الاثنين، 3 فبراير 2020

حوار التنوير في منزل القرضاوي

حوار التنوير في منزل القرضاوي


مهنا الحبيل
بغضّ النظر عن جدل المتفقين والمختلفين مع العلّامة يوسف القرضاوي، فإن هذه الشخصية هي من أبرز شخصيات الفكر الإسلامي المعاصر، وهناك خلافٌ مع الشيخ داخل أروقة البحث الإسلامي وخارجها، لأسباب سياسية أو فكرية بعد أحداث الربيع العربي، بعضُه توظيفٌ بحت، وبعضه جدل علمي مستحق من تياراتٍ مختلفة، وبعضُه بسبب استهداف الغرب وتل أبيب تحديداً لشخصه، وهو ما يُفسّر اتحاد بعض أنظمة الاستبداد العربي، مع مركز القرار الغربي، بعد موقف الشيخ القرضاوي من دعم الربيع العربي.
ذلك كله لا ينفي أو يقلل من مكانة القرضاوي في مسيرة هذا الفكر، وأول ما يجدر التنبيه إليه أن تناول هذه الشخصية الكبيرة هنا إنما في معرض الدور الفكري الذي قامت به طوال حياتها العلمية، ومجمل مواقفها، وليس من خلال تجاربها السياسية، أو حتى أخطائها، التي ابتسر بعضها المخالفون، وبعضها صدر في حالة انفعال، استثمرتها كتل الصراع في الوطن العربي الكبير.
وهنا من المهم للغاية ألا يُسقَط تاريخ العلامة القرضاوي الفكري، ودوره الإحيائي الكبير، بل والتنويري، وهو ما قد يحتجّ عليه بعض قراء هذا المقال، بسبب أن للقرضاوي اجتهادات أو مواقف خاطئة. وسوف أوضح هذا المسار في ثنايا هذا المقال ورسالته الفكرية، كما أن لي رأيا شخصيا بناءً على متابعتي القديمة لفكر القرضاوي وأطروحاته، وحراكه بين المجموعات الثقافية المتعددة، خلال نشاطه وصحته.
وهو أن مآل اتحاد علماء المسلمين، وتحوله إلى منظمة سياسية للحركة الإسلامية الحزبية في الوطن العربي وتقاطعاتها، لم يكن الهدف الفكري الذي سعى إليه العلامة القرضاوي، بل كان هدفه مختلفاً عن هذا المآل الذي أضرّ بالحركة الإسلامية نفسها، وزاد عزلتها، في وقتٍ هي في أمسّ الحاجة إلى حلفاء مستقلّين عن منظوماتها الحزبية، وكان هذا الهدف الفكري متفقاً مع توجه الشيخ الأسير، سلمان العودة. وأقول ذلك من خلال معرفتي لفكري الرجلين، وليس هذا المقال لنقد الاتحاد أو تقييمه، وإنما للتذكير بضرورة أن نعرض لتاريخ القرضاوي الفكري المستقل.
ومنذ فترة وأنا حريص على ملاقاة العلامة يوسف القرضاوي، حيث كان منعي من السفر سنوات طويلة، ثم استقراري في المهجر، حائلاً دون الجلوس إلى الشيخ وزيارته الواجبة، تقديراً لدوره الكبير، وقد أُتيحت الفرصة هذا المرة خلال زيارتي القصيرة للدوحة، ومناسبة أول معرض أحضره بعد تدشين كتاب "في سبيل التنوير"، فقدمت على الشيخ القرضاوي حاملاً نسخة إهداء خاص، لم تكن بالطبع لحصة قراءة إضافية للعالم الكبير، ولكنه عرفانٌ له ولجهوده، ولنحته الفكري الأول في درب التنوير الإسلامي.
وهناك شبابٌ كثيرون لا يعرفون أن جهود القرضاوي في مسيرة الاعتدال الإسلامي، وفتح آفاق المعرفة، وأنه كان يمثل مساراً تجديدياً، واجه عمليات قمع ممهنجة، من تيارات غلوٍّ وعنفٍ وتشدد، ومن حكوماتٍ رأت فيه قبل الربيع العربي، محفزاً لروح العدالة والحرية السياسية في الوطن العربي الكبير، وأن القرضاوي، كان في زمن هيمنة الغلو والتشدد، رافعة رأفة للشباب 
ووعيهم، وداعية الحكمة والتواصل والاتحاد في المشتركات مع كل تعدّد وطني أو ديني مختلف. وكان من أوائل الداعين المثابرين إلى الحوار الإسلامي العلماني، والحوار القومي العلماني، وأن صلف الخطاب الديني في زمن الغطاء الأميركي لبعض نشاط الصحوة الخليجية الذي دعم سعودياً، مثّل القرضاوي فيها، غيمة أمل وسحابة رحمة، ودلالة رشادٍ للشباب في ذلك الوقت، وخصوصا تلك المُهج التي فزعت من شراسة وغلظة الخطاب الديني الذي خالف المنهج الإسلامي وجوهره الأخلاقي، وإن كانت لغة اليوم ومسارات الجدل الفكري قد تجاوزت تلك التحدّيات إلى تحدّيات أخرى.
مع بقاء إرث الخطاب المغالي مهيمناً اليوم على تكتلاتٍ ليست قليلة، ولسنا نرفض أن يكون لهذه المجموعة ولا تلك حق حفاظها على خطابها ورؤيتها المحافظة، ولكن الإشكالية توظيف هذا الرفض لمحاربة رؤى الإصلاح الإسلامي الذي يملك أيقونات تحرير مسائل الجدل، وحمل الناس على فهم مقاصد الإسلام في العدالة الاجتماعية، ومفاهيم الحقوق الإنسانية المتفقة، مع فطرة الحياة والوجود البشري.
وعلى الرغم من تراجع صحة الشيخ، إلا أنه منحني اهتماما واستماعا مركّزا، يدرك تماماً ما أطرح بين يديه، ولقد ذكّرت الشيخ بكتابه "الحركة الإسلامية والتحدّيات المعاصرة"، وقد قرأت غالبية كتب الشيخ ودرستها، مبكّراً في حياتي، وله فضل متقدّم علي، وإن بقيَ لهذا القلم 
المتواضع مساحته الخاصة التي يختلف فيها مع بعض رؤى الإمام القرضاوي. فأشرت له إلى المعاناة والألم الذي أظهره في الكتاب، من تراجع فقه الاعتدال في مؤتمرات المهجر منذ ذلك اليوم، وقلت له وقد انشرح لهذا الحديث، لقد مثّل القرضاوي والغزالي مسار الإنقاذ الفكري للخطاب الإسلامي، حين عجزت المكتبة التربوية للحركة الإسلامية عن فهم قواعد خطاب النهضة والإحياء والتنوير الأول. ثم مازحت الشيخ بأن بعض الأصدقاء من إخوتي علماء السلفية في القصيم هم اليوم أكثر تسامحاً ووعياً من بعض قادة توجيه العمل الإسلامي في الغرب. وهنا أنا أمام وقفة مهمة، بأن تذكيرنا بأخطاء هذه المجموعات والتيارات الفقهية، أو الحزبية في الوطن العربي، لا يهوّن من جريمة ما تعرّضوا له من بطش الاستبداد، كما أنه لا يلغي جهودهم الإيجابية، ولا تطور خطاب المعتدلين منهم. ولكننا اليوم نعاني أزمة فهم عميقة في المهجر الغربي أو الشرق، وكيف يواجه الفكر الإسلامي قضايا الجدل المعاصر التي تعصف بمهج الشباب، وكيف يعالجها عبر جوهر الإسلام الأخلاقي والفلسفي والنهضوي، من مقاصد أصوله، فهذا الخطاب محلّ حصار شرس. حينها، التفت عليَّ الشيخ، ورد باهتمام بالغ بهذه الكلمات، مؤكداً على المعنى ذاته، الإسلام رسالة رحمة وانفتاح وتواصل، انفتحوا على مجتمعاتكم الجديدة والأقليات، فالإسلام رسالةٌ عالميةٌ للحاضر وللمستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق