رَشيد الغُولي
بشكل مختصر أود أن أتكلم معكم، عما يحدثنا به القرآن الكريم، انطلاقًا من وجهة نظر رجل قل نظيره في زحمة هذه الحياة، المليئة بالمتناقضات، وفي نفس الوقت، المليئة بالحكم والعبر لمن أراد أن يعتبر، وكذلك من هداه المولى عز وجل إلى الطريق المستقيم، ومن عليه سبحانه تعالى بنعمة الفكر والتفكر، وأعانه على تحمل المشاق من أجل تحصيل العلم النافع في الدنيا والآخرة.
يقول الدكتور المقتدر جيفري لانج في كثير من محاضراته عبر العالم، وفي كتبه، كلامًا دقيقًا رائعًا جميلًا يستحق منا جميعًا الوقوف عنده، ومذاكرته، قصد بها استخلاص المعاني العميقة، ومعرفة الأسس التي بني عليه هذا الفكر وهذا التفكير، خصوصًا وإذا كان الأمر يتعلق بالتدبر في كلام رب الأرباب رب العرش العظيم، فمن بين الحقائق الدقيقة التي حاضر فيها كثيرًا، حديث القرآن الكريم بشكل مستفيض عن الهدف من الحياة، وأظن أنه موضوع غاية في الأهمية، نظرًا لأن الدين الإسلامي نوعًا ما يعاني غربة طويلة، تستمد قوتها من الحصار الممنهج والمنظم لمجموعة لا بأس بها من اللاعبين المحترفين، فتارةً من طرف الرافضين لمبدأ التدين بشكل عام، وتارة أخرى عن طريق إلصاق التهم وتحميل هذا الدين العظيم، ما لا يمت إليه بصلة، لا من قريب ولا من بعيد، بسبب جهل الأبناء وظلم الأعداء، هذا الدين الذي أسس للرحمة والمغفرة والتسامح والحب والجود والكرم. بالإضافة إلى أن الكثيرين حول العالم عندهم شغف متزايد بسبب كثرة الأقاويل والأكاديب والدسائس التي تحاك حول الحمولة الفكرية والعقائدية لهذا الدين، وقدرته على بناء مجتمع متماسك، ومتزن، ومنتج، وراق، وناجح بكل المقاييس، وفي كل الاتجاهات، وعلى جميع المستويات.
يقول جيفري لانج في معرض كلامه، بأنه يظن أن أول سؤال يود الناس معرفة الإجابة عليه، خصوصًا عند التفكير في دين جديد، هو كيف يقدم هذا الدين الهدف من الحياة، والغرض من وجود الإنسان بصفة عامة، وما هي بنود رسالته قيد حياته، ولذلك سوف نبدأ بإذن الله تعالى من وجهة نظر الملحد، والسبب المباشر أننا نريد التكلم عن نوعية الإجابات التي يحملها القرآن الكريم للملحد. كما أنه قدم للعالم بأسره، وبكل شجاعة وأمانة، في مشهد راق جدًا، الأحدات والتجارب القاسية التي مر بها في طفولته وشبابه، ودفعه دفعًا ليصبح ملحدًا بعدما كان مسيحيًا، ثم في المقابل كيف استطاع تغيير وجهات نظره واعتناقه للدين الإسلامي بعد ذلك.
ولد وترعرع في أسرة مسيحية، وكانت له أم رائعة، قاطعًا قطعًا تامًا بأنها لم تلعب أي دور في تحوله إلى إنسان ملحد. كانت والدته سيدة رائعة تتمتع بالوقار والحب، وكانت محبوبة من طرف جيرانها وعامة الناس، خصوصًا أنها كانت تشتغل ممرضة في قسم الحالات الميؤوس منها، الحالات التي أشرفت على الوفاة.
أما بالنسبة لوالده، فقد كان رجلًا صعب المزاج، ولأسباب غير معروفة، كانت بداخله أحاسيس غريبة، تولد له باستمرار حجمًا كبيرًا من الغضب، فكان في كل ليلة يحاول كبح جماح هذا العنف المكبوت، عن طريق شرب كمية كبيرة جدًا من الكحول، وللأسف الشديد كان هذا الإدمان، يجعله سريع الاستثارة، ويستمر هذا السلوك السيئ، ليلة تلو الأخرى، مما يجعله (الدكتور جيفري لانج) وإخوانه الأربعة، يعيشون حالة من الرعب الدائم، وبحكم أنه الأصغر سنًا، والأكثر التصاقا بأمه، كان هو الأكثر تأثرًا، فكان أسوأ ما شاهده في حياته هو اعتداء والده على أمه، بشكل متكرر ودائم، جعله يعيش كابوسًا يوميًّا، لا يقوى أي طفل على تحمله.
إنه ليس الأسوا على الإطلاق أن يكون الطفل هو الهدف الأهم للأب عند العنف، لكن الكثير من الناس يعتقدون عكس ذلك، إلا أن هذا الأخير يجزم أنه في لحظة الهجوم، لا يفكر إلا في شيء واحد، هو كيفية مقاومة هذه اللكمات، والصبر، حتي يظل على قيد الحياة، فعندما يكون تحت طائلة الضرب، أو اللكم، أو الطرد، أو التهديد، حتما سوف يكون مصدومًا من هول الفاجعة، ولا شيء يدور في فكره وتفكيره غير الهرب، نعم لا شيء غير الهروب من هذا الواقع المرير، لا وجود لأي تفكير بخصوص ما سوف يحدث بعد ذلك، أو في العواقب الوخيمة، أو في الصدمات النفسية، على الأقل وقت حدوت هذه الوقائع الأليمة، لكن ربما بعد أن ينتهي هذا المشهد القاتم برمته، غير الإنساني بالمرة، قد يسامح وقد يلوم نفسه لسبب من الأسباب.
لكن أخطر ما حصل مع جيفري لانج، والذي يعتبره ويصنفه هو شخصيًا بالأسوأ على الإطلاق، هو كمية الرعب المدمر الذي يستحوذ على قلبه وعقله، هذا بالإضافة الى الشعور بالذنب، عندما يرى قساوة الاعتداء الجسدي والمعنوي على والدته، لأتفه الأسباب، وبدون أي سبب يذكر، مع العلم أن هذه الأم هي الشخص الوحيد في هذه الحياة التي كانت تمده بالحب، والحنان الدفئ، والأمان، والحماية.
الشعور بالذنب أسوأ بكثير من الشعور بالخوف، فكل لحظة في ظل هذا الشعور تمر كشهر، وكل شهر منه كسنة، وكل سنة منه بسنين، نعم إنه عمر من الحزن والغبن، يأتيك فيه هذا الإحساس من كل الاتجاهات، من كل حدب وصوب. أولًا لتنامي مشاعر الكره لوالده، لأننا تربينا على احترام آبائنا، ونولد وبداخلنا هذه الرابطة القوية التي تربطنا بهم وتجمعنا معهم، لكن معايشة هذه الأحداث الأليمة، تولد نوعًا من الهياج الداخلي، تتجاذبك المشاعر في اتجاهات متعاكسة، وكذلك شعور بالذنب الناتج عن احتمالية أن تكون أنت السبب الحقيقي في هذه الأحدات، كما أن معرفتك المسبقة بعدم قدرتك على فعل أي شيء من شأنه إيقاف هذا السلوك الطائش يزيد الجرح عمقًا وتعقيدًا، لا سيما وأنه فضل الهروب أو البكاء على المواجهة، وبهذا نكون قد استبدلنا احترامنا لأنفسنا، بأمننا الشخصي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق