكن الاستفادة الحقة من الأوقات قد يغفل عنها أكثر الثقات، والله المستعان.
*
مقال مقتطف من كتاب عجز الثقات، ص21 وما بعدها، ط: دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع، جدة، 1998.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق