تقرير الإدانة الفاضحة
أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
في الخامس من أكتوبر 2021 دوّى أعنف زلزال يهز الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، بالإعلان عن محتوي تقرير لجنة تقصي الحقائق، في الاعتداءات الجنسية على الأطفال في الكنائس الفرنسية وملحقاتها من أديرة أو مدارس داخلية تابعة لها.. ففي ذلك اليوم ما من موقع خاص أو عام، أو جريدة أو إذاعة أو تليفزيون أو أيا كانت الوسيلة إلا وتناول ذلك الانفجار الذي شبههُ البعض بانفجار تشيرنوبيل أو أعنف منه..
كما كشفت اللجنة عن تواطؤ التدرج الإداري الكاثوليكي في الكنائس المختلفة في فرنسا وخاصة في الفاتيكان، وعدم اكتراثهم بل ومحاولاتهم التعتيم على هذه الفضائح المخزية لفيالق المسيح على الأقل حتى سنة 2020، ـ تلك السنة التي حصرتها اللجنة كنهاية لحد البحث والتحقيق والتنقيب، وقد حددت بداية عملها ابتداءً من 1950. أي إن الأرقام الواردة بهذا التقرير تتعلق بسبعين عاما فقط من الاعتداءات والاغتصابات الكارثية في الكنائس الفرنسية وحدها.
ففي الأعراف الكنسية أو في تاريخ المسيحية ككل، إن هذه الآفة مرتبطة بمسيرتها منذ أولي خطواتها، وهو ما سوف نراه عما قليل، إلا إن التقرير الحالي، فمتعلق بالسبعين عاما في الكنائس الفرنسية الكاثوليكية وتوابعها وحدها. وإذا أخذنا في الاعتبار أن المسيحية قد انقسمت الي 350 كنيسة منشقة عقائديا، وأن التقرير قد تناول الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا فقط وليس في عموم الكنائس، وفي فترة زمنية محددة فقط، لأدركنا المصيبة التي تنخر في أنحاء العالم الكنسي والمجتمعات التابعة له..
ومن المؤكد إن المسألة ممتدة الجذور وفي مختلف القطاعات الكنسية بمختلف البلدان، بدليل أن قبل هذا التقرير تم تشكيل لجنان في البلدان التالية، وأذكرها على سبيل المثال:
* في استراليا، فيما بين 2013ـ 2017 للبحث في خبايا الأقبية الكنسية والاعتداءات الجنسية؛
* وفي ألمانيا: تقدم أسقف ميونخ رينهارت ماكس بالاستقالة من كثرة ما يتم التعتيم عليه في الكنائس وملحقاتها، وهو ما أطلق عليه "كارثة الاعتداءات الجنسية" وقد رفض البابا فرانسيس استقالته؛
* وفي الولايات المتحدة: كشفت جريدة بوسطن جلوب جهود التعتيم التي يقوم بها الكيان الكنسي الكاثوليكي في القرن الماضي، ودفعت الكنيسة آنذاك مئات الملايين من الدولارات كترضية للمعتدي عليهم. وفي أغسطس 2018 أكدت التحقيقات أن أكثر من 300 قسا قد اغتصبوا أكثر من عدة آلاف من الأطفال في مقاطعة بنسيلفانيا وحدها؛
* وفي سبعينات القرن الماضي تم شلح الكاردينال تيودور ماككاريك لاغتصابه قصّر وتم التعتيم على التفاصيل فهو من الرتب العُليا في التدرج الكنسي؛
* آيرلاندا: بعد تسع أعوام من التحقيق أعلنت اللجنة المختصة إن الاعتداءات الجنسية كانت منتظمة منذ 1930. وأكدت لجنة أخري ان السلطات الكاثوليكية دأبت التعتيم لأكثر من عدة عقود..
أما التقرير الحالي فيتكون من 2500 صفحة والصورة واضحة بعاليه، ويؤكد أنه في تلك الفترة قد تم الاعتداء على 330000 ألفا من الأطفال القصّر في الكنائس الكاثوليكية الفرنسية وملحقاتها. أما المعتدون فهم أكثر من 115000 قسا بدرجاتهم المختلفة. وأن 80 % من الأطفال المغتصبين من البنين، والعشرين بالمائة الباقية من البنات. وأن خمسة ملايين ونصف من الأطفال قد تعرض للاغتصاب قبل سن الثامنة عشر. كما أكد التقرير أن ما يتم في الكنائس وباقي الأماكن التابعة لها أكثر بما لا يقارن مما يتم خارجها من اعتداءات.
من ناحية أخري أوضح التقرير أنه لم يأخذ في حساباته الأشخاص المعتدي عليهم وتوفوا في الفترة التي سبقت أبحاث الجنايات أو أثناءها، أي من 1950 و2020، ولا الذين يؤثرون الصمت على فضيحة الكشف عن مآسيهم أو أولئك الذين أصيبوا بأمراض نفسية وعصبية وتاهوا في الزحام..
وقد أكد رئيس اللجنة جان مارك سوفيه (J-M Sauvé)، على أن مسؤولية الكنيسة في المخالفات الجنسية التي قام بها رجالها مؤكدة، كما أوصي التقرير من خلال خمس وأربعين بندا كيفية حماية الأطفال في المستقبل. وأكثر ما أكد عليه كشف التغطية المتعمدة من كبار المسؤولين الكنسيين بدأب، وحثهم على تحمل مسؤوليتهم. كما طالبت اللجنة بأن تقوم المؤسسة الكنسية بدفع تعويضات للمجني عليهم. واللافت للنظر أنه ثاني يوم عرض التقرير أعلن البابا فرنسيس: "من أين تأتي الكنيسة بكل هذه الأموال، وعلى الجانب المدني تحمل ذلك"!
وعلي الرغم من العدد الذي يصعب حصره من المداخلات والتعليقات، سواء الكنسية منها أو المدنية، خاصة وإن البابا فرانسيس قد اكتفي بالتعبير عن "خجله" وعن "اعتذاره"، فإن أحدا لم يتطرق إلى أصل الموضوع الذي يرجع الي بدايات المسيحية، كما أشرت سالفا.
قضية التبتل في الكنيسة:
لا يجهل أغلبنا كيف بدأت أولي خطوات المسيحية بالتخبط والمعارك والانقسامات، على الرغم من ان كافة أصولها المكتوبة بلا استثناء هي باللغة اليونانية.. والمفارقة الثانية تبدأ مع حقيقة أن يسوع كان يهوديا، يحاول تصويب مصار بني جلدته من الانحراف عن أصول العقيدة اليهودية وتشريعها.. والمعروف أن الشرع اليهودي يحتم على الرجل أن يتزوج قبل سن الثلاثين. وهو السن الذي تحدده الوثائق الكنسية كبداية علاقة يسوع بالمسيحية، التي بدأت في سن الثلاثين وانتهت في ثلاثة وثلاثين تقريبا.. بل ولا تشير أية وثيقة الي كيفية تحول السيد لمسيح من اليهودية ليصبح قائدا لعقيدة لا يعرفها أحد.
ولا يسع المجال هنا لتناول التفاصيل بترتيبها وتفاصيلها، فثابت أن يسوع كان متزوجا من مريم المجدلية وأن أغلب الحواريين كانوا متزوجون وفقا للشرع اليهودي. وبعد ما تم إنشاء الكيان الكنسي تورد بعض الوثائق أن قضية التبتل المفروضة على القساوسة مطروحة منذ بداية القرن الرابع، وإن كانت غير متّبعة بالتزام حتى القرن الثاني عشر. إلا إنه لو كان الزواج محرما كنسيا، فلم يسر هذا التحريم على العلاقات غير الشرعية، إذ كانت واردة بأكثر من 50 % بين القساوسة. وذلك لم يمنع، في البدايات، من تعيين قساوسة متزوجين. وأول قرار في هذا الشأن يرجع لسنة 306:
"الأساقفة والقساوسة والشمامسة وغيرهم ممن يتولون مهام كنسية عليهم أن يمتنعوا تماما عن العلاقات الجنسية مع زوجاتهم وعدم الإنجاب. وأي مخالفة لهذا القرار نتيجتها الاستبعاد التام". إلا أن هذا القرار قد سقط العمل به تقريبا من القرن الرابع حتى الثاني عشر، بل هو في الواقع قد تواصل حتى أواخر القرون الوسطي، إذ كان نصف رجال الكنيسة تقريبا متزوجون. وأول قرار مجمعي صريح بتحريم الزواج صدر عن مجمع لاتران سنة 1132. ولم يكن لهذا القرار هدفا لاهوتيا وإنما كان دافعه ماديا بحت. إذ ان فترة تطور الإقطاع نتيجة لتفتيت الإمبراطورية الرومانية في الغرب قد مسّت الكنيسة أيضا. بمعني أن وجود قساوسة متزوجون ولهم أبناء سيسمح باستيلاء هذه العائلات على أموال ذويهم من الكنيسة في حالة وفاة القس أو غيره من الرتب.
ولم يكن الالتزام صارما بقرارات مجمع لاتران، بحيث قرر مجمع لاتران الثاني سنة 1134 إدانة القساوسة المتزوجون ومنعهم من إقامة القداس. وقام البابا جريجوار السابع بفصل العديد من الأساقفة.. وتراخي قانون التبتل في القرون التالية حتى انتشرت مقولة كنسية تقول: "إن لم تتمكن من العيش متبتلا فعلي الأقل كن حريصا". وهو ما يكشف عن إن الاساقفة كانوا يغضون الطرف عمّن ينفلت بحرص! فالمسألة في واقع الأمر مسألة مالية صرف ومتعلقة بالحفاظ على أموال الكنيسة وحرصها على ألا يرث أي مدني أمواله منها.
وينص القانون الكنسي رقم 277 على ما يلي: "على رجال الدين فرض الالتزام بالتبتل التام والدائم من أجل ملكوت السماوات، وهم ملزمون بالتبتل، تلك الهبة الخاصة من الرب التي بفضلها يمكن لرجال الدين أن يتوحدوا بصورة أسهل بالمسيح، بقلب لا يتقاسمه أحد، ويقوموا بخدمة الرب والبشر بحريّة أكبر"..
والواضح من تقرير السيد سوفيه، وكل ما سبقه من تقارير مخزية في البلدان الغربية الأخرى، وكل ما تكشّف حديثا من آثار ورفات آلاف الأطفال، الذين قُتلوا اغتصابا وتعتيما، من السكان الأصليين في الأمريكتين، أن كل هؤلاء القساوسة بتدرجاتهم الوظيفية، لا تعنيهم قضية التوحد بالسيد المسيح في شيء..
ويبقي السؤال مطروحا:
هل يحق لمثل هذا الغرب ولأتباع ذلك الدين ان يقرروا اقتلاع الإسلام وتنصير العالم؟
ومعذرة لمن يجهل: إنها قرارات معلنة رسميا وصادرة عن مجمع الفاتيكان الثاني المنتهي سنة 1965..
زينب عبد العزيز
14 أكتوبر 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق