ليس بين الساسة في وادي النيل (أي بلغة عصرنا في مصر والسودان) من نال ما ناله الرئيس محمد نجيب (19 فبراير 1901- 28 أغسطس 1984) من تأهل، فقد تأهل بأربع شهادات (الحربية والبوليس والحقوق وغوردون) كانت كل واحدة منها كافية مع شخصيته وتميزه لوصوله إلى الصف الأول بين رجال الدولة.
و نبدأ بالقول بأن الرئيس محمد نجيب تخرج في كلية غوردون بالخرطوم، وكان لهذه الكلية شأن كبير في الحياة العامة في ظل الاحتلال، وحتي لا نطيل علي القارئ بشرح وسرد تاريخ التعليم في مصر والسودان في العصر الذي نشأ فيه نجيب، فإننا سنقرب الصورة للقارئ ونذكر له أن التخرج من كلية غوردون كان شبيهاً في زماننا هذا بالتخرج من الجامعة الأمريكية بالقاهرة .وبعد تخرج الرئيس محمد نجيب في كلية غوردون بدأ حياته الوظيفية فالتحق بمعهد الأبحاث الاستوائية حيث تدرب علي الآلة الكاتبة، وعلي أعمال الموظفين الإداريين تمهيداً للعمل كمترجم .
ولكن الرئيس محمد نجيب وهو الشاب القوي في عصر الفتوة كان طموحاً إلى ما هو أكثر من الوظيفة، وإذا هو يصمم بينه وبين نفسه على أن يلتحق بالكلية الحربية ليتخرج ضابطاً مثل والده ومثل خاله، وقد بذل المستحيل حتى يستطيع أن يلتحق بهذه الكلية رغم كل المعوقات الطبيعية والزمنية والطالع السيء ورغم أنه كان ينقص عن الطول المطلوب سنتيمتراً واحداً.
التأهل السريع بشهادة الحربية
تخرج محمد نجيب من المدرسة (الكلية) الحربية بسرعة شديدة. وسنلخص للقارئ تاريخه الدراسي فنذكر أن الدراسة كانت بلغة أيامنا مكونة من خمسة فصول دراسية، وكانت هذه الفصول الدراسية تتدرج من الخامس إلي الأول عكس ما هو شائع الآن، وقد أتاحت الظروف لنجيب أن يدرس في فصلين فقط هما الرابع والثاني وأن يتخرج على هذا النحو في سرعة بالغة بسبب تفوقه هو نفسه لا بسبب حاجة الجيش إلي تخريج ضباط جدد، على نحو ما كان يحدث بعد ذلك في الدفعات التي تخرج فيها ضباط الثورة عند اندلاع نذر الحرب العالمية الثانية.
وكانت المدرسة الحربية وقتها تسير على النظام الأقرب للصواب الذي يمكن المتفوقين من أن يأخذوا فرصتهم وألا يضطروا إلى سلوك طابور التعليم النمطي الذي أصبح يفرض نفسه اليوم على كل مؤسساتنا التعليمية.
- وهكذا فإن نجيباً عند دخوله الكلية ألحق بالفرقة الرابعة مباشرة وبذلك لم يمر بالفرقة الخامسة إلا لأربع وعشرين ساعة.
- ولما نجح في الفرقة الرابعة كان الأول وكان ترتيبه يفوق التالي له أكثر من مائة درجة، ولهذا فإنه نقل هو والخمسة التالون له إلى الفرقة الثانية من دون أن يمر بالفرقة الثالثة.
- ولما ظهرت نتيجة هذه الفرقة كان الأول أيضاً وكانت درجاته تسبق درجات الأول علي الفرقة الأولي، وهكذا كان لابد له أن يتخرج مباشرة وأن يصبح ضابطاً.
توسطه بالسلطان حسين كامل و السير وينجت باشا سردار الجيش
ومن أجل تحقيق أحلامه في الالتحاق بالكادر العسكري فإن الرئيس محمد نجيب حسب روايته نجح في لقاء كل من السلطان حسين كامل والسير وينجت باشا سردار الجيش وقد عرفه بنفسه وبأبيه وخاله، وقدم له طلب الالتحاق بالمدرسة الحربية، وأمر السردار رئيس أركانه الميجور كامبل بأن يكتب للمدرسة الحربية أن تقبل نجيباً إذا كان لائقاً. ولأنه لم يكن ممكناً قبول الرئيس محمد نجيب في ذلك الوقت الذي تقدم فيه بتوصية من السردار فقد طلبوا إليه أن يعود عند الاستدعاء ليلتحق بالدفعة القادمة وأعطوه تذكرة مجانية للعودة إلى الخرطوم، وتذكرة أخري من الخرطوم إلى القاهرة.
التكوين العسكري الواعد
هذه بعض الملامح العامة في التكوين العسكري الواعد الذي حظي به الرئيس محمد نجيب في شبابه، وهي تدلنا دلالة قاطعة على أنه منذ نعومة أظافره لم يكن شخصاً هيناً ولا تقليدياً، فهو يعرف طريقه، بل هو يشق هذا الطريق إن لم يجده ممهداً، وفضلاً عن هذا فإنه يحظى بثقة في النفس، كما أنه كان يعيش الأمل ولا يستسلم لليأس.
الكادر العسكري المتميز للرئيس محمد نجيب
يعرف القراء مدي النجاح والحب الذي كونه الرئيس محمد نجيب في السنوات القليلة التي سبقت قيام ثورة 1952 بقيادته، كما يعرفون كثيرا من صور البطولة التي تمكن من اثباتها في حرب فلسطين 1948 بيد أن هذا كله لم يكن الا قمة جبل الجليد في نجاحات محمد نجيب. ففيما قبل الثورة كانت للرئيس محمد نجيب نجاحات كبيرة في مجال الخبرة بالحياة العامة والسياسية، وكيلاً لمحافظة سيناء محافظاً للبحر الأحمر خدم الرئيس محمد نجيب في الصحراء المصرية وسلاح الحدود حوالي ست سنوات، وعاش في بورتوفيق وسيناء والجبل الأصفر وواحة المنايفة، والواحات، والقنطرة شرق، والبحر الأحمر حتى الحدود مع السودان.
مناصب عسكرية رفيعة
وفي إطار القوات المسلحة نفسها تولي الرئيس محمد نجيب عدة مناصب رفيعة:
- فقد عين قائدا لمدرسة الضباط العظام
- كما تولي رئاسة سلاح الحدود
وتشهد كل المذكرات والكتابات المتاحة بأن فترة رئاسة نجيب لهذا السلاح شهدت نجاحاً بارزاً.
الثقافة الاستراتيجية وعضوية معهد الصحراء
امتدت اهتمامات الرئيس نجيب المبكرة، الي ميادين الثقافة العسكرية والاستراتيجية العامة والخاصة على حد سواء. كذلك كان الرئيس محمد نجيب من أبرز المصرين المهتمين بالصحراء حتى إنه عين عضواً عاملاً في معهد الصحراء، كما تولي إعداد الكثير من الدراسات حول حياة البدو وكيف يمكن رفع مستواها،
المثقف المعروف بالاطلاع
كان الرئيس نجيب يلقي المحاضرات في مثل هذه الموضوعات كما نشر العديد منها في صورة مقالات، ورفع عنها أكثر من تقرير للملك فاروق، طالب فيها بالاهتمام بطرق استغلال الصحراء وتعميرها.
تأسيسه لمجلة الجيش المصري وإدارته للمتحف الحربي
وإلي الرئيس محمد نجيب نفسه يعود الفضل في إنشاء مجلة الجيش المصري عام 1937، وقد ظل يشرف عليها عدة سنوات وكتب فيها عشرات المقالات وهكذا كان توجهه الفكري والثقافي رائدا وواعدا. وفي مرحلة مبكرة من خدمته العسكرية كان نجيب مسئولا عن المتحف الحربي
دعا إلى ضرورة التدريب العسكري لطلبة الكليات
كان الرئيس محمد نجيب من أوائل الضباط المهتمين بتشجيع سياسات التدريب العسكري لطلاب الجامعات وطالباتها والداعين إليه، ومن أهم المقالات التي كتبها، مقالات تدعو إلى ضرورة التدريب العسكري لطلبة الكليات والمدارس الثانوية، وهو ما أخذ به بعد ذلك، ولكن بجدية أقل مما كان قد طرحه الرئيس نجيب.
يضاف الي هذه المجالات معرفة عميقة نشأت من علاقاته الممتدة بالزعماء السودانيين لدرجة أنهم كانوا يعتبرون بيته امتدادا لبيوتهم في السودان. وقد توج الرئيس محمد نجيب هذه العلاقة بنشره بحثه الشهير “رسالة عن السودان” فيما قبل 1952 بعقد من الزمان.
عمله في البوليس
استطاع الرئيس نجيب أن يتخرج أيضاً من مدرسة البوليس حوالي عام 1921، متيحا لنفسه مستوي آخر من الخبرة بالحياة امتاز به، وهو عمله كضابط بوليس، ولا ينبغي للقارئ أن يعجب، فقد كان الانتقال من الجيش للبوليس ومن البوليس للجيش أمراً طبيعياً في ذلك الزمان وهكذا فإنه في لحظة من لحظات الضجر المهني التي يعرفها كل مَنْ مارس مهنة من المهن انتقل الرئيس محمد نجيب من الجيش ليعمل في البوليس إلى أن أصابه الضجر بالطبع بعد فترة قصيرة وعاد إلي الجيش.
دراسته في كلية البوليس
على أن الرئيس نجيب لم ينتقل للعمل في البوليس على نحو ما ينتقل الضابط من وحدة إلى وحدة، أو من سلاح إلى سلاح، لكنه انتقل إلى البوليس بعدما درس الدراسة الشرطية كلها، وهكذا فإنه تخرج في مدرسة البوليس على نحو ما تخرج في المدرسة الحربية وفي كلية الحقوق. بل إنه اضطر إلى أن يؤدي امتحان شهادة الكفاءة كي يكون مؤهلا للتقدم للالتحاق بمدرسة البوليس، وقد اجتاز نجيب بالفعل امتحان الكفاءة، وتخرج في مدرسة البوليس، وإن كانت المدة التي قضاها في تلك المدرسة لم تزد على شهرين. ومن الطريف أن خدمة الرئيس نجيب الشرطية كضابط بوليس تركزت في ثلاثة أقسام من أقسام العاصمة. في قسم عابدين 5 شهور وفي قسم مصر القديمة 4 شهور ثم في قسم بولاق 7 شهور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق