المقال الأسبوعي من أية ماركة قميصك؟!
الشيخ كمال الخطيب
المقال الأسبوعي
من أية ماركة قميصك؟!
البحث عن الماركات العالمية الشهيرة، وشراء منتجاتها، باتت هي الموضة والظاهرة المنتشرة اليوم وفي كل نواحي الحياة، وسواء كان ذلك في البدلات الرسمية والقمصان، والأحذية والألبسة الرياضية بكافة أنواعها، أو حتى الأطعمة والعطور وغيرها.
في زمن اجتمع فيه على الناس كثرة الأموال وبحبوحة العيش، ومعها الجري خلف المظاهر والبريق، فإننا نجد اندفاع جيل الشباب، خاصة، على اقتناء منتجات هذه الماركات، وكأنها تضفي مزيدا من الاحترام لمن يلبسها، حتى أن البعض ما أن يلتقي بآخر حتى تكون أول نظرة تكون منه باتجاه الرمز والعلامة التجارية للماركة التي يلبسها والمنقوشة على يسار صدره.
وسعيا لإعادة تصويب البوصلة في الاتجاه الصحيح لأبنائنا وشباننا، حتى يعودوا لأداء الدور الريادي في نصرة شعوبهم وأمتهم فغن ما يجب أن يشغلهم ليس ماركة القميص والحذاء، واسم الشركة أو الدولة المنتجة وإنما صفات لابس القميص. وعليه فإننا نقف مع قصص عدد من القمصان في التاريخ، وكيف فعل لابسوها، والتغيرات التي أحدثوها في مجتمعهم، بل كيف أحدثوا انعطافا في مسيرة التاريخ.
# قميص الشرف
إنه قميص الأمير البطل أبو المظفر شهاب الدين الغوري؛ أحد أمراء المسلمين في الهند، الذي خاض معارك فاصلة ضد الهنود. وكان أن خسر معهم في معركة فاصلة عام 1199م- 596 هـ. لكنه عزم على الاستعداد والانتصار عليهم واسترداد ما اغتصبوه من ارض المسلمين، ولكنه قبل ذلك فعل أمرين اثنين؛ أما الأول فقد رفض أن يشارك معه القادة الذين هربوا في المعركة الأولى التي خسروها، بل وعاقبهم لما أمر بتعليق مخلاة شعير في رقبة كل واحد منهم تقريعا وتوبيخا لهم. وأما الشيء الثاني الذي فعله فإنه أقسم أن يلبس قميصا أبيض اللون هو كفنه، وألا يخلعه أبدا حتى ينتصر في معركته القادمة ضد الهنود. وفعلا ظل يلبس قميص الشرف والرجولة مدة خمس سنوات لم يخلعه، وهو يستعد لمعركته، وقد قال جملته الشهيرة: (إنني ومنذ هزمني هذا الكافر ما نمت مع زوجتي على فراش، ولا غيرت ثياب البياض عني (ثوب الكفن) وإنني سائر إلى عدوي، معتمد على ربي، فإن نصرني الله سبحانه ونصر دينه فمن فضله وكرمه، وإن انهزمنا فلا تبحثوا عني، فلن أنهزم ولو هلكتُ تحت حوافر الخيل). إنه قميص شهاب الدين؛ قميص الشرف والعزة والبطولة. فمن ماركة الشرف والعزة يجب أن نلبس قمصاننا، وما سوى ذلك فإنها قمصان الذلة والهزيمة، ولو كانت من أشهر الماركات العالمية.
# قميص إيزابيلا
ليست البطولة حكرا على المسلمين، ولا حب الوطن شيء نحتكره نحن دون غيرنا. بل إن التاريخ سطر صفحات من البطولة كتبتها أيدي رجال ونساء من تلك الشعوب. وكان من هؤلاء إيزابيلا؛ الأميرة الإسبانية التي خاضت معارك ضد المسلمين، واستطاعت أن تطوي صفحة الوجود الإسلامي في الأندلس، بسبب ما آل إليه أمر المسلمين هناك بعد 800 عام، بعد إذ انحرفوا عن الجادة، وانشغلوا بالترف والمجون، ودبت بينهم الفرقة والانقسامات.
أما إيزابيلا فإنها أقسمت ألا تخلع قميصها حتى تطرد المسلمين من الأندلس، وكان لها ذلك بعد ثلاثين سنة من قسمها هذا، حتى أنها سميت في كتب التاريخ باسم (صاحبة القميص العتيق). وسواء كان قميص الأمير شهاب الدين أو الأميرة إيزابيلا فإن فيهما الإشارة والدلالة على أن كل من يريد الوصول إلى هدف فإنه يصل إليه ويحققه إذا أشغل نفسه بالأمور الكبار، وترفّع عن صغائرها والتافه منها.
فهل لبناتنا وفتياتنا، اللائي يشغلن أنفسهن باللهث والجري خلف الموضة ودور الأزياء والماركات الشهيرة، بينما لا يشغلهن من قضايا الأمة وهمومها أي شاغل، أن يدركن أنّ أفضل الماركات ليست ماركة باريسية ولا إيطالية، وإنما هي ماركة الأصالة والعطاء والإباء؟ إنها ماركة مريم بنت عمران وأسيا زوج فرعون وخديجة بنت خويلد وماركة فاطمة الزهراء.
# قميص العطاء
إنه القميص الذي بيّن وشرحَ مواصفاته الدكتور محمد أحمد الراشد في كتابه "المسار" لما قال: (فالاستعداد للموت في سبيل الله، وبذل الروح، ووضع قطرة الدم في الحساب، صفات أساسية في الروّاد، لقميص كل منهم زر واحد وليس أزرارا عشرين، فإذا طلب منه أن يفتح صدره للسهام وللرصاص دفاعا عن أمته فتحه دونما تأخير وتسويف، وكل منهم روحه في يده، إذا قيل له: هات روحك! قال: هاك! وليست روحه في القفص الصدري يريد مهلة لفتح القفص فيفتش عن مفتاحه في جيوبه فلا يجده، فإذا ذهب إلى بيته ليجلبه وجد حسن زوجته وجمالها يخذله فيعود يعتذر ويبرر).
إن من مواصفات قميص العطاء من ماركة الراشد, أنه قليل الأزرار ليكون صاحبه مستعدا وجاهزا للعطاء بلا تردد ولا تأخير، فلا يتذرع بكثرة أزرار قميصه إن دعا الداعي أو نادى المنادي. وإن ما يمر به شعبنا وتمر به أمتنا يتطلب من أبنائنا العطاء والبذل، فلا يبخلون بشيء في سبيل نصرة قضايا أمتهم وشعوبهم.
إن الأزرار الكثيرة في القميص تعني مزيدا من فُرص التردد والتراجع، والتفكير بالمصالح والحفاظ عليها، والمكتسبات المادية وعدم تعريضها للخطر. فلا يكن قميصك إلا من ماركة قميص العطاء ذي الأزرار القليلة.
# قميص يوسف
إنه يوسف الصديق عليه السلام. وقد وردت قصة قميصه ليس في صحيفة ولا في كتاب، بل إنه أصدق كتاب؛ كتاب الله تعالى القرآن الكريم. ولقد ورد ذكر القميص في أكثر من مشهد ووصف في سورة "يوسف".
فمرة جاء ذكر القميص في قصة غدر إخوته به واحتيالهم على أبيهم يعقوب عليه السلام، لما طلبوا أن يأذن لهم أن يصطحبوا معهم يوسف عليه السلام ليدبروا مكيدة التخلص منه، وادعوا أن الذئب أكله: (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ؛ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) سورة يوسف. إنه قميص الغدر.
وفي آيات أخرى ورد ذكر القميص في دلالة على الطُّهر والعفة من يوسف عليه السلام، حينما أرادت امرأة العزيز أن تراوده عن نفسه فأبى وامتنع: (وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿25﴾ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴿26﴾ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ﴿27﴾ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴿28﴾ سورة يوسف. إنه قميص الطُّهر والعفة.
وفي آيات أخرى من سورة "يوسف" ورد ذكر القميص في إشارة ودلالة على الأمل والتفاؤل والفرج وأن بعد العسر يسرا، وذلك حينما خلع يوسف قميصه وأعطاه لإخوته الذين جاؤوا إليه في مصر، وهم الذين باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، وطلب منهم أن يلقوا القميص على وجه أبيهم، فإنه عندها سيرتد إليه بصره الذي ذهب من كثرة الحزن والبكاء على فقدان يوسف وأخيه: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) 93 سورة يوسف.
إنها ماركة يوسف؛ القمصان فيها تتميز بالعفة والطهر، وليست قمصان الفسق والرذيلة. إنها قمصان الوفاء، لا قمصان الغدر والاحتيال والمكر. إنها قمصان الأمل والتفاؤل لا قمصان اليأس والإحباط والتشاؤم.
أيها الشبان؛ فمن ماركة قميص يوسف تكن قمصانكم، فإنها أشهر ماركة وإنها الأفضل والأجمل. فإذا كانت الماركات العالمية اليوم تستخدم شبانا أنيقين ووسيمين لتلبسهم القمصان التي تنتجها ليكون هؤلاء وسيلتها لنشر وترويج قمصانها، فإن أكثر الشبان أناقة ووسامة هو يوسف عليه السلام، من يوم أن خلق الله آدم، ولذلك فإن أهل الجنة يكونون على جمال يوسف. فلتكن قمصانكم من ماركة يوسف؛ ماركة العفة، فإنها الأفضل يلبسها الشاب الأجمل.
# قميص عثمان
إنه ذلك القميص الذي كان ملطخا بالدم، رفعه أهل الشام يوم الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. لقد رفعوا القميص واحتشد تحته خمسون ألفا يلوّحون برماحهم وسيوفهم ويصيحون يا لثارات عثمان!
إن قميص عثمان رُفع لمزيد من التحريض والعداء لعلي كرم الله وجهه، وكأنه هو السبب في قتل عثمان، أو في الحد الأدنى لم يدافع عنه، مع أن الحسن والحسين رضي الله عنهما كانا في بيت عثمان رضي الله عنه. أو أنه لم يقتصّ من قتلة عثمان، وفي هذا كله الظلم بعينه لعلي كرم الله وجهه. لقد أصبح "قميص عثمان" مثلا يتردد على الألسن حينما يراد الإشارة إلى من يستغل شيئا أو ظرفا للوصول وتحقيق مصالح. إنه استغلال قميص عثمان الملطخ بالدم لتحقيق مكاسب.
أيها الشبان؛
لتكن قمصانكم مثل ومن ماركة قميص عثمان، ليس بعد إذ استغله المفتنون في تأجيج الفتنة، ولكن قبل ذلك حينما ناشد عثمان بالله من جاؤوا للدفاع عنه من أبناء الصحابة ومن حراسه وخدمه ألا يرفعوا سلاحا، لأنه ما أراد أن يراق دم مسلم بسببه.
فلتكن قمصانكم من ماركة الطهر والأصالة، وليس من ماركة الفتنة والعبثية. فكم من الناس اليوم من يرفعون رايات وشعارات كلها الزيف والكذب، يلوحون بها يزعمون أنهم يريدون الوصول إلى الحقيقة ليس غيرها. إنهم يتخذون شعاراتهم الكاذبة كقميص عثمان.
فلتكن قمصانكم من ماركة قميص عثمان لما رفض أن يعتزل الخلافة لفعل تأثير المفتنين والمنافقين، وقال جملته المشهورة: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن الله عز وجل كساك يوما قميصا، وإن أرادك المنافقون أن تخلعه فلا تخلعه)، ولهذا كان جوابه لهم لما طالبوه بالاعتزال: (ولست خالعا قميصا كسانيه الله تعالى، حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاوة).
أيها الشبان؛ فلا تلبسوا قميص عثمان الملطخ بالدم؛ قميص الفتنة، والبسوا قميص عثمان؛ قميص الثبات على المبدأ والإصرار على الحق مهما كان الثمن.
وإياكم أن تصدقوا المجرمين والقتلة من أعداء الأمة؛ روسيا وأمريكيا، الذين يدعون أنهم يحاربون الإرهاب، يجعلون هذا الشعار كقميص عثمان، وهم في الحقيقة يريدون حرب الإسلام.
# قميص الأمل
إن قصة القميص وردت في قصيدة "ثورة لاجئ" نظمها الدكتور يوسف القرضاوي، وضمها ديوان شعره (نفحات ولفحات) والتي كما قال في مقدمتها: (لقيته غلاما لم يبلغ الحلم، قد فر من خيام اللاجئين باكيا حزينا حانقا، فكان بيني وبينه حوار سجلته في هذه القصيدة).
وإنني وبتصرف في بعض الكلمات أنقل بعض أبياتها، حيث ينفث الشيخ روح الأمل في ذلك اللاجئ الفلسطيني الصغير، يطلب منه أن يخلع قميص اليأس والأسى, وأن يلبس ثياب الأمل والتفاؤل بالعودة إلى فلسطين مهما طال الزمان:
فاخلع قميص الأسى واليأس مرتديا
ثوب الجهاد نشيطا غير كسلان
تعلم المجد في سرٍّ وفي علَن
فوق الجبال وفي سهل ووديان
واجمع رفاقك وانفخ في عزائمهم
مما بصدرك من عزم وإيقان
ولن تروا بعدُ منّا أمة همجًا
تمضي سفينتها من غير ربان
ويل لمن حسبونا قطعةً نظمت
من غير قافية من غير أوزان
معاذ ربي أن تنحلّ عُرْوَتُنا
أو أن نتيه وفينا نور قرآن
# قميص التقوى
إنه القميص الذي سماه الله في قرآنه وحبب إلينا لباسه: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) الأعراف:26.
إنه أفضل من قمصان ريش النعام ومن قمصان الحرير، لأنه القميص الذي اختاره الله لنا: "ولباس التقوى ذلك خير".
إن كل ملابس الدنيا تبقى ناقصة، ولا أكمل من لباس التقوى الذي اختاره الله لنا. وصدق الشاعر لما قال:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التُّقى
تقلب عريانا ولو كان كاسيا
وخير ثياب المرء طاعةُ ربه
ولا خير فيمن كان لربه عاصيا
إنه لباس التقوى؛ لباس الستر (يواري سوءاتكم)، وليس لباس كشف الستر وكشف العورات من الألبسة التي راح الناس اليوم يتنافسون على شرائها ولبساها باسم الحداثة والموضة والموديلات والماركات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق