بلاد الأمنية الأخيرة
أحمد عمر
يُحكى أنَّ عابدًا من عباد الله الصالحين ونسّاك الله الزاهدين رأى في نومه رؤيا سديدة، وأنه يزور بلادًا سعيدة، ولكنها جدًا بعيدة، تحوطُها الأشجار وتجري من تحتها الأنهار، ويكون سببًا في خلع ملك وتنصيب ملك، فأزمع إليها المسير، وغذّ إليها من غير تأخير، وعبر السهول والأوعار والبلاد والأقطار، وكان يأكل مما ينبت البراح، وينام في المستراح، إلى أن بلغ مدينةً عجيبة العجب، واستخفّه الطرب، فوجد أمرًا عجيبًا وفريدًا وغريبًا، أن كل متاع في المدينة له السعر نفسه، وهذا لعمري قصيد وشعر، سعر كيلو العسل مثل كيلو سعر البصل، وسعر غرام الذهب مثل غرام الخشب، والحصان الشديد بسعر الحمار العنيد، ومهر الحسناء في الخمار الأحمر مثل مهر القبيحة في الخمار الأخضر، فأكل كثيرًا من اللحم المشفّى، وشرب قوارير من العسل المصفّى.
في اليوم التالي من وصوله إلى تلك المدينة، أعلنت الصحف عن حادث أليم، إذ تسلل لصّان كريمان شريفان إلى بيت أحد الأغنياء المشاهير، واحتارا في ما يسرقان، أيسرقان المال المنقول، أم الذهب المصقول؟ لأن كل الأمتعة بسعر واحد، وبينما هما يضربان الأخماس بالأسداس، ويقرعان الكاس بالطاس، حتى شاب منهما مقدّم الرأس، سقط عليهما سقف الدار، فمات أحدُهما لساعته، من غير أن يحمل بضاعته، فبكاه صاحبه كثيرًا لأنه كان لصًا خطيرًا، يسرق الكُحل من العين، ليس فقرًا وحاجةً، وإنما للمغامرة والمقامرة، فحمله صاحبُه، وأكرم مثواه، وقرّر مقاضاة صاحب البيت الذي يغدر بالضيوف في الليل، والويل له كما الويل، وكان القضاء في البلد شامخًا، فقرّر، من غير نظر، أن يحكم على صاحب الدار بالإعدام والموت الزؤام، لكن محامي صاحب البيت كان بارعًا، ويجعل الباطل حقًا ساطعًا، فأثبت أن صاحب الدار بريء من التهمة، وإن كان من متهم فهو المهندس الذي صمّم الدار، وأنقص في الإسمنت وزاد في الأحجار، فأمر القاضي بالقبض على المهندس المكّار، وأطلق سراح صاحب الدار، وحكم على المهندس بالإعدام شنقًا، وأن يموت خنقًا، لكن المهندس وكّل محاميًا بارعًا، فبرّأ ساحته وحديقته الخلفية وباحته، واتهم متعهد البنّاء بالعبث بالحديد والأحجار، واستطاع محامي البنّاء تبرئة ساحته، ورصيف الساحة المجاورة لساحته أيضًا، فأوقف العامل الذي خلط مواد البناء فأكثر من الماء، فنفى العامل الاتهام، وردّ العلّة إلى فيل الملك الهمام، الذي فلت من حبله والسلسلة، وأخافه وجعله في بلبلة، فأمر القاضي بتوقيف سائس الفيل من غير تأجيل، ولم يكن لسائس الفيل حجّة وبرهان، لأن الخوف أكل منه اللسان، وكان أخرس وفقيرًا ولا يملك قطميرًا، ولا يستطيع توكيل محام، فحُكم عليه بالإعدام، لكن حكمة الله قضت بأن ينجو السائس البريء من الموت لأنه كان نحيفًا وهزيلًا، فانفلت من الحبل وسلك منه سبيلًا، فأمر القاضي الشرطة باعتقال أول عابرٍ يرونه في الشارع، يناسب عنقه عقدة الحبل، ويعدمونه إحقاقًا وجزاء وفاقًا، فوجدوا العابد الزاهد، فأخذوه وحكموا عليه بالإعدام، وسألوه أمنيته الأخيرة، فتمنّى أن يمهلوه شهرًا حتى يعبد الله حق العبادة، ويتقرّب إليه بالنوافل زيادة، وبعد شهر نحلَ كثيرًا من الحزن، وصار مثل القرن.
في يوم الحكم ربط بحبل المشنقة، فانفلت من الحبل لخفّة وزنه، فذهب القاضي إلى الملك يستفتيه في القضية، وعندها دخل ابنه ولي العهد، فأمرهم بأن يعدموا ابنه، فصحّته جيدة، وهو يأكل كثيرًا. وكان الملك يخشى أن يأكله، فاقتيد إلى الحبل، وسئل عن أمنيته الأخيرة، فطلب عناق أبيه العناق الأخير، وعندما عانقه، قتله من الحب والشوق، فخلا العرش لولي العهد، فنصّبوه ملكًا على البلاد، وكان أول مرسوم رسمه، هو إعدام القاضي، وأطلق سراح العابد الراضي، وأنقذ حياته من أن تذهب هدرًا "على الفاضي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق