حقائق الفاتحة والمشاريع الدولية
أ. د. عبدالسلام المجيدي
مهما تعمق العلماء في بحور الغيث القرآني فإنهم يقفون عند شواطئها وإن غاصوا فقريبا من سطحها، وكم من جواهر ودرر استخرجوها فكانت نورا للسائرين وبصائر للسالكين وهداية للعالمين، وبالتدبر والتفكر تشرق الأنوار وتظهر الحقائق، فتعال معي في جولة بصائرية مع بعض الحقائق التي تبرزها الآيات الأربع الأولى من سورة (الفاتحة):
إن “(الفاتحةُ) هي البناء للنفس الإنسانية، والشفاء من الأمراض والأدواء بالثناء على أرحم الرحماء”، ومقاصد الفاتحة التي ذكرتها في كتابي الإسلام في سبع آيات تمثل أقوى المقاصد الفكرية التي تبني العقلية الإنسانية. فالبشرية تحتاج إليها احتياج العطشان للماء، وتفتقر إليها افتقار التائه الخائف الحيران المحتاج لمن يعينه في الظلماء، وتحتوي تلك الآيات على الحقائق الآتية:
الحقيقة الأولى: احتوت الآيات الأربع الأولى من الفاتحة على أعظم بصائر التنزيل القرآني التي ترسم الخريطة الحقيقية للحياة الإنسانية: والبيان الوافي لها يوجد في القرآن الكريم لا في الكتب المنزلة المحرَّفة، ولا في المشاريع الدولية البشرية الوضعية المزيفة، ويمكن أن نلخص هذه الخريطة الحقيقية في البصائر الكلية الآتية:
البصيرة الأولى: قاعدة (التوحيد المقترن بأعظم التمجيد)، ونجد هذه البصيرة في الآيات الأربع الأُول، ويترتب عليها حقوق المعبود وحقوق العبيد.
البصيرة الثانية: تربية الله تعالى للعالم، وذلك في قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].
البصيرة الثالثة: إرادة الرحمة بالكون -ابتداءً وانتهاءً-، وذلك في قوله سبحانه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3].
البصيرة الرابعة: حتمية المصير العادل الذي يعقبه الخلود، وذلك في قوله سبحانه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4].
ومن خلال هذا المقصد تظهر الإجابة الواضحة عن التساؤلات الكونية الكبرى: (من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟)، وهذه الأسئلة هي التي بسبب عدم معرفتها يُلْحِدُ الضالون، ويُبطل المبطلون.
الـحقيقة الثانية: احتوت الآيات الأربع الأولى من الفاتحة على أعظم الثناء الإلهي الذي يمكن أن يقوله الأنبياء: فالله -تقدس مجده- ذَكَرَ في الحديث القدسي أن هذه الآيات الأربع تحتوي على الثناء عليه: حيث قال: ((إِذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال اللَّه تعالى: حمدنى عبدي، وإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال اللَّه تعالى: أثنى عَليَّ عبدي، وإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مَجَّدَنى عبدي).
وقد اختار اللهُ كلماتِ (الفاتحة) لتكون مقدمة كتابه في التعريف به، والثناء عليه -جلَّ اسمه-: ومنها يتعلم عبده كيف يُثْني عليه، وحسبك بذلك، فهذا خطيب الأولين والآخرين، سيد الفصحاء، وإمام البلغاء، لـمـّا سمع حمده -تعالى- لنفسه، ومدحه -سبحانه- لحقّه، علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن منتهى العلم أن يقول فى هذه الحالة: ((لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)).
والله -تعالى- ذكر في نصف (الفاتحة) الأول ستةَ أسماء هي أصول أسمائه -جلَّ في علاه-وقابلها في نصفها الثاني بستة أحوال للعبد:
أما أسماؤه الستة المذكورة في (الفاتحة) فترجع جميع الأسماء الحسنى والصفات العُلى إليها:
الاسم الأول: (الله)، ورد هذا الاسم في الآية الأولى (البسملة)، وفي الآية الثانية (الحمدلة)، وترجع إليه جميع الأسماء الحسنى، ومنها أسماء الإلهية الحقة كالواحد الأحد.
الاسم الثاني، والاسم الثالث: الرحمن الرحيم، ورد هذان الاسمان مرتين في البسملة وفي الآية الثالثة، وترجع إليهما جميع أسماء الرحمة واللطف: كاللطيف، والحليم، والودود، والرؤوف، والوهاب، والرزاق، والغفار، والغفور.
الاسم الرابع: رب العالمين (الرب)، ورد هذا الاسم العظيم في الآية الثانية في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وترجع إليه جميع أسماء التربية: رحمةً ورفقًا ووُدًّا، وحزمًا وقوةً، وحكمةً وخبرةً وعلمًا.
الاسم الخامس والسادس: {ملك يوم الدين}، و{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]-على القراءتين-: وترجع إلى هذين الاسمين جميع أسماء الحكم والقوة والعدل والقهر والفصل وصفاتها كالعظيم، والكبير، والمتعال، والقهار، والجبار، والفعال لما يريد.
وتقابل هذه الأسماء الستة العليا ستةُ أحوالٍ للعبد ذكرها الله في النصف الثاني من (الفاتحة)، وهي: العُبُوديَّة، والاستعانة، وطَلَبُ الهداية، وطَلَبُ الاستقامة، وطَلبُ النِّعمة، وطلب الحماية من طرق الضَلال والإضلال.
ومن حكم ترتيب الأسماء الستة الواردة في سورة (الفاتحة): التعرف الكامل إلى الله، فهو -تعالى ذِكْرُهُ- جعل الاسم الأول (اللَّه) اسمًا لنفسه، فهو مختصٌّ به مع تضمنه لمعنى الإلهية الحقة إذا جعلنا الكلمة مشتقةً من (إله)، وجعل الخمسة التي أتت بعده أوصافًا له، وهي: الرَّبُّ، وَالرَّحْمَنُ، وَالرَّحِيمُ، وَالْمَلِكُ، والمالك، ومن هذه الأسماء الستة تنبثق سائر الأسماء الحسنى والصفات العلى، ويتعرف العبد إليه تعالى بها، فمثلًا: يمكنك أن تتَصَوُّر أن الله كَأَنَّهُ يَقُولُ لك: خَلَقْتُكَ أَوَّلًا فَأَنَا إِلَهٌ، وعرفتك بي فاسمي هو (الله)، ثُمَّ رَبَّيْتُكَ بِوُجُوهِ النِّعَمِ فَأَنَا رَبٌّ، ثُمَّ جعلت خِلقَتك ونِظامَ شريعتك الذي تسير عليه وفق مبدأ الرحمة فأنا رحمن رحيم، ثم عَصَيتَ فَسترْتُ عليك فأنا رَحمنٌ، ثُمَّ تبت فَغَفرتُ لك فأنا رحيمٌ، ثُمَّ لم تخرج عن ملكي وسلطاني ولن تخرج، وسأوصل الْجَزَاء إِلَيْكَ؛ فَأَنَا مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ، ومالكه، وترتيب المطابقة هنا فقط للتلذذ في المخاطبة، وإلا فيجوز غير ذلك.
الحقيقة الثالثة: جمعت هذه الآيات أسباب ثناء العبد على أرحم الراحمين في أبهى صورها: ويظهر ذلك من خلال أسباب الثناء؛ فإنك لا تُثني على أحدٍ فتحْمَدُه إلا لِأَحَدِ أسبابٍ أَرْبعَةٍ:
السبب الأول: تحمده وتثني عليه لكماله الذاتي فِي الذات والصِفَاتِ، وهو المنزه عَنْ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، وهذا السبب لا يمكن أن يوجد إلا في رب العالمين، وَقد أشار الله إليه في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الفاتحة: 1، 2]، فكل ما في العالمين من كمال، فهو شيءٌ لا يذكر أمام كمال الكبير المتعال، وكل ما في العالمين من نقصان، فالله مُنَزَّهٌ عنه فهو العظيم الشان، ولذا نحمده -جل في علاه- لذاته، ونحمده على كمال صفاته.
السبب الثاني: تحمده وتثني عليه لإحسانه المتعدي الباطن والظاهر، والإنعام في الماضي والحاضر، وأعظم الإحسان في الحاضر إنما تجده من الله الملك الرحمن، فكل ذرةٍ من النعم فهي منه، فهو {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2، 3]، فنحمده على خلقه لنا من العدم، ونحمده على عظيم النعم، ونحمده على أن أعطانا الآلات والوسائل التي توصلنا إلى الإيمان به، فهو عظيم الجود والكرم، ونحمده على أن دفع عنا النقم، وحَبَّبَ إلينا الإيمان، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
السبب الثالث: تحمده وتثني عليه لرجاء الإحسان فِي مُسْتَقْبَلِ الأزمان، فالله هو الذي يمدنا بكل إحسانٍ نطمع أن يصلنا في المستقبل القريب والبعيد، فهو {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 3، 4]، فنحمده على أنه دلنا على الطاعة التي تُصلِح الجسد، وتعمر البلد، وتعالج ما فسد، ثم أعطانا الوسائل الجسدية للقيام بها، ثم كافأنا عليها -جل في علاه-، ولذا قال الصالحون: “إذا أراد أن يُظهر فضله عليك، خَلَق وأَعطى، ونسب إليك”؛ أي يعطيك النعمة، ويخلق لك وسيلة الاستفادة منها، ويعينك على شكرها بالطاعة، ثم ينسب إليك هذه الطاعة.
السبب الرابع: تحمده وتثني عليه للخوف من قهره وَقُدْرَتِهِ، وَرجاء الأمن من عظيم سَطْوَتِهِ: إنه ربُّ العالمين في الدنيا، وهو مالك يَوْمِ الدِّينِ في الآخرة؛ مما يجعل الإنسان يُثني عليه خوفًا من عقابه، وهربًا من عتابه… اللهم اجعلنا من أعظم المكرمين المقربين إليك، بفضلك يا أرحم الراحمين، والحمد لله حمدًا يبلغنا رضاه، ويجزل لنا به أعظم عطاياه، ويجعلنا به مع نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وآله وسلم.
الحقيقة الرابعة: الثناء على الله علامة الاتصال الأعظم أهميةً في حياة الإنسانية: إنه الاتصال بين الله وعباده.. بين الخالق والكون المخلوق، وهو مفتاحٌ من مفاتيح إجابة الدعاء، فمن أراد أن تُقضى له الحاجاتُ، وتُفَرَّجَ عنه الكرباتُ، وتُدْفَعَ عنه الآفاتُ، فليُثْنِ على مُدَبِّر الأرض والسماوات، وليُقَدِّمْ بين يدي طلبه جميلَ الثناء، وطَيِّبَ الحمد؛ ليُجاب له الدعاء، فإذا كنتَ مريضًا وقصدتَ طبيبًا متخصصًا ذا سمعةٍ جيدةٍ، فإنك تُثني عليه، ليَرفُق بك، ويهتم بمعالجة مرضك، وتقولُ له طالبًا اهتمامه وعنايته: أتيتُك لشهرتك، ومعرفتك، وقصدتُك دون بقية الأطباء، فانظر إلى هذا الداء.
كل هذا الثناء تقدمه لبشرٍ، فإذا أردت أن تُفْتح لك خزائن الخير في الدنيا والآخرة فانظر إلى من بيده مقاليد البشر، وله الأمر الظاهر والـمُسْتَتِر، وهو مالك القُوى والقُدَر، فهو الطبيبُ على الحقيقة -جل في علاه-، فعن أبي رِمثة -رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي فرأى التي بظهره فقال: يا رسول الله، ألا أعالجها لك، فإني طبيب. قال: ((أنت رفيقٌ، والله الطبيب))()، وعند ثنائك عليه تحظى بمحبته؛ لأن الله يحب العبد المتملق له.
فعن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ثلاثة يحبهم الله -وذكر منهم- وقومٌ ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحبَّ إليهم مما يُعدَل به نزلوا فوضعوا رؤوسهم، فقام يتملقني، ويتلو آياتي))()، وعن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ولا أحد أحبُّ إليه المدحة من الله؛ فلذلك مدح نفسه)).
فالثناء على الله -تعالى ذكره- من أهم مقاصد القرآن الكريم، فالله سمَّى باسمه المبارك أربع سورٍ: سورة فاطر، وسورة غافر، وسورة الرحمن، وسورة الأعلى، وقريب منها سورة الـمُلْك (فالملك من صفاته سبحانه)، وأنزل سبعًا من السور تسمى المسبِّحات بدايتها التسبيح لله تعالى، كما جعل خمسًا من السور بداياتها الحمد هي المحمِّدات، وكل ذلك لبيان منزلة الثناء على رب الأرض والسماء، فمِنْه يُستَمَد كل عطاء، وتَنزِل كل نعماء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق