رَشيد الغُولي
يقول جيفري لانج إنه عندما كان صغيرًا اعتاد أحلام اليقظة، التي عاش فيها بدون والده، وكل ما كان يريده هو ذهاب العنف دون عودة ولا رجعة، خصوصًا وأن الإحساس بالكراهية يتنامى بداخله ويتضخّم، ليس فقط تجاه والده، ولكن تجاه نفسه على حد سواء، إنه لأمر مروع ومحزن جدًّا أن تجبر طفلًا صغيرًا وتدفعه إلى أن يختار في قرارة نفسه بين أمه ونفسه، بل هو أمر قمّة في الظلم. لم يرد أن يكون خائفًا مرة أخرى، ولا أن يشعر وكأنه محتجز داخل كابوس محكم الإغلاق، بلا أي طريق أو حتى منفذ صغير جدًّا للخروج والمغادرة، لذلك ظل يدعو الله سبحانه وتعالى بأن يزيح والده من حياتهم، لكنه ظل موجودًا حاضرًا بكل قوّة في تفاصيل حياتهم اليومية، ممّا دفعه دفعًا للتساؤل عن حقيقة وجود الإله.
كان جيفري لانج حدثًا صغيرًا، لا يملك من النضج والمعرفة ما يخوّل له معرفة السبب الحقيقي الذي يجعل أمه تتحمل سلوك والده القاسي جدًّا، غير الإنساني، ولا يستطيع تصوّر هذا الكم الهائل من الظلم الواقع على طفل صغير يعاني الويلات كل ليلة، مع وجود المولى عز وجل رب الأرباب، كان حدثًا صغيرًا لا يقدر على فهم هذه المعادلة الصعبة، وكيف لرحمة الله الجبار الرحيم العليم أن تمتد لتشمل رجلًا ظالمًا كوالده. إذن الحقيقة الدقيقة أنه لم يكن يرى في هذا العالم غير الظلم، الفوضى، العنف، والخوف. مما عجّل وجعل التساؤل عن وجود الإله، أمرًا ملحًّا للغاية، بعدما كان ممكنًا عنده، خصوصًا وأنه ابن أسرة مسيحية؛ تربى وترعرع على قيمها، مبادئها ومعتقداتها.
كانت مرحلة مراهقته التي تزامنت مع سن السادسة عشر، وفترة نهاية الستينات وبداية السبعينات، والأحداث السياسية المرافقة لهذه المرحلة، بدءًا بالحروب التي خالفت المنطق في الفيتنام، نقطة التحول الكبرى التي زكّت ودعّمت الدرس الذي يصول ويجول بداخله، الذي ترسخ في عقله الباطن من خلال السّلوك غير المتّزن لوالده؛ مفاده أن هذا العالم مليء بالعنف العشوائي الذي طال الحجر والبشر، لا يفرق بين أحد. هنا بدأ يسأل بإلحاح لماذا يخلق الله سبحانه وتعالى الكون على هذه الشاكلة؟ لم تستطع الكنيسة إقناعه، ولم يستطع تقبل ذلك وجميع الحوارات مع القساوسة، لم تكن منطقية ولا مقنعة بالنسبة إليه.
عند بلوغه الثامنة والعشرين من عمره، تلقى هدية من صديق ذي أصولٍ عربيّة، كانت عبارة عن نسخة مترجمة باللغة الإنجليزية للقرآن الكريم، بعد مدة من الزمن، وفي أحد الأيام الهادئة فتح هذه النسخة المترجمة لكتاب الله، وأخد يقرأ بسرعة الصفحة الأولى ثم الثانية، وهكذا دون تمعّنٍ ولا تدبّرٍ، إلى أن وصل إلى الآية (30) الكريمة من سورة البقرة، التي تتكلم عن قصة البشرية، في البداية لاحظ بعض التفاصيل المشابهة مع ما تعلّمه في طفولته، إلا أنه ظن أنّ هناك خطأ ما؛ كان واضحًا جدًّا له، فقرّر إعادة قراءتها حتى الوصول إلى المعنى الدقيق المقصود، لم يكن موفقًا في ذلك في بداية الأمر، إلا أنه أعاد قراءتها مرات عديدة، ليدرك أخيرًا أن هناك خطبًا غريبًا يجذبه ويقرّبه من السياق العام لمجريات الأحداث، وأن هناك سرًا عظيمًا ورسائل دقيقة وإجابات مختلفة، قد تكون مقنعة، إلى درجة إحداث زلزال عنيف في منظومة فكره وتفكيره بشكلٍ جدري، إذن من الواجب عليه التحلي بالشجاعة، المصداقية، المثابرة، ومن الضروري جدًّا الحرص على قراءة هذه الآيات الكريمات، كلمة كلمة وسطرًا تلو الآخر بتأنٍ، نظرًا إلى أنه من الواضح جدًّا أن هناك طرحًا جديدًا، لوجهة نظرٍ جديدة مختلفة؛ لم يكن متأكدًا ما هي، لكن الحوار يحمل الكثير من المفاجآت، إلى درجة أن كل كلمة تحدث فارقًا كبيرًا، يكون كافيًا لإغراء أيٍّ كان المواصلة والتّتبّع لفصول ما حدث من أجل معرفة المزيد.
يعود الدكتور جيفري لانج مرة أخرى لتأكيد أنه سيحاول جاهدًا وبكل أمانة، نقل تفاصيل هذه التجربة الفريدة من نوعها للجميع، أو بعبارة أدق التطرق لتفاصيل هذه الخبرة التي مرّ بها في كيفية تدبّره لكتاب الله عز وجل. الآن وصل في قراءته إلى الآية الكريمة رقم (30) من سورة البقرة، يقول فيها رب الأرباب «وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً ۖ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ۖ قال إنّي أعلم ما لا تعلمون». ومعنى الآية الكريمة: واذكر – أيها الرسول- للناس حين قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض قومًا يخلف بعضهم بعضًا لعمارتها. قالت: يا ربّنا علّمنا وأرشدنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أنّ من شأنهم الإفساد في الأرض وإراقة الدماء ظلمًا وعدوانًا ونحن طوع أمرك، ننزّهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، ونمجّدك بكل صفات الكمال والجلال؟ قال اللّه لهم: إني أعلم ما لا تعلمون من الحكمة البالغة في خلقهم.
هذه الآية الكريمة المباركة هي التي انتشلت قلبه انتشالًا من براثين الإلحاد، وسلّمت عقله من الضياع والجنون، نتيجة الجهل التّامّ بأمور غيبيّة جد معقّدة، فخطفت انتباهه، وجعلته يقرأ هذا الحوار عشرات المرات، مرارًا وتكرارًا دون كللٍ ولا مللٍ. قد يكون السبب واضحًا بالنسبة إليه في بداية الآية: «وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً». لقد فهم أن الله سبحانه وتعالى خلق ممثلًا رسميًّا عنه سبحانه، ووكيلًا له يتصرف بالنيابة عن إرادته عز وجل، مع هذا كان يظن أن الأمر ليس كذلك، بل لم يوضع الإنسان على هذه الأرض للقيام بدور إيجابي، بل بسبب خطيئته والذنب الذي اقترفه بإغراء من الشيطان الرجيم، حتى إنه ظنّ لوهلة أن السبب غير واضح، وأنه لا يستطيع إدراكه، إلا أنه كان منبهرًا بالبلاغة والدقة في التعبير التي يظهر فيها جليّا الإعجاز اللغوي الذي يستحيل أن يكون من صناعة البشر مهما تمتع بالفطنة، والعمل، والمعرفة، والذكاء.
ثم أتى الشطر الثاني من الآية الكريمة عند قول الملائكة: «قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ۖ قال إنّي أعلم ما لا تعلمون». نظر إليها مرة أخرى ولم يكن يصدق السؤال، إلاّ أنه أدرك حقًّا بأن هذا هو سؤاله الذي أرّقه لسنوات مضت، وهو كالآتي: لماذا هذا المخلوق الذي تفترض وجوده من أجل دور إيجابي، في الوقت الذي يمتلك فيه القدرة والجرأة على فعل القبائح؟ في الوقت الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء «لم ينته بعد من سرد سؤاله»، لماذا تخلق هذا المخلوق العدواني؟ في الوقت الذي تستطيع خلق الملائكة؟ كما قالت الملائكة بوضوح في منتصف الآية: «ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك».
إنهم يسألون أحد أكثر الأسئلة أساسية وأهمية في تاريخ الأديان قاطبة؛ لماذا تخلق الإنسان المخطئ، ذاك المخلوق الذي يمكنه التمرد على إرادة الله عز وجل، ويقوم بأشد الأمور سوءًا، كما لم يقم أي مخلوق آخر على وجه الأرض، هذا في الوقت الذي يمكنك جعله مثل الملائكة؟ ويزيد من استغراب الدكتور جيفري لانج الشاب الملحد حينها، أن هذا السؤال يطرح ويسأل في الجنة من طرف الملائكة، وكأن لسان حالهم يقول لماذا لا تجعلهم ملائكة واجعلهم هنا معنا؟ لماذا تضعهم على الأرض، حتى يشعرون بالبعد عنك فيقومون بكل أشكال الجرائم والمحرمات، شاعرين بالاستقلالية عنك سبحانك، في الوقت الذي يمكنك أن تضعهم في الجنة خاضعين لإرادتك.
نظر مجددًا إلى هذه الآية المباركة، وأقر في قرارة نفسه بصدق معانيها الجليلة، وأحس إحساسًا رهيبًا، رغم أنه لم يتقدم بعد في الاطلاع على قصة البشرية في القرآن الكريم، فإنه وجد سؤاله في مواجهته، نعم وجد ضالته، وجد ما كان يفكر فيه، بعد كل ما عايشه من أحداث، وخبره في حياته من تجارب، كانت في قلب هذا السؤال ولبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق