إطلاق سراح خنزير الطوارئ
هذا موجز ما جرى
1- اعتقل الجنرال، بناءً على نصيحة الحاخام، الناس في زنزانة ضيقة، ريثما يتسنى له ترتيب أموره في ممارسة السلطة، التي كان قد سرقها للتو، ثم حين علت الأصوات مندّدة بهذه العملية، وضع معهم خنزيرًا ضخمًا تنبعث منه روائح خانقة.
2- بعد سنوات من العذاب والمعاناة، قتل فيها من قتل من المحبوسين، اختناقًا برائحة الخنزير، ومنعًا للعلاج من مضاعفات أمراض المكان الخانق، وتعذيبًا عقابًا لهم على الاحتجاج على إخضاعهم لهذا الكائن المقرف، أعلن الجنرال تنفيذ القسم الثاني من نصيحة الحاخام، بإطلاق سراح الخنزير من الزنزانة، من دون أن يحدد: هل هذا الإجراء بصفة مؤقتة أم دائمة، تاركًا الباب مفتوحًا للتخمينات والتكهنات، فيما بقي المحبوسون وحدهم بالزنزانة، من دون روائح الخنزير.
3- صفقت كائنات عجيبة، خارج الزنزانة، وهللت وأشادت بروعة الجنرال وإنسانيته المفرطة وعدله المطلق، وأقامت الاحتفالات بهذا الإنجاز التاريخي وبزوغ فجر الحرية.
لم يتطرق أحد لمصير البشر المحبوسين ظلمًا، بعد عملية تحرير الخنزير، وإخراجه من الزنزانة، إذ كان معظم المصفقين المهللين منهمكين في سباق محموم للفوز بأقوى عبارة شكر للجنرال على هذه الخطوة العملاقة على طريق الديمقراطية والتطور الاجتماعي.
لعلك تعرف حكاية الحاخام والخنزير الشهيرة في التراث القديم، تلك الحكاية التي من كثرة ترديدها يكاد يحفظها الصغار والكبار، عن ذلك الرجل الذي يتكدس هو وأسرته في غرفة صغيرة مقبضة، جعلت أفراد الأسرة في حالة تململ من ضيق الحال وكآبة المعيشة، فذهب إلى رجل دين (حاخام) يستشيره في كيفية إنهاء هذه المعاناة التي جعلت الحياة لا تطاق، فما كان من الحاخام إلا أن نصحه بإحضار خنزير لكي يشاركه والأسرة غرفة معيشتهم البائسة.
باقي القصة معروف: تفاقمت المعاناة وتضاعفت الشكوى من الروائح الخانقة، حتى أوشك المحشورون مع الخنزير على الهلاك، فعاد الرجل إلى الحاخام يستغيث، فأمره الأخير بإخراج الخنزير من الغرفة والتخلص منه، وبعدها استشعر الرجل وأسرته أن الغرفة صارت أكثر براحًا وراحة، وأن الحياة فيها صارت نعيمًا، قياسًا بفترة جحيم الخنزير، ثم شكر الحاخام على هذا المعروف الذي أسداه له.
هل تجد فرقًا بين مضمون هذه الحكاية، وبين الاحتفالات الصاخبة بإعلان الجنرال عبد الفتاح السيسي إيقاف عملية المد الأوتوماتيكي لقانون الطوارئ الذي يخنق المصريين، وغير المصريين (الإيطالي جوليو ريجيني نموذجًا) طوال سبع سنوات مضت؟
جيد أن يتم إخراج الخنزير من الغرفة الضيقة، لكن ماذا عن الضحايا المحبوسين ظلمًا في هذه الغرفة، منذ أن استولى الجنرال على الحكم بالقوة، وتخلص من كل الذين اعترضوا على تلك الجريمة، بالقتل والنفي والسجن والتعذيب والسطو على الأموال والممتلكات ومصادرة حريات كل من تضامن أو تعاطف معهم؟
يدهشك أن الذين يصفقون بحرارة لهذه الحركة السينمائية المثيرة بإلغاء حالة الطوارئ، ويعلنون شكرهم لمن قام بها، هم أنفسهم الذين يعبرون عن إدانته الواضحة واستنكارهم لانقلاب جنرال السودان عبد الفتاح البرهان وما بدأ يصاحبه من أعمال قتل واستهداف لمعارضيه ومصادرة الحريات وإعلان حالة الطوارئ.
السؤال هنا: ماذا لو استتب الأمر تمامًا للجنرال عبد الفتاح السوداني، ثم قرر إنهاء حالة الطوارئ بعد سبع سنوات، مثلًا، يكون خلالها قد أحكم قبضته على السودان وثبت انقلابه وقتل معارضيه وسجنهم واستولى على أموالهم واطمأن تمامًا إلى أنه هو القانون والسلطة المطلقة.. هل ستصفق له وتعتبر هذا قرارًا حكيمًا يستحق الإشادة وتسقط عشرات آلاف الجرائم ضد أبرياء؟
وماذا يفيد تعليق العمل بقانون الطوارئ إذا كان من ألغاه يرى نفسه هو القانون، بل أبو القانون، ليس فقط القانون الوضعي، وإنما القانون الإلهي، معتمدًا على الزعم بأنه على تواصل مع الإله، يحاوره ويكلمه ويناقشه ويطلب منه ويحصل على ما يريد من تأييد ودعم، لمواجهة شر الأشرار وإدارة شؤون الرعية، بقانونه هو الخاص، وليس بقوانين تواضع عليها المجتمع وارتضى أن تطبق على عموم الناس، بالعدل والمساواة.
وإذا كانت خطوة إخراج خنزير الطوارئ من الغرفة المقبضة إنجازًا تاريخيًا يضاف إلى سلسلة إنجازات الزعيم الملهم، فإن المنطق يقول إن خطوة إدخال الخنزير إلى الغرفة كانت جريمة بحق الوطن وحرمانًا له من حياة نظيفة ومحترمة، فما الذي يمكن أن يقال بشأن الشخص الذي طارد الناس بخنزيره وأفسد عليهم معيشتهم، حد الاختناق؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق