الاستبداد كفكرة مميتة
د. علي الصلابي
إن الاستبداد ينتجُ من تخلّف المجتمع ككل، ورسوبه عميقا في قاع التاريخ، وفقدانه إرادة ممارسة الشورى، كما استخفّ فرعون قومه فأطاعوه، فالوزر هنا هو وزر القوم قبل أن يكون وزر فرعون، كما أوضح القرآن: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54]
وتحرر مجتمع ما من سلطة الاستبداد، أو منح حاكم مستبد شعبه حقَّ الشورى، لا يعني نجاحَ ذلك الشعب في ممارسة الشورى، إذا لم تكن فضيلة الشورى من طبع ذلك المجتمع ومزيته.
ولنشر روح الشورى في نسيج المجتمع العام لا يكفي إعدادُ دستور يتضمّن المبادئ الأساسية الأولية التي تتبنى المفاهيم الشورية، ولا يكفي الاستشهاد لتلك المفاهيم بالنصوص القرآنية والسّنية، وإنما يتعيَّن لإنجاز تلك المهمة الصعبة تربيةُ الشعب كلّه على تلك المعاني، وغرسُ توجيهاتِ قيمة الشورى، ويتصرّف شوريا في مجالات سلوكه جميعا، وبالتالي يتعزّز وجودُ الثقافة السياسية الشورية في قاعدة المجتمع المسلم، وتصبحُ تلك الثقافة أساسا تقوم عليه أركان النظام السياسي الواقعي، فالبنية السياسية تقوم على أساس من الثقافة السياسية للمجتمع، ولا تنهضُ على محض الأماني والأوهام. (الشورى ومعاودة إخراج الأمة، ص: 145)
ثقافة المجتمع
وقد قام علماء الاجتماع والعلوم السياسية -مثل تالكوت، وبارسوتر، وإدوارد شيلز، وجبرائيل الموند، وبنغهام باول- ببيان أن ثقافة المجتمع السياسية تتكون من 3 جوانب مهمة هي:
- الجانب المعرفيّ: الذي يشمل ما يعرفه عامة الناس عن النظام السياسي السائد في بلادهم، وما يعرفونه عن أشخاصِ الحكّام، والمشكلات السياسية التي تواجه الأمة ككل.
- الجانب العاطفي: وهو يشمل عواطفَ الناس تجاه النظام السياسي إنْ كانت حيادا أو تأييدا أو رفضا أو معارضةً، وهذه العواطف في عمومها تسهمُ في تحديد طريقة تعامل كلّ شعب مع مطالب نظامه السياسي، من حيث الاستجابة أو التجاهل أو التنفيذ أو الرفض أو التمرد.
- الجانب التقويمي: حيث يصْدرُ الناس وصفا عاما على نظامهم السياسي، على أنه ديمقراطي أو استبدادي أو أنّه يخدم الصالح العام أم لا. (الشورى ومعاودة إخراج الأمة، ص: 147)
ولا شك في أنّ السلوك السياسي للأمة (حكاما ومحكومين) ينبثقُ من التقاليد الثقافية السياسية الذاتية للأمة، وفي ذلك ما يفسّرُ لنا قضايا مثل: لماذا اختار الشعب البريطاني النظام الديمقراطي ذا الواجهة الملكية؟ ولماذا اختار الشعب الأميركي النظام الديمقراطي الرئاسي ذا الفصل الحاد بين السلطات؟ ولماذا اختار الشعب الفرنسي نظاما وسطا بين هذين النظامين؟ ولماذا نجحت هذه الأنظمة في تلك البيئات الثقافية نجاحا بيّنا؟ ولماذا تفشل دائما عندما تستورد أو تُستزرع في بيئات ثقافية سياسية مخالفة؟
وقبل أن يتصدّى علماء الاجتماع والساسة المحدثون لتفسير السلوك السياسي لبعض الشعوب بناءً على نوعية خصائصها النفسية والثقافية، كان الفقيه السياسي الإسلامي أبو الحسن الماوردي يتحدّث في هذا المعنى فيقول: (ومما يجبُ أن يكون معلوما أنّ زينةَ المُلكِ بصلاح الرعية، والرعيةُ كلّما كانت أغنى وأثرى وأجلَّ حالاً في دين ودنيا، ومملكته كلها كانت أعمرَ وأوسع، كان المُلكُ أعظمَ سلطانا وأجلّ شأنا، وكلّما كانت أوضعَ حالاً وأخسَّ حالاً، كان الملكُ أخسَّ مملكةً، وأنزرَ دخلا، وأقلّ فخرا).
وهذا هو عينُ السدادِ في النظر إلى المكوّن الأهم في التركيبة السياسية، وهو مكوّن الشعب وثقافته الذاتية، ولا يمكن لحاكم أن يصلحَ أوضاع الرعية ما لم تُسهِمْ هي بدورها في ذلك من ناحية استعدادها لقبول الإصلاح على أقل تقدير، ثم مشاركتها في تنفيذ برامجه، لأنّ الأمر بالشورى ينفذ نفاذه حين يوجد معه صاحبُ الحق الذي يطالب به منْ ينساه، ويردّ إليه من يحيدُ عنه. (أثر العرب على الحضارة الأوروبية، عباس العقاد، ص: 145) فالأمة -قبل حاكميها- هي التي تُخْرِجُ مبدأ الشورى من حيز المبدأ إلى حيز الممارسة. (الشورى ومعاودة إخراج الأمة، ص: 148)
وقد انتبه العلامةُ ابن خلدون إلى هذا الجانب الثقافي في حياة المجتمع، وإن كان قد نعته باسم آخر، فدعاه بوازع الدين في خلق الأمة، وأسلوب تعاملها مع حاكمها، واستنبط ذلك من الأثر التالي: سأل رجلٌ عليّا رضي الله عنه: ما بالُ المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟.
فقال علي: إنّ أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي، وأنا اليومَ والٍ على مثلك. (مقدمة ابن خلدون، ص: 211).
وقد علل ابن خلدون التغيّر في نظم الحكم بالنقص في وازع الدين في الرعية، وهو تعليل صحيح، فالدين مكوّنٌ قوي في الثقافة السياسية للأمة المسلمة، بل هو أقوى مكوّن فيها، ومتى ضعف أثرُه ضعفت الثقافة الذاتية للأمة قاطبة، ولمّا ضعف هذا الأثرُ ترسّب في ثقافة الأمة المسلمة -عبر عصور تدهورها- كثيرٌ من الآفات التي اعتنى بفحصها وتحليلها الأستاذ مالك بن بني في سياق أبحاثه عن "مشكلات الحضارة" وعدّها من المعوّقات الخطيرة الكامنة في المجتمع الإسلامي، والتي لا تزالُ تعترض بشدّة سبيلَ استعادة المسلمين عافيتهم، ونهوضهم لأداء دورهم في التاريخ، لقد عَمِلَ مالك بن نبي رحمه الله على تحليل آثار كثيرة من الأفكار الميتة والمميتة في ثقافة المجتمعات الإسلامية انطلاقا من نظريته عن القابلية للاستعمار، فقد أشار إلى مجموعة من الآفات النفسية والاجتماعية المتوطنة من قديم في العالم الإسلامي، والتي هيأت للاستعمار الغربي أن ينفذَ إليه، ويقهره ويذله، ويخضعه لشروطه، ويكيف أوضاعه بما يجعله دائم الإذعان.
وهذه الأمراض النفسية والاجتماعية شبيهةٌ بالجراثيم والأمراض العضوية التي تلمُّ بالأجسام.
وحسب تحليلات مالك بن نبي، فإنّ قابلية العالم الإسلامي للاستعمار هي التي جلبت الاستعمار الغربي إليه.
وانطلاقا من نظرية مالك بن نبي هذه نرى أن من أخطر الأفكار المميتة في بيئاتنا الاجتماعية فكرةَ الاستبداد التربوي التي تحكم مؤسستي الأسرة والمدرسة، حيث تتولّد طباعُ الخنوع والتقليد، والإحجام عن التفكير وإبداء الرأي، وهذه من أشدّ الطباع مناهضةً لمساعي استعادة خُلْق الشورى في المجتمع، حيث تجتث جذور الشورى من الأعماق، ولذلك فلا بدّ من معالجة هذا الشأن علاجا جديا جذريا قبل التفكير في توطين الشورى في البنية السياسية العليا للمجتمع.
لا شك في أنّ غياب النهج الشوري من أسباب الأزمات والمصائب التي تعيشها الشعوب الإسلامية، إذ يغلبُ على هذه الدول أو الأمم غيابُ النهج الشوري، وبروز نمط الفردية والاستبدادية في أنظمة الحكم،. فالاستبداد كما يقول الكواكبي: داءٌ تبتلى به بعض الشعوب في بعض مراحل التاريخ، وهو أسوأ أنواع السياسة، وأكثرُها فتكا بالإنسان. (الشورى، د. الصلاحات، ص: 269)
المصدر
د. علي محمد الصلابي، الشورى في الإسلام، ص: 178-182.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق