الإستيلاء على أوقاف المسلمين فى عهد السيسى شهبندر التجار
بقلم الخبير السياسى والإقتصادى
د.صلاح الدوبى
حذر اقتصاديون وسياسيون من التكليف الجديد، الذي أصدره رئيس نظام الانقلاب العسكري بمصر، عبد الفتاح السيسي لوزير الأوقاف، بإعادة دراسة الوضع القانوني والتشريعي والشرعي لأموال الوقف، للاستفادة منها في خدمة الاقتصاد المصري.
يقول السيسى ايها الشعب الجاهل أنا أمامكم بشحمي ولحمي وطولي وعرضي؛ أين انتم جميعا بملايينكم وفرسانكم وأديانكم وعقائدكم ومثقفيكم أن ترفعوا، داخل مصر، صوتا واحدا خافتا يحاسبني ولو مرة واحدة!
أراهنكم أن تتحدثوا همسا أو جهرا عن كل هزائمي طوال سنوات حُكمي، وأن تشيروا لغبائي وتخلفي وحماقاتي وجهلي واستبدادي!
انتم لا تستطعون أن تسألوا ضابطا واحدا في الجيش المصرى الهمام عن سبب صمت وخرس وسكوت أبناء أبطال العبور عن تنازلي عن تيران وصنافير!
هل يستطيع احد منكم أن يستفسر عن اموال وخيرات مصر وكنوزها وجبل الحلال وأسعار البترول والغاز، بل عن عشرات المليارات من القروض التي قام أثرياء العالم بتكبيلنا بها، وقيدتكم أنا بفوائدها وسوف تدفعونها انتم واولادكم وأحفادكم!
هل تستطيعوا أن تخالفوني في صغيرة أو كبيرة، أو تتظاهروا احتجاجا في شوارع بلدكم تطالبون بالكرامة وحقوقكم!
أتحداكم أن ترفضوا تجديد قانون الطواريء في أي شبر من أرض مصر، فأنتم معتقلون في أرض واسعة ويظن كل منكم أنه حر بلسان مقطوع، وعينين معصوبتين!
أتحداكم أن تسألوا عن أموالى وقصورى ونفقاتي أنا وعائلتي وإهداري أموالكم، حتى عندما تحديتكم وأنا أدير ظهري لكباركم بأنني بنيت وسأبني لنفسي قصورا واستراحات من أموالكم، ارتعشتم ثم بررتم هذه السرقة العلنية أن القصور والاستراحات لن آخذها معي إلى القبر.
هل يمكنكم مسلمين وأقباطا، أن تستعينوا بالقرآن الكريم وبالكتاب المقدس في استخراج آية واحدة تفهمون منها أنكم أحياء غير أموات، أحرار غير مساجين، وأجساد بها أرواح، وكرامة لا يمسها أحد بسوء حتى تقيم الدنيا عليه.
الإقتصاديون يحذروا إن هذا التكليف، يمثل التفافا جديدا للسيسي من أجل السيطرة على أموال الأوقاف للاستفادة منها في علاج عجز الموازنة العامة للدولة، وهو ما سبق وأن صرح به رئيس الوزراء السابق شريف إسماعيل، بوجود تكليفات رئاسية لحكومته لاستغلال أموال الوقف في علاج عجز الموازنة، وتمويل المشروعات القومية الكبري.
وقد عقد السيسي قبل يومين اجتماعا مع رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، ووزير الأوقاف مختار جمعة، دعا فيه الوزارة إلى إجراء المزيد من الدراسة مع الخبراء والمتخصصين في إطار الضوابط الشرعية والقانونية، لتعظيم الاستفادة من أصول الوقف وعائداته الاستثمارية.
كما دعم شيوخ وأئمة دار الإفتاء “السيسي” بطريقة لم يسبق لها مثيل في تاريخ المؤسسة؛ حيث يعتبر المفتي الأكبر السابق لمصر، الشيخ “علي جمعة”، وكذلك المفتي الحالي، الشيخ “شوقي علام”، من المؤيدين الصريحين لسياسات الرئيس؛ ولا سيما حملته ضد “الإخوان المسلمون”، الخصم السياسي الرئيسي لـ”السيسي”.السيسى شهبندر التجار لايجرؤ على الإستيلاء على الوقف القبطي
وحسب النجار فإن وزارة المالية، أعلنت مؤخرا عن حجم الفوائد وأقساط الديون في موازنة 2020/2019، والتي بلغت 971 مليار جنيه (57 مليار دولار)، بزيادة بلغت 154 مليار جنيه (9 مليارات دولار)، عن تقديرات الموازنة الحالية وهي 817 مليار جنيه (48 مليار دولار)، بنسبة زيادة 19%، وهي نفسها قيمة أموال الوقف الإسلامي بمصر، وهو ما يريد السيسي الاستفادة منه للخروج من دوامة الديون التي وضع فيها مصر، لعشرات السنوات المقبلة.
ويطرح الخبير الاقتصادي، تساؤلا آخر عن مصير أوقاف الأقباط، ولماذا لم يضعها السيسي في حساباته، مثل الوقف الإسلامي، مشيرا إلى أن الوقف القبطي رغم أنه أقل من الوقف الإسلامي، إلا أنه يمثل قيمة اقتصادية هامة، ومع ذلك فإن السيسي يستبعده من خططه، باعتبار أن الكنيسة لن تسكت عن أي محاولة للاستيلاء على هذا الوقف الذي يخضع لإشراف البابا تواضروس مباشرة.
والوقف الخيري هو حبس العين عن تمليكها لأحد من العباد، والتصدق بالمنفعة على مصرف مباح، ويشمل الأصول الثابتة كالعقارات والمزارع وغيرها، والأصول المنقولة التي تبقى عينها بعد الاستفادة منها كالآلات الصناعية، والأسلحة.
وأصدرت هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف بياناً، في مارس/آذار 2018، ترفض فيه السماح باستغلال الدولة أموال الوقف، لأنه “لا يجوز شرعاً تغيير شرط الواقف، أو التصرف في الوقف على غير ما شرطه”.
منح القانون رقم 209 الخاص بإصدار قانون “إعادة تنظيم هيئة الأوقاف المصرية”، والذي وافق عليه مجلس النواب وصدق عليه الرئيس عبدالفتاح السيسي، نهاية العام الماضي، صلاحيات واسعة لإدارة واستثمار الأوقاف الخيرية.
ووفقا للقانون، للهيئة أن تتعاقد وتجري جميع التصرفات والأعمال التي من شأنها تحقيق الغرض الذي أنشئت من أجله في مجال إدارة واستثمار أموال الأوقاف.
كما حدد القانون أموال الأوقاف التي تختص الهيئة بإدارتها واستثمارها كالآتي:
1- الأوقاف الخيرية ما لم يشترط الواقف النظر لنفسه فإذا كانت جهة البر جمعية أو هيئة جاز لوزارة الأوقاف أن توكل هذه الجمعية أو الهيئة في الإدارة وإذا كان الوقف ضئيل القيمة أو الريع أو كان على جهة بر خاصة كدار للضيافة أو لفقراء الأسرة جاز لوزارة الأوقاف أن توكل أحد أفراد أسرة الواقف كما يجوز أن يكون من غير أفراد الأسرة إذا اقتضت مصلحة الوقف ذلك.
2- الأوقاف التى لا يعرف مستحقوها ولا جهة الاستحقاق فيها حتى تحدد صفتها.
3- الأوقاف الخيرية التى يشترط فيها النظر لوزير الأوقاف إذا كان واقفوها غير مسلمين.
4- الأوقاف التى انتهت بحكم القانون رقم 180 لسنة 1952 المشار اليه ولا زالت فى حراسة الوزارة وذلك إلى أن يتسلمها أصحابها.
5- الأوقاف التى خول القانون رقم 122 لسنة 1958 الصادر فى الإقليم الجنوبى لوزارة الأوقاف إدارتها.
6- أموال البدل وأموال الأحكار.
7- سندات الإصلاح الزراعي، وقيمة ما استهلك منها، وريعها.
8- الأوقاف التي يؤول حق النظر عليها لوزارة الأوقاف، بعد العمل بهذا القانون.
9- الأوقاف الخيرية الموقوفة على الأزهر الشريف، والتي ينيب شيخ الأزهر الهيئة فى إدارتها واستثمارها.
5 أوقاف لا يجوز استثمارها
ويستثنى من الأوقاف :
أ- الأراضي الزراعية الموقوفة على جهات البر العام، والتي آلت إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي بالقانون رقم 152 لسنة 1957 بتنظيم استبدال الأراضي الزراعية الموقوفة على جهات البر.
ب- الأراضي الزراعية الموقوفة على جهات البر الخاص، والتي آلت إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي بالقانون رقم 44 لسنة 1962 بتسليم الأعيان التي تديرها وزارة الأوقاف إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي والمجالس المحلية.
ج- الأوقاف الخيرية التي يشترط فيها الواقف النظر لنفسه ولأبنائه من طبقة واحدة.
د- الأوقاف التي تشرف عليها هيئة أوقاف الأقباط الأرثوذكس.
ه- الأوقاف التى تشرف عليها أوقاف الكنيسة الكاثوليكية والطائفة الإنجيلية.
ونص القانون على أن ينشأ صندوق باسم الوقف الخيري تكون له الشخصية الاعتبارية، ويتبع رئيس الوزراء، لدعم الأجهزة الحكومية في إقامة وتطوير المشروعات الخدمية والتنموية والبنية التحتية، وغيرها من المشروعات الاجتماعية والاقتصادية التي تُساهم في دعم الموقف الاجتماعي والاقتصادي للدولة. ولوزير الأوقاف سلطة التصرف في أموال صندوق الوقف، بما يتضمنه من أموال صناديق النذور، وإعمار المساجد، وتوجيهها لصالح مشروعات التطوير في الدولة.
وبموجب القانون، تتكون موارد الصندوق من فوائض حسابات اللجنة العليا للخدمات الإسلامية والاجتماعية، وصناديق النذور، وصناديق إعمار المساجد القائمة في نهاية السنة المالية، وفوائض ريع الوقف، وسائر التبرعات والهبات والمنح النقدية أو العينية التي يتلقاها من الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين، ويقبلها مجلس إدارة الصندوق، بما لا يتعارض مع أغراضه. وأي موارد أخرى يصدر بها قرار من رئيس الجمهورية، بشرط ألا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وكانت هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية قد انتهيا في مارس 2018م إلى رفض مشروع قانون تعديلات هيئة الأوقاف المصرية، والتأكيد على أنه (لا يجوز شرعًا تغيير شرط الواقف، فشرط الواقف كنص الشارع، وعلى ذلك اتفقت كلمة الفقهاء قديمًا وحديثًا، ومن ثم لا يجوز بأي ذريعة مخالفة شرط الواقف، أو التصرف في الوقف على غير ما شرطه، وبناء على ذلك لا يوافق مجمع البحوث الإسلامية على مشروع النص المقترح على خلاف هذه القواعد الشرعية المتفق عليها)، وهو ما أيدته هيئة كبار العلماء في اجتماعها.
لكن السيسي ضرب بكل هذا عرض الحائط وصادق على القانون المشبوه.
في 7 سبتمبر 2021م صادق السيسي على القانون رقم 145 لسنة 2021 بإنشاء صندوق الوقف الخيري، والذي يستهدف به تسهيل إجراءات الاستيلاء على أموال الوقف الخيري من جانب الحكومة، وتوجيهها لإقامة المشروعات الخدمية والتنموية مثل العاصمة الإدارية الجديدة، بحجة معاونة الدولة في ملف التطوير. وبحسب نص القانون فإن الصندوق يتبع مباشرة رئيس الوزراء يمنح وزير الأوقاف سلطة التصرف في أموال صندوق الوقف، بما يتضمنه من أموال صناديق النذور، وإعمار المساجد، وتوجيهها لصالح مشروعات التطوير في الدولة.
الخلاصة والتوصيات
أولا، الوقف هو مؤسسة من مؤسسات الأمة لا مؤسسة من مؤسسات الدولة، والأصل في أموال الأوقاف أنها زكاة أو صدقة، وتقوم مؤسسة متخصصة فى الأعمال الخيرية بإدارة هذا المال للإنفاق من ريعه على عموم المجتمع، كبناء مساجد ومستشفيات، أو على أفراد كالفقراء والمحتاجين، هكذا تعى وزارة الأوقاف، وهكذا تعى الحكومة، وهكذا تعى كل الجهات المسؤولة، بما يعنى أن التصرف فى مال الوقف فى غير محله، أو فى غير المصارف المحددة، لا يحل شرعاً ولا يجوز قانوناً.
ثانيا، إذا كان هناك فساد فى إدارة أموال الأوقاف وهو قائم بالفعل والفساد للركب ، فهو ما يجب تقويمه، لكن ذلك لا يمنح أحد حق الاستيلاء عليه أو جعله مشاعاً مع أموال أخرى للصرف فى أوجه أخرى بخلاف المصارف الخيرية، فهو ليس كأموال الضرائب، ولا أموال الجمارك، ولا الجبايات، ولا التبرعات، بل ولا يتبع خزينة الدولة بأى شكل من الأشكال.
ثالثا، هناك مخاطر شديدة وانعكاسات سلبية من إصرار النظام العسكري منذ يوليو 1952م حتى اليوم على نهب أموال الأوقاف والتعامل معها على أنه مشاع والعمل على السيطرة عليها والتصرف فيها على غير شروط الواقفين ما يفضي إلى خسارة هذه الأموال الضخمة التي تعد رصيدا للأجيال القادمة والتي يتعين حمايتها من نهب العصابات والمسئولين الفاسدين أو النظام الطامع والذي سيبدد كل شيء كما بدد من قبل آلاف المليارات التي اقترضها على مشروعات وهمية لم تسهم بأي قيمة مضافة للاقتصاد أو للمواطنين.
رابعا، تبرهن للجميع خلال العقود الماضية أن النظام العسكري ــ باستثناء مرحلة السادات ــ خصوصا في عهدي عبدالناصر والسيسي ــ لا يكترث لأحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بتحريم التصرف في أموال الوقف الخيري والأهلي إلا وفقا لشروط الواقفين، ولا يضع اعتبارا للأحكام الخاصة بنظام الوقف في الإسلام، ويصر على تقنين إجرءات نهب الوقف الإسلامي، بما يسمح له بالتصرف المطلق في هذه الأصول بالبيع والشراء والاستبدال وغير ذلك من التعاملات، كما يتضح من قانون الصندوق السيادي والذي يمنع الرقابة على أمواله وتصرفاته من أي جهة رقابية في الدولة.
خامسا، سيطرة السيسي على أموال الوقف تمثل امتدادا لمرحة الطاغية جمال عبدالناصر، وتمثل أيضا امتدادا لمخططات القضاء على العمل الخيري والأهلي الذي بدأه السيسي بانقلابه حيث استولى على أموال وأصول آلاف الجمعيات والمؤسسات الخيرية وضم أموالها لخزانة الدولة، في إجراء شاذ سعى إلى تقنيه بتشريعات أكثر شذوذا. فالسيسي ينظر إلى أموال الوقف باعتبارها بلا صاحب وما دام أصحابها الذين أوقفوها ليسوا موجودين فإنه أحق بها من غيره. وهي نظرة تعبر عن نوازع السطو والاغتصاب واستحلال أموال الناس بالباطل حتى لو كانت وقفا لله من أجل الإنفاق على مصارف البر والخيرات.
سادسا، السيسي في سعيه الحثيث نحو السطو على أموال الوقف الخيري الإسلامي بدعوى استثماره وتعظيم موارده لم يجرؤ على التعامل بنفس الطريقة مع أموال الوقف القبطي التي تشرف عليها الكنيسة الأرثوذوكسية، والتي تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي والمزراع والشركات وآلاف الأديرة المنتشرة بجميع محافظات الجمهورية؛ فلماذا استبعد السيسي أوقاف الكنيسة من خططه؟ ولماذا يتسلط على الوقف الإسلامي دون غيره فهل يخشى الكنيسة ونفوذها الواسع؟ أم يخشى غضب أمريكا وأوروبا الذين لن يقبلوا مطلقا بسطو السيسي و حكومته على أموال الوقف القبطي كما فعل مع الوقف الإسلامي؟
ومن أهم التوصيات:
أولا، ضرورة التصدي لمؤامرات نظام السيسي الخاصة بتقنين نهب الوقف الخيري الإسلامي الذي يتعرض لعدوان صارخ منذ انقلاب يوليو 1952م. وذلك من خلال التوعية بالقضية وكشف خفايا ما يجري على وسائل الإعلام المختلفة حتى يكون الشعب على دراية وعلم بمؤامرات النظام وحيله الخداعية للسطو على الوقف الإسلامي.
ثانيا، على المخلصين من أبناء مصر تشكيل لجان لرصد كل ما يتعلق بنهب أموال الوقف وفضح النظام وتوعية الجماهير بخطورة هذا العدوان على أموال البر والصدقات والأوقاف. وتشكيل لجان قانونية لمتابعة هذه القضايا ورفع الدعاوى القضائية ضد النظام لحماية هذه الأموال والأوقاف.
ثالثا، التركيز على التمييز والاضطهاد الذي يتعرض له المسلمون في مصر تحت حكم العسكر، ففي الوقت الذي يشن فيه النظام غارة على الوقف الإسلامي لم يجرؤ على المساس بأوقاف الكنائس. وهو ما تكرر في ملف هدم المساجد بدعوى أنها بنيت بالمخالفة للقانون رغم أن السيسي سن قانونا خاصا لتقنين الكنائس المخالفة بما يبرهن على حجم التمييز والظلم الذي يتعرض به الإسلام والمسلمون تحت حكم الطاغية عبدالفتاح السيسي.
رابعا، العمل على تحرير مصر من هذه العصابة التي اختطفت الجيش لحسابها وبه اختطفت مصر وفرضت وصايتها على الجميع بالقهر والإرهاب، وستبقى مصر متخلفة تعمها الفوضى والظلم والطغيان ما بقي نظام العسكر يحكم بلادنا بالحديد والنار. فلا بد من العمل على تأسيس نظام جديد يكرس الحرية والعدالة ويشارك الجميع في صناعة القرار دون تهميش أو تمييز أو إقصاء. نظام يقوم على دولة القانون وليس دولة الأوامر ومراكز القوى، وهو جهاد طويل وشاق لكنه أفضل الجهاد على الإطلاق؛ لأنه قد يحرر مصر من الجهل والظلم والتخلف، وقد يمتد ذلك لتحرير الأمة كلها من هذه المرحلة السوداء التي امتدت وطالت.
الوقف في عهد عبدالناصر
وفي مرحلة ما بعد انقلاب 23 يوليو 1952م، فقد شن النظام العسكري بقيادة الدكتاتور جمال عبدالناصر، حربا ضارية ضد الأوقاف الإسلامية؛ وقد اتخذ الجنرالات إجراءات صارمة لتدمير الوقف الإسلامي يمكن رصدها في الآتي:
أولا، في تلك السنوات (1952 ــ 1970) تمت السيطرة على وزارة الأوقاف بشكل غير مسبوق في التاريخ الإسلامي كله؛ وجرى عسكرتها على نحو لافت؛ حيث تناوب على منصب وزير الأوقاف أحد عشر وزيراً كان منهم ستة وزراء من ضباط يوليو وهم حسب أسبقية توليهم وزارة الأوقاف:الصاغ صلاح سالم (من 5 أغسطس 1953 إلى 10 أغسطس 1955)، والبكباشي كمال الدين رفعت (من 10 فبراير 1959 إلى أول سبتمبر 1959م)، والبكباشى على صبري (من أول سبتمبر إلى 24 أكتوبر 1959)، والصاغ أحمد عبد الله طعيمة(من 24 أكتوبر 1959 إلى 10 أكتوبر 1961)، والبكباشي حسين الشافعي (من 10 فبراير 1967 إلى سبتمبر 1967).
ثانيا، خلال فترة ما بعد انقلاب 23 يوليو 1952م، وطوال الـ18 سنة التي حكم معظمها الدكتاتور جمال عبدالناصر، صدر عشرون قانونا خاصا بالوقف بمعدل قانون كل سنة، إضافة إلى عشرات القرارات الوزارية الخاصة بهذا القطاع؛ بمعدل خمسة قرارات أساسية كل سنة. ومن أبرز هذه القوانين والقرارات التي دمرت الوقف الإسلامي بكل أنواعه ما يلي:
في 14 سبتمبر 1952 صدر المرسوم بقانون رقم 180 لسنة 1952(بعد 52 يوما فقط من الانقلاب)، وقد قضى هذا المرسوم بالإبقاء على الوقف الخيري فقط (الذي لا نصيب في ريعه لذرية الواقف)، ومنع إنشاء أوقاف جديدة على غير الخيرات، وحل الوقف الأهلي وقسمة أعيانه على مستحقيه، بحسب الطريقة التي نص عليها هذا المرسوم ذاته. وكان الحرص على نجاح قانون الإصلاح الزراعي هو الهدف الأساسي من إلغاء الوقف الأهلي بذلك الإجراء المبكر(وكانت مساحة أراضي الوقف تربو على نصف مليون فدان وفق الأرقام الرسمية سنة 1952م). أمّا القول بأن الإلغاء كان للتخلص من سلبيات الوقف الأهلي وسوء استغلاله وفساد نظَّاره ومدرائه -أو إدارته الأهلية- فلا يعدو أن يكون تبريراً إضافياً لما حدث، وخاصة أن قانون الوقف رقم 48 لسنة 1946م كان قد تكفل بمعالجة معظم تلك السلبيات والمفاسد التي كانت موجودة فعلاً وبدرجات متباينة في بعض الوقفيات. ومن جانب آخر فقد جاء حل الوقف الأهلي في سياق الإجراءات التي اتخذتها العسكر الجدد لتقويض الدعائم الاجتماعية والاقتصادية للنظام القديم، وللحد من سلطة كبار ملاك الأراضي -بصفة خاصة- الذين شكلوا القاعدة الاجتماعية والسياسية للنظام الملكي، وكانوا في الوقت نفسه يمثلون المصدر الرئيسي المحتمل لمعارضة النظام الجديد؛ ومن ثم كان لابد من إضعاف قوتهم لتأمين مستقبل النظام الجديد، ولو على حساب الأوقاف الأهلية والخيرية. وكانت سياسة «الإصلاح الزراعي» من أهم السياسات التي انتهجتها حكومة يوليو لتحقيق هذا الهدف.
من الضربات التي تلقاها الوقف الإسلامي، مصادرة عشرات الآلاف من أفدنة الوقف الخيري وأكثر من 160 ألف فدان من الوقف الأهلي، وحسب إحصاءات المملكة المصرية في سنة 1952م فإن مساحة الأراضي الزراعية الموقوفة بلغت 582.950 فداناً، وتم مصادرة نحو 130 ألف فدان وهي الأوقاف التي كانت تحت إدارة ديوان الأوقاف الملكية، وكان معظمُها أوقافاً لأعضاء الأسرة المالكة، وقد صادرها العسكر ووزعوها طبقاً لأحكام قانون الإصلاح الزراعي رقم 178 لسنة 1952م. ولم يكثرث العسكر بأن هناك 75.804 من الأفدنة (خمسة وسبعين ألف فدان وثمانمائة وأربعة فدادين) من تلك الأوقاف الملكية كانت أوقافاً خيرية (وليست أهلية) وكان ريعها يجري صرفه على مصالح ومنافع عامة.
ولو أن ما يسمى بمجلس قيادة الثورة طبق عليها أحكام المرسوم بقانون 180 لسنة 1952م لما تم حلُّها. ولكن حكومة يوليو عاملتها معاملة أراضي الإقطاع فصادرتها ووزعتها. وبناء على ذلك؛ تلقَّى نظام الوقف ضربةً قوية أضرت بأصوله العقارية من الأراضي والمباني ضرراً بليغاً.
في 21 مايو 1953م، و«بعد الاطلاع على الإعلان الدستوري الصادر في 10 فبراير 1953م من القائد العام للقوات المسلحة وقائد ثورة الجيش» ــ حسب نص ديباجة القانون ــ صدر القانون رقم 247 لسنة 1953 الذي جعل من سلطة وزير الأوقاف تعديل مصارفها على جهات البر، دون التقيد بشرط الواقف؛ ومن ثم أطاح بالنصف المتبقي من إرادة المجتمع الحرة، وأطاح معها حرية اختيار مؤسسي الأوقاف الخيرية؛ حتى أولئك الذين ماتوا من أزمنة بعيدة. ونص هذا القانون لأول مرة في تاريخ الوقف البالغ آنذاك أكثر من ألف وثلاثمائة سنة على معاقبة صاحب المبادرة بعمل خيري أو ذويه بالحبس والغرامة في حال عدم تبليغهم عن الأوقاف التي لديهم .
في 7 أكتوبر 1954م وبالاستناد أيضاً للإعلان الدستوري لقائد ثورة الجيش، صدر القانون رقم 525 لسنة 1954م بتخويل وزارة الأوقاف حق نزع ملكية بعض العقارات الموقوفة للمصلحة العامة، وتحويلها إلى «النفع العام».
في 13 يوليو 1957م أصدر رئيس الجمهورية (عبد الناصر) القانون رقم 152 لسنة 1957م بتنظيم استبدال الأراضي الزراعية الموقوفة على جهات البر في مدة أقصاها ثلاث سنوات (كانت تنتهي في سنة 1960م)، وتتسلمها اللجنة العليا للإصلاح الزراعي لتوزعها وفقاً لأحكام قانون مجلس قيادة الثورة رقم 178 لسنة 1952 بشأن الإصلاح الزراعي. على أن تؤدي الهيئة العامة للإصلاح الزراعي لوزارة الأوقاف سندات بقيمة تلك الأراضي تستهلك على مدى ثلاثين عاماً بفائدة سنوية 3% .
وفي هذا السياق جرى ضم ريع الأوقاف الإسلامية إلى ميزانية الدولة لأول مرة في التاريخ ابتداء من السنة المالية 1958/1959م وبعدها أضحت وزارة الأوقاف بلا أوقاف. ونظراً لاشتداد الأزمة الاقتصادية في البلاد آنذاك، أسرعت السلطة بإصدار القانون رقم 133 لسنة 1960م بتخفيض الفائدة (الربوية) على سندات تعويض الأوقاف إلى واحد ونصف في المائة بدلاً من 3%. وبذلك يكون عبدالناصر هو من أول من أدخل الربا المحرم شرعا إلى الأوقاف، تحت سمع وبصر الأزهر والإفتاء والأوقاف لكنهم تحولوا إلى شياطين خرس ولم يجرؤ أحدهم على الصدع بالحق في وجه الطاغية الظالم. بل إن أحد نواب مجلس الأمة سأل الشيخ أحمد حسن الباقوري (تولى وزارة الأوقاف من 1952 إلى 1959م) كيف ننفق على المساجد من مال مشكوك فيه؟ فأجاب مدافعا عن قوانين وقرارات عبدالناصر بشأن الوقف بأن تلك الفوائد عبارة عن «ريـع طبقاً لنظام أخذت به الدولة». ثم وجّه كلامه للعضو صاحب السؤال وقال له: إن كنت تسألني كوزير للأوقاف فقد أجبتك، وإن أردت الفتوى فليس هنا موضــعها. بحسب مضبطة المجلس.
في 21 ديسمبر 1959م صدر قرار رئيس الجمهورية بقانون رقم 272 لسنة 1959 بتنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها، وتضمن هذا القانون لأول مرة في تاريخ وزارة الأوقاف النص على اختصاصها بتعيين أئمة المساجد التي تشرف عليها الوزارة، على أن يصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية، إلى جانب اختصاصها بإدارة بعض الأوقاف!
استثنى عبد الناصر أوقاف الكنيسة الأرثوذوكسية من هذه القوانين والقرارات التعسفية وذلك خوفا من نفوذ الكنيسة وتأليب الرأي العام الأميركي والأوروبي عليه، فعندما صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 55 لسنة 1960 بشأن قسمة الأعيان التي انتهى فيها الوقف، وفي 19 يوليو 1960م. وبعد أن اشتدت الإجراءات السلطوية ضد الأوقاف واقتربت من أن تشمل أوقاف ومؤسسات المواطنين المسيحيين، وتحت ضغوط مختلفة صدر قرار جمهوري بقانون رقم 264 لسنة 1960م بشأن استثناء أراضي الأوقاف الخاصة بجهات البر العامة للأقباط الأرثوذكس من أحكام تلك القوانين والقرارات التي كانت قد مزقت أكثر من نصف مليون فدان من أوقاف المواطنين المسلمين، والتي كانت موقوفة على المدارس والمساجد ودور الأيتام والمستشفيات…إلخ.
في 31 يناير 1962 صدر قرار رئيس الجمهورية بقانون رقم 44 لسنة 1962م بشأن تسليم الأعيان التي تديرها وزارة الأوقاف إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي والمجالس المحلية، وهو ما حدث خلال الستينيات. والمفاجأة الكبرى أن ما يقرب من نصف مساحة الأراضى التي خضعت فعلاً لقوانين الإصلاح الزراعي وتمت مصادرتها وجرى توزيعها من سنة 1952م، إلى سنة 1970م كانت من أراضي الأوقاف وتصل وفق الوثائق الرسمية إلى (349,786 فدانا)، وهذا المجموع نفسه يساوى حوالي 48% من جملة الأراضي الزراعية التي تم توزيعها طبقا لقوانين الإصلاح الزراعي الثلاثة التي صدرت تباعاً من سنة 1952 م إلى سنة 1970م؛ إذ بلغت جملتها 817،538 فداناً وأن حوالي 28% من جملة أراضي الإصلاح التي تم تمليكها أو تأجيرها، أو احتفظت هيئة الإصلاح بإدارتها خلال الفترة نفسها تساوي مساحة الأراضي الزراعية التي كانت موقوفة على البر العام والبر الخاص؛ وهي المساحة عينها التي تسلمتها هيئة الإصلاح الزراعي من وزارة الأوقاف بموجب القانون رقم 152 لسنة 1957م والقانون رقم 44 لسنة 1962م.
من أهم القرارات الإدارية ما أصدرته «لجنة شئون الأوقاف» بتاريخ 12/5/1967م، ونص على تغيير مصارف ريع الأوقاف الخيرية جميعها دفعة واحدة، ويشمل ذلك ما كان متجمدًا من أموالها أيضًا، وجعلها على مصرفين اثنين فقط هما: نشر الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج، والبر على اختلاف ألوانه بأولوية أقارب الواقفين. واستهدف عبدالناصر بهذا القرار تشديد قبضة السلطة على موارد الأوقاف وتقنن عمليات النهب المنظم لها بدعوى فك أزمة الدولة الاقتصادية بغض النظر عن شروط الصرف وأوجه الإنفاق التي نص عليها الواقفون. وكان من أهم النتائج التي ترتبت على هذا القرار أنه قطع الصلة نهائيا بين الأوقاف وبين المؤسسات الخيرية الأهلية التي كانت تعتمد على ريع الأوقاف، ومنها: مستشفيات ، ومدارس، وملاجئ أيتام… الخ، وهي المؤسسات التي أنشأتها الأوقاف أو أسهمت في إنشائها وتمويلها، ومن ثم حُرمت تلك المؤسسات من التمويل الوطني الذاتي المستقل الذي كانت تحصل عليه من ريع تلك الأوقاف، ومن ناحية أخرى فإن هذا القرار قد وضع إرادة السلطة الحكومية محل الإرادة الاجتماعية المعبر عنها في شروط الواقفين، واختزل الأهداف التي نصوا عليها في هدفين فقط اتَّسَمَا بالعمومية الشديدة، والغموض الأشد. وبالعمومية والغموض انفتح باب الفساد المؤسسي ليتغلغل كيفما شاء في إدارة الأوقاف منذ ذلك الحين. معنى ذلك أن “شرط الواقف لم يعد كنص الشارع” كما هو مجمع عليه في أحكام الوقف، ولكن باتت إرادة السلطة أعلى من القانون وتبرر لنفسها نهب القوقف رغم أنه من أموال الصدقات التي حرم الله السطو عليها.
وبموجب القوانين والقرارات الجمهورية والوزارية التي صدرت خلال الفترة من سنة 1959م إلى سنة 1969م بشأن إعادة تنظيم وزارة الأوقاف، أصبحت هذه الوزارة جزءاً من البيروقراطية الحكومية. وانتزعت السلطة منها ماكان لديها من مدارس ومستشفيات ومؤسسات خيرية اجتماعية أخرى وسلمتها إلى وزارات: التعليم، والصحة، والشئون الاجتماعية، على التوالي. وسلَّمت أيضًا جميع الأعيان الموقوفة على الخــيرات للإصلاح الزراعي والمجالس المحلية.
مآرب الحرب القذرة
لقد كان الهدف الأساسي من هذه القوانين والإجراءات هو تعبئة كافة موارد الأوقاف -في إطار التعبئة العامة لكافة موارد الدولة- وتوظيفها في خدمة السياسات التي انتهجتها سلطة يوليو في الداخل والخارج؛ دون مراعاة لخصوصية أموال الأوقاف، أو اكتراث بالحصانة التي أسبغتها عليها الشريعة الإسلامية.
وكان عبد الناصر يستهدف من هذه الحرب الضروس على الوقف الإسلامي تقنين عمليات نهب أموال الوقف بدعوى الإصلاح الزراعي من جهة، أو دعوى دعم مشروعات الدولة من جهة آخرى، ومن جهة ثالثة، احتواء مؤسسة الأزهر وتطويعها لتكون أداة من أدوات السلطة، وتجفيف منابع التمويل الخاصة بها، وهي أموال الوقف الإسلامي التي كانت تدر على الأزهر 8 ملايين جنيه سنويا، وبعد مراسيم عبد الناصر تراجع الريع إلى “800” ألف جنيه فقط في السنة!. فضلا عن امتناع الهيئة العامة للإصلاح الزراعي عن سداد الريع المستحق، الأمر الذي جعلها مدينة لوزارة الأوقاف بمبالغ مالية هائلة، فضلا عن تبديد الهيئة لأغلب هذه الأوقاف لا سيما أوقاف الخيرات الموقوفة على المساجد؛ وبهذا ضرب عبد الناصر الركيزة الاقتصادية لعلماء الأزهر، تلك الركيزة التي كانت تجعلهم في غنى عن أموال الحكومة، الأمر الذي كان يكفل لهم الاستقلال عن الحكومة ويتيح لهم معارضتها، دون الخوف من قطع رواتبهم أو تشريد أسرهم من بعدهم.
وعلى حين عوملت أوقاف المسلمين هذه المعاملة، تم استثناء أوقاف غير المسلمين من أحكام هذه القوانين، حيث وضعت لها قوانين خاصة، وتركت لكل كنيسة أوقافها في حدود مائتي فدان، وما زاد عن هذا كانت الدولة تأخذه وتدفع ثمنه بسعر السوق، وهو ما أدى في أواخر السبعينات إلى مناداة عدد من الأصوات في مجلس الشعب بمساواة أوقاف المسلمين بأوقاف المسيحيين.
يقول الدكتور إبراهيم البيومي غانم: «إن نظام الوقف الذي بلغ عمره أكثر من أربعة عشر قرنًا، قد انهار على يد ثورة يوليو في ثمانية عشر عامًا فقط، وتمزقت أصوله المادية، وتشوهت فكرته الخيرية تحت الإجراءات التي اتخذتها حكومات الثورة منذ يوليو سنة 1952م حتى نهاية الستينيات.
وإلى تلك الحقبة يرجع أصل الحكاية المأساوية، ومنها منبع الشكاية المرة في قطاع الأوقاف المصرية إلى اليوم. وقال عنها الشيخ صلاح أبو إسماعيل، عضو مجلس الشعب في سنة 1980م أيضًا بأن ما حدث للأوقاف هو «تدويخ وبلطجة، وكأن أوقاف المساجد هي أوقاف لعدو وقع تحت أيدينا». وفي سنة 1980م، ذكر الدكتور إبراهيم عوارة (نائب طنطا في البرلمان) في معرض استجوابه لوزير الأوقاف أن أراضي وقف الخديوي إسماعيل على المساجد ومكاتب تحفيظ القرآن -ومساحتها 22 ألف فدان بمديرية الشرقية- قد «مُلِّكَت بأوامر شفوية في عهد مراكز القوى»، وختم عوارة استجوابه لوزير الأوقاف بأن طالب «بعزل وزير الأوقاف وتقديم جميع وزراء الأوقاف السابقين للمحاكمة اعتباراً من سنة 1952 لأنهم بددوا مال الله».
فرد وزير الأوقاف المستجوب آنذاك وهو الشيخ «عبد المنعم النمر» على ما أثاره أعضاء المجلس مؤكداً على أن ما حدث للأوقاف كان «مذبحة ومأساة لفَّت الأوقاف في لفائفها السود… وكانت خطة مدبرة لكسر العمود الفقري للإسلام وللدعوة الإسلامية». ووصف الذين اعتدوا على الوقف بأنهم «شياطين».
مراجعات ما بعد الهزيمة
بعد الهزيمة المدوية في 5 يونيو 1967م، تجرأت بعض الأصوات على انتقاد بعض سياسات النظام علنا، وفي هذه الأثناء تم تشكيل مجلس الأمة بالانتخاب بدلا من التعيين، وتضمنت تلك المناقشات بعض الانتقادات لسياسة الحكومة تجاه الأوقاف، وخاصة فيما يتعلق بإهدار شروط الواقفين وصرف ريع أوقافهم في غير ما خُصصت له، وإهمال المساجد التابعة لوزارة الأوقاف.
وفي «تقرير لجنة الخطة والميزانية» عن السياسة المالية لمشروع الموازنة العامة للدولة لسنة 1969/1970م، طالبت اللجنة بضرورة «احترام شروط الواقفين وعدم إدماج إيرادات الأوقاف ضمن الميزانية العامة للدولة». وكانت تلك الإيرادات قد أدمجت في ميزانية الدولة ابتداء من السنة المالية 1958/1959م وبعدها أضحت وزارة الأوقاف بلا أوقاف، إلى أن نشأت هيئة الأوقاف المصرية في سنة 1971م.
كما انتقدت «لجنة الخدمات» بمجلس الأمة المشروع الذي قدمته الحكومة في سنة 1969م لتعديل بعض أحكام القانون 272 لسنة 1959م بشأن تنظيم وزارة الأوقاف، لأن ذلك المشروع قد تضمن نصاً يضفي حصانة على القرارات الإدارية لوزير الأوقاف؛ وهي القرارات الخاصة بإعطاء مساعدات من ريع الأوقاف، ويمنع الطعن فيها أمام الجهات القضائية.
ومن أهم المكاسب الشكلية للوقف الإسلامي من هذه المراجعات هو «تقرير اللجنة المشتركة من وزارة الأوقاف والهيئة العامة للإصلاح الزراعي»، وهو تقرير خاص بتحديد مستحقات وزارة الأوقاف لدى الإصلاح، وقد عرف باسم «الاتفاق النهائي». وقد تم تشكيل لجنة خاصة لإنجازه بتاريخ 5 أغسطس/آب 1968م، وانتهت تلك اللجنة من أعمالها في مايو/أيار سنة 1970م. واعُتبرت النتائج التي تم الاتفاق عليها «وثيقة رسمية» تحتج بها وزارة الأوقاف في المطالبة بمستحقاتها طرف الإصلاح الزراعي، وهو ما حدث خلال السبعينيات والثمانينيات ولا يزال يحدث إلى اليوم.
السادات وتأسيس «هيئة الأوقاف»
ارتبطت نشأة «هيئة الأوقاف» بما عرف بـ”ثورة التصحيح”، في 15 مايو 1971م، وذلك بعد انتصار الرئيس الأسبق محمد أنور السادات على مراكز القوى؛ حيث صدر القرار الجمهوري رقم 80 لسنة 1971م بإنشاء هيئة الأوقاف المصرية، التي كانت في تقدير البعض إحدى الثمرات المبكرة لتلك الثورة. وكانت أيضاً إنجازاً له دلالته الرمزية المهمة في إطار سلسلة الإجراءات التي اتخذها السادات لإرساء شرعية نظام الحكم في جانب منها على أسس إسلامية.
وكان للدكتور عبد العزيز كامل -وزير الأوقاف آنذاك- دورٌ بارز في نشأة هيئة الأوقاف المصرية، كما كان له دور كبير في محاولة رد الاعتبار لنظام الوقف وإحياء دوره، بعد أن كان قد تم تقويض هذا الدور تماماً في الخمسينيات والستينيات. وقد كان إنشاء هيئة الأوقاف المصرية في سنة 1971م، ثم إصدار القانون رقم 42 لسنة 1973م بشأن استرداد جميع الأراضي الزراعية والعقارات الموقوفة التي سبق أن تسلمتها هيئة الإصلاح والمجالس المحلية. وقضى هذا القانون بردها مرة أخرى إلى وزارة الأوقاف لتديرها عن طريق «هيئة الأوقاف المصرية» وحدها، وتستثمر أموالها حتى «توفر الدعم المالي لحركة الدعوة الإسلامية، ورعاية شروط الواقفين»؛ كان كل ذلك يعني: أن تظهر سلطة الحكم بمظهر الحريص على «مال الله»، وأنها جادة في استرداده من الذين بددوه، ومن مغتصبيه الذين سرقوه في عهد مراكز القوى.
شرعت هيئة الأوقاف المصرية في جمع أموال الأوقاف المبعثرة، لكنها لم تخرجها عن سيطرة الدولة. بيد أن هذا الوضع كان أفضل بكثير مقارنة بما كان عليه حال الأوقاف في الستينيات. وبذلك أخذت “هيئة الأوقاف” صفة الكيان الاقتصادي البحت، بهدف إدارة أموال وممتلكات الأوقاف واستثمارها والتصرف فيها بما يحقق لها أكبر عائد ممكن «على أسس اقتصادية» دون التقيد بالروتين الحكومي باعتبارها أموالاً خاصة، حسب ما ورد في قانون إنشائها، كما أن الهيئة قامت أيضاً على أساس «مبدأ اللا مركزية» في تصريف شئونها الإدارية والمالية، مع استقلالها بميزانية خاصة غير مدمجة في الميزانية العامة للدولة، ويتقاضى موظفوها وعمالها مرتباتهم وأجورهم من حصيلة إيراداتها من ريع الأعيان الموقوفة التي تديرها وتقوم باستثمار أموالها.
ومن أهم مكاسب الأوقاف بإنشاء الهيئة هو إلزام المجالس المحلية وهيئة الإصلاح الزراعي برد ما سبق أن سلمته إليها وزارة الأوقاف من الأراضي الزراعية والعقارات الموقوفة، وذلك بنصوص قانونية قاطعة. وألزم القانون 42 لسنة 1973م هيئة الإصلاح الزراعي برد جميع الأراضي الموقوفة لوزارة الأوقاف، وأن يتم تقدير قيمة الأراضي التي تصرفت فيها بتمليكها لصغار المزارعين لتقوم الدولة بدفعها نقداً لهيئة الأوقاف. وأن توضع جميع الأراضي والأموال المستردة تحت إدارة هيئة الأوقاف لتقوم باستثمارها نيابة عن وزارة الأوقاف، ولتقوم أيضاً بتسليمها الريع السنوي لتتولى الوزارة «صرفه طبقاً لشروط الواقفين». وقد اتضح أن الإصلاح الزراعي باعت نحو (61.937) واحدا وستين ألف فدان وتسعمائة وسبعة وثلاين فدانا و2 قيراط و12 سهما من أطيان أراضي الوقف الخيري والأهلي. وبذلك أصبحت هيئة الإصلاح الزراعي مديونة للأوقاف بثمن هذه الأراضي التي وزعتها على صغار الفلاحين، طبقاً لما نصت عليه المادة الثالثة من قانون الرد رقم 42 لسنة 1973م.
كسبت الأوقاف أيضاً قيام هيئة الأوقاف بالسعي لاسترداد أعيان الأوقاف المغصوبة، أو المستولى عليها بدون وجه حق في الخمسينيات والستينيات، وخاصة في الفترة التي تولت فيها المجالس المحلية إدارة الأعيان الموقوفة الواقعة في نطاق المدن منذ سنة 1962م، وتصرفت فيها على أنها «مال سائب»، على حد ما ورد في الكتاب الصادر عن هيئة الأوقاف المصرية نفسها في سنة 1974م. ورغم تشكيل العديد من اللجان لاسترداد أموال الوقف منذ ذلك التاريخ إلا أن الكثير من أصول وأعيان الوقف لاتزال منهوبة حتى اليوم من جانب هيئات ومؤسسات حكومية وشركات وأشخاص لهم نفوذ في الدولة.
مراجع:
[1] إبراهيم البيومي غانم/ كيف انتقل تشريع الوقف من «الفقه» إلى «القانون»؟/ إضاءات 11 فبراير 2021م
[2] إبراهيم البيومي غانم/ يوليو والإصلاح الزراعي: كيف انتهى الوقف الأهلي في مصر؟/ إضاءات ــ 12 يناير 2021م
[3] إبراهيم البيومي غانم/ الأوقاف من لفائف الخمسينيات إلى لفائف الستينيات السوداء/ إضاءات ــ 27 أغسطس 2016م// إبراهيم البيومي غانم/ تفكيك أصول الأوقاف في الخمسينيات والستينيات/ إضاءات ــ 29 يناير 2021م
[4] عبدالمنعم منيب/عبدالناصر والإسلام/ طريق الإسلام ــ 24 يوليو 2016م
[5] إبراهيم البيومي غانم/ بعض ما يجب معرفته عن «هيئة الأوقاف المصرية»/ إضاءات ــ 31 يناير 2021م
[6] فادي الصاوي/ الجريدة الرسمية تنشر قرار تحصين وحماية مال الوقف/ مصر العربية 21 نوفمبر 2016
[7] عبد الناصر سلامة/ للبيع.. من مصر حتى اليونان/ المصري اليوم السبت 13 أغسطس 2016
[8] [ مصر: السيسي يستهدف ممتلكات الأوقاف لتمويل المشروعات/العربي الجديد 26 ديسمبر 2017…. انظر أيضا محمود مصطفى/ السيسي يوجه باستثمار أموال الوقف في المشروعات القومية/ مصراوي الثلاثاء 26 ديسمبر 2017
[9] البرلمان يمنح السيسي سلطة بيع أصول الدولة المصرية/ العربي الجديد 08 يونيو 2020
[10] محمد المسلمي/ أبرز أصول الدولة فى الصندوق السيادى الجديد.. أملاك الأوقاف مئات الأفدنة من الأراضى الزراعية../ صوت الأمة 13 إبريل 2018
[11] السيسي يصادق على تشريع يتيح الاستيلاء على أموال الوقف الخيري/ العربي الجديد ــ 07 سبتمبر 2021
[12] شيماء عبدالهادي/ هيئة كبار العلماء بالأزهر ترفض مشروع قانون “الوقف” وتحدد شروط قبوله/ بوابة الأهرام 28 مارس 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق