الأحد، 6 يناير 2019

جيفري لانج.. والهدف من الحياة! ج(4)

جيفري لانج.. والهدف من الحياة! ج(4)



فَنُّ التَدَبُّرُ فِي القُرآن الكَرِيم


يؤكد الدكتور والفيلسوف والرياضياتي جيفري لانج أنه لم يجد مِن قبل نصًا مقدسًا يضع كل هذه المؤكدات على استخدام العقل بشكل صحيح، كما وجده في كتاب الله عزّ وجل. فانطلاقًا مِن الآية الكريمة: {وعلّم آدم الْأسْماء كُلّها ثُمّ عرضهُمْ على الْملائِكةِ فقال أنبِئُونِي بِأسْماءِ هٰؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صادِقِين} [البقرة : 31]. بِمعنى: وبيانًا لفضل آدم عليه السلام علّمه اللّه أسماء الأشياء كلها، ثم عرض مسمياتها على الملائكة قائلًا لهم: أخبروني بأسماء هؤلاء الموجودات، إن كنتم صادقين في أنكم أوْلى بالاستخلاف في الأرض منهم.
إذن بما أنكم معترضين أو تتساءلوا عن خلق الإنسان، ها هُو هذا الإنسان، تعرفوا عليه، واعلموا أنه كائن متعلم، منحْتُهُ العدِيد مِن القدرات العقلية، وسأضع هذا التحدي أمامكم لِكيْ تُخبروني بأسماء هذه الأشياء كلها، إن كنتم محقين بشأن الإنسان. ما كان ردُّ الملائكة؟ الرّد في الآية التالية: {قالُوا سُبْحانك لا عِلْم لنا إِلّا ما علّمْتنا ۖ إِنّك أنت الْعلِيمُ الْحكِيمُ} [البقرة : 32]. بمعنى أن الملائكة قالت: ننزِّهك يا ربّنا، ليس لنا علم إلا ما علّمتنا إياه. إنك أنت وحدك العليم بشئون خلقك، الحكيم في تدبيرك. إذن أقرُّوا أن هذه المهمة العقلية شديدة البُعد عن قُدُراتهم، وقالوا لا علم لنا، أي لا نمتلك القدرة على التعلم إنك أنت العليم الحكيم. لأن هذا يحتاج لمهارة تفوق قدراتنا، وبالتالي نقرأ في الآية التي تليها: {قال يا آدمُ أنبِئْهُم بِأسْمائِهِمْ ۖ فلمّا أنبأهُم بِأسْمائِهِمْ قال ألمْ أقُل لّكُمْ إِنِّي أعْلمُ غيْب السّماواتِ والْأرْضِ وأعْلمُ ما تُبْدُون وما كُنتُمْ تكْتُمُون} [البقرة : 33]. وتفسيرها أن الله قال: يا آدم أخبرهم بأسماء هذه الأشياء التي عجزوا عن معرفتها. فلما أخبرهم آدم بها، قال اللّه للملائكة: لقد أخبرتكم أني أعلم ما خفي عنكم في السموات والأرض، وأعلم ما تظهرونه وما تخفونه.
فطِن جفري لانج بأن الملائكة لاحظوا كيف أن المهمة كانت سهلة ويسيرة على سيدنا آدم. القدرة على التعلم بالنسبة للبشر أمر بديهي وغاية في السهولة، لأن سيدنا آدم مُجرّد ما تلقّى الأمر من الله سبحانه وتعالى، نفذه مباشرة وأنبأهم بأسمائهم فورًا. والآن واضح أن الله سبحانه وتعالى، يُعلِّق على سؤال الملائكة الأول. نعم لكم الحق في تساؤلاتكم عن طبيعة البشر، نعم يمكنهم القيام بهذه القبائح، ولكن انظروا لهذه الإمكانيات العقلية المذهلة التي يملكها الإنسان، هذا الأمر قد أغفلتموه وهذا هو الهدف من هذه الآيات . فعلى الرغم من أن الدكتور جيفري لانج شعر بأن القرآن الكريم قد حوّل القضية في اتجاه إيصال رسالة جديدة بالكلية.
بالرجوع إلى الجزء الأخير مِن الآية [البقرة : 33]: {قال ألمْ أقُل لّكُمْ إِنِّي أعْلمُ غيْب السّماواتِ والْأرْضِ وأعْلمُ ما تُبْدُون وما كُنتُمْ تكْتُمُون}. نظر إليها طويلًا وقال في نفسه ما الذي أبْدُوه وما الذي كتمُوه؟ ما الذي أظهره سؤالهم وما الذي أخفاه؟ لمْ يستطيع الإسْتِرْسال في القراءة، يقول فكرت في ذلك ملِيًّا، حتى أصبح الأمر واضحًا، إذن ما الذي أظهره السؤال (يحاور نفسه)؟ الأمر سهل جدًا، دعونا نرجع له، إنه يضهر قدرات الإنسان على فعل الشّر وإحداث البشاعات، ولكن ما الذي يخفيه السؤال؟ كل ما عليكم هو التفكير لِلحْظة واحدة؟ نعم يستطيع البشر القيام بالشرور، ويستطيعون القيام بالعكس تمامًا، يُمْكنهم اختيار عمل الشر وكذلك اختيار عمل الخير، يُمْكنهم أن يُحدثوا العنف، ويُمْكنهم أن يظهروا الرحمة، يمكنهم العيش بالخطأ، ويمكنهم العيش بالصواب، يمكنهم أن يكونوا شديدوا القبح، ويمكنهم أن يكونوا في قمة الروعة والرُّقِيِّ والجمال.
الآن، وقبل مواصلة هذا الحديث الشيق، وهذه التجربة الراقية جدا، في كيْفِيّة التعامل مع كلام الله عزّ وجل، يروق لي الكلام قليلًا، وبشكل مختصر، عن مفهوم التّدبُّر، والفرق بيْنه وبين التّفْسِير والتدارس، والمجالات التي تخُصُّ التفسير، والمجالات التي تتعلق بالتدبر. نبتدأ بمفهوم التفسير أوّلًا، إذ انه مفتاح للتدبر ومقدمة له. أما التفسير لغةً فهو مِن الفسْرِ وهو الكشف، الإيضاح والبيان، أما المقصود بتفسير القرآن الكريم هو بيان معاني آياته وما يتعلق بها للفهم، مِن أسباب النزول، والقراءت، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك، إذن التفسير يرتكز على قضية بيان المعنى.
أما التدبر فهو التفكير والتأمل على مهل، والنظر في عاقبته ونهايته، أي استغراق الذهن في التفكير في موضوع ما، إلى حدٍّ يجعلُه يغفل عن الأشياء الأخرى المحيطة به، وهو تصرُّف القلب بالنّظر في الدلائل، والمقصود بتدبر القرآن الكريم، هو النظر والتأمل في الآيات للوصول لِمُرادِ الله عزّ وجلّ وما يلْزم ذلك مِن الإيمان والعِلْمِ والعمل. مِن أجل التوضيح أكثر، يمكننا القول، أن التفسير يُعْنى بِكشف المعنى للفهم، والتدبر يُعْنى بِكشف المُراد والمقصود للإيمان والعمل، إذن غاية التفسير هي الفهم، وغاية التدبر الإيمان والعمل، كما أن التفسير يعتمد على أدوات كاللغة والأصول وغير ذلك، وهو واجب العلماء، أمّا التدبر يعْتمد على إعمال الفكر، وتحريك القلب، وتفاعل الجوارح، وهو واجب الأمة جمعاء، لكن ينبغي لنا أن نعلم كما أن التفسير مراحل، منه تفسير المعنى العام، ثم الدخول في غايات، أيضًا التدبر مراحل، مِنه فهم المراد ابتداءً، وبعد ذلك كل ما يتعّلّق بالدخول في أسرار الآية ودقائقها ولطائفها.
إذن بعد هذا البيان المقتضب نخلص إلى أن هناك جوانب تُعْنى بالتفسير، لتبيِّن المعنى، ومنها غريب القرآن، والمعنى العام، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات، والمسائل الخلافية، وأوجه الإعراب. وهناك جوانب تتعلق بالتدبر، وتبين المقصود والمراد، ومن أهمها المقاصِد، المُناسبات، الجوانب الموْضُوعيّة، الجوانب البلاغِيّة، المُسْتنْبطة مِن الآيات، والهِدايات والدروس المستنبطة من القصص، ومصطلح الاستنباط مأخود في اللغة من النّبط وهو استخراج الشيء الخفيِّ، والمقصود به اصطلاحًا استخراج المعاني الدقيقة الخفية من الآيات، بمعنى أدق الاستنباط نوع دقيق من أنواع التدبر، وهو مرتبة عُليا.
يقول جيفري لانج حتى هذه اللحظة كنت أرى وجهًا واحدًا للعملة، ولأول مرة في حياتي تبين لي جيدًا، عند قراءتي لهذه الآيات العظيمة. لقد أقر بأنه أبصر الحقيقة التي كانت غائبة عليه، إذ كان دائمًا تفكيره مشغول بالشر الكامل في البشر، لكنه أدرك أخيرًا أنه يمتلك مثالا شخصيًّا حيًّا معاشًا أمامه، إنها أمّه، وأدرك أنه كان مصابًا بالعمى بسب جانب واحد من طبيعة البشر، المتمثل في سلوك وطباع أبيه القبيحة، متناسيًا طباع أمّه الحنونة الوقورة اللطيفة الصبورة، التي كانت تُمتِّلْ كل شيء جميل في حياته.
يقول المولى سبحانه: {وإِذْ قُلْنا لِلْملائِكةِ اسْجُدُوا لِآدم فسجدُوا إِلّا إِبْلِيس أبىٰ واسْتكْبر وكان مِن الْكافِرِين} [البقرة : 34]. آية مؤثرة جدًّا قلبت مفاهيمه وصححت مساراته، ففهِم وأيْقن منها، ومن آيات أخرى، في مواضيع أخرى من القرآن، أن هذه الكائنات الملائكية سيخدموا نمو وتزكية البشر، بل إنه سيرى لاحقًا أن الكائنات الشيطانية (إبليس وأعوانه) ستخدم هي الأخرى نمو وتزكية البشر، كِلا القُوّتيْن الشيطانية والملائكية سيخدمون نمو وتزكية الجنس البشري، لأن أحدهما سيدفع الإنسان للقيام بالأعمال الجيدة والآخر سيدفعه في الاتجاه المعاكس.
إذن الحقيقة الدقيقة هي أن البشر كائنات أخلاقية، يتوجب عليها اتخاد قرارات أخلاقية، ومن خلال هذه الخيارات الأخلاقية ستتزكّى النفس البشرية، وسينتقلون بهذه النفس التي تزكّتْ للدار الأخرة وستكون القوى الملائكية والقوى الشيطانية عوامل محفزة لعملية النمو والتزكي، ستُعلِّي تلك القوى من إدراك البشر للخطأ والصواب في الخيارات الماثِلة أمامهم وسيتحتّم على النفس أن تختار بين الخير والشر، وهذا الاختيار أو الابتلاء سيتكرر مرارًا وتكرارًا، فإما أن تتزكى النفس البشرية، أو تنْحط، وهذه الاختبارات ستستمر مرات عديدة لمحاولة الارتقاء الروحي للإنسان لتعيده مرة أخرى للجنة، لكن هذا الاختيار اختياري وبمحض الإرادة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق