حتى يعود الشباب
لم يكن ذلك الفلاح البسيط يمتلك شيئًا يميزه سوى ذلك الوشم الذي يظهر على وجنتيه ويحمل شكل عصفورين، والبنصر المبتور من أصابع يده اليسرى، لكنه تحرك ضد قوات الاحتلال التي داهمت وطنه.
ثارت ثائرة الغزاة الفرنسيين بحثا عن ذلك الفلاح الذي يُدعى حامد، وفتشوا عنه في كل بيت بالقرية التي يقطن فيها، لكنهم فشلوا في اعتقاله، ليس لأنه بارع في التخفي والاختباء، بل لأن الفلاحين في قريته والقرى المجاورة كانوا يؤمِّنون هروبه وتنقّله، إذ صار بالنسبة لهم رمزًا للمقاومة والبطولة والشجاعة.
وصل تعاطف الفلاحين مع حامد إلى حد أنهم تركوا حقول الذرة دون حصاد حتى يتسنى لحامد الاختباء فيها، ليس ذلك فحسب، بل إن كثيرا منهم كانوا يدقون وشم العصفورين على وجناتهم، وقطعوا أصابعهم، حتى يذوب حامد بينهم فلا يهتدي الأعداء إليه سبيلا، وأصبح دق الوشم وبتر بنصر اليسرى محل تنافس بين الشباب، كلهم يتبارى بأن يكونوا على هيئة حامد.
للقصة تفاصيل غزيرة ونهاية مؤثرة يضيق المقام عن الاستفاضة في أحداثها، لكنها على كل حال إحدى البطولات المنسية التي سُطّرت في مصر إبان الاحتلال الفرنسي (1798-1801) وبعثها الكاتب يوسف إدريس في مجموعته «حادثة شرف» لتختصر لنا في النهاية حقيقة ما يحتاجه الناس عامة والشباب خاصة في مناخ الأزمات والشعور بالضياع، يحتاجون القدوة، المثل الحي، صاحب الخطوة الأولى الذي يدق صدره ويقول: أنا الفتى، حينئذ يتحركون برصيد الفطرة باتجاه التغيير والإصلاح، وتصبح البطولة ككرة الثلج، ولم يتجاوز الحقيقة من قال: فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل.
حاجة الناس إلى القدوة والمثال الحي ليست محصورة في الجانب الثوري، إنهم في حاجة إلى هذه القدوة والمثال في شتى مناحي حياتهم، يحتاجون إلى القدوة في العلم، والاختراع، والصناعة، والتجارة، والمبادرة، والإيجابية، وكل ما من شأنه تحريك عجلة التغيير والإصلاح.
الحديث عن قيمة وأهمية الشباب يأخذ حيزًا كبيرًا من الاهتمام النظري في إطار الدعاية والتلميع لصالح الأنظمة، فلا تنفك وسائل الإعلام عن بث خبر حول مؤتمر لتنمية الشباب برعاية الرئيس، أو خبر عن تصريح الملك بإيمانه بدور الشباب في صناعة النهضة، أو خبر عن وضع الحكومة الشباب على رأس أولوياتها.
أما على أرض الواقع، فالشباب في ضياع، في شتات، آفاق مسدودة، وواقع يسدل الحجاب على كل طموح، يتعرضون لمؤامرة كبيرة الغرض منها النيل من هويتهم وآمالهم وطموحاتهم، وتحويلهم إلى مسوخ وأنفس مهترئة.
عندما دخل الألمان فرنسا وجدوا شبابًا ضائعًا مائعًا نحتت في عزيمته آثار الانحلال والدعة وسفول الهمم، وإن الراصد لأحوال شبابنا ليغتم لما هم فيه ويتساءل في حسرة: هل هؤلاء من يدافع عن الوطن والأرض والدين والعرض؟ هل هؤلاء من يبنون البلاد ويصنعون النهضة؟ هل هؤلاء من يأخذون الأوطان باتجاه التغيير والإصلاح؟!
تحويل اهتمام الشباب عن معالي الأمور هو أبرز ملامح هذه المؤامرة، وهو ما تم باقتدار ونجاح على طريقة زحف الثعابين، وعن طريق تغييب القدوة وتجفيف منابع إنباتها وإماتة ذكرها، والأهم من ذلك إبراز قدوات زائفة تصبح محل اهتمام الشباب وسقف طموحاتهم وأحلامهم.
دعونا نتحدث بصراحة وبدون مواربة من واقع الحياة، سل أي شاب عن حلمه، عن أكثر الشخصيات التي تحوز اهتمامه ويتمنى لو كان على قدم المساواة معها، لن تخرج الإجابة في معظم الحالات عن شخصيات فنية أو رياضية، لأن هذين المجالين أكثر المجالات التي تجمع الشهرة والثراء معًا، فالشباب لديه هوس بأبطال صناعة الترفيه، ونعم هي مجالات أصبحت جزءًا من الاقتصاد، لكنها لا تقيم شعبا ولا تصنع نهضة، وأضرارها الاجتماعية والنفسية تغطي على كونها أدوات ترفيه وتسلية.
المناخ العام قد صدّر للشباب هذا النمط من الاهتمامات عن طريق التلميع الزائد لرموز صناعة الترفيه، حتى أصبح أهلها سفراء النوايا الحسنة، والفئة المقربة من القيادات، وصفوة الدول في تمثيلها خارجيًا، وأما وسائل الإعلام فإنها تتماهى مع هذه التوجهات وتساير ذائقة الشباب، وإنك لترى تدفق المواد التي تتعلق بأخبار هؤلاء النجوم هي شغلها الشاغل وبضاعتها الرائجة.
وحديثي هذا لا تشوبه نبرة تحقيرية لهذه الفئات، بل أوردتها كمثال على التوجه العام في الدول العربية التي تعبث في ترتيب الأولويات، وينصب اهتمامها على إبراز أهل المجالات التي هي في أصلها مجالات ترفيهية، على حساب إبراز العلماء والمخترعين والمفكرين وغيرهم من صناع النهضة، الذين هم عصب الدول وعمادها، هؤلاء هم الذين ينبغي إبرازهم كقدوات للشباب.
وحتما أنا لا أثير هذه القضية بغرض لفت الأنظمة والحكومات، ولا أطمع في أن تغير هذه السطور توجهات الساسة والقيادات، لكنني أتوجه بها للجماهير، لتضع في بؤرة اهتمامها القيام بوظيفة إبراز القدوات، وليس هذا الهدف الذي أسعى إليه مجرد تنظير أو إلقاء أمنية في الهواء الطلق، لأن الجماهير تستطيع القيام بهذه المهمة، ألم تقم بدور الإعلام البديل على السوشيال ميديا في الثورات؟ ألم تؤد أنشطتها على مواقع التواصل الاجتماعي في إثارة قضايا مختلفة إلى دفع الحكومات للتعاطي معها أو على الأقل الانشغال بها؟
عرفوا الشباب بأهل القدوة، اجمعوا أذهانهم المُشتتة على الاهتمام بالشخصيات الباذلة المعطاءة التي تفيد البلاد والعباد، التي لها بصمتها في الحياة وتعمل في صمت بعيدا عن الأضواء، لعل هذه الجهود تعيد الشباب إلى أنفسهم وتبعث فيهم الهمم المسلوبة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق