علامة استفهام | (33) ما رغبتك الأخيرة؟
أسعد طه
(1)
لا أعرف كم قضيتُ من الوقت وأنا أتأمَّل الصورة الشهيرة: كوب شاي ويدان مكبلتان، وذراعان تكسوهما بدلة السجن الحمراء. وفي التفسير أن الرجل سئل قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه: ما رغبتك الأخيرة؟ ماذا تريد وقد حان موعد رحيلك، فأجاب ببساطة: كوب شاي. ثم جلس هادئ النفس يرتشف رشفاته الأخيرة في الحياة.
عندما خضت العقد السادس، هالني الاسم، "السادس"! وكأنني بلغته فجأة، ثم سألت نفسي ما مشروع "العشر الأواخر"، وكأنني أُسأل عن رغبتي الأخيرة قبل تنفيذ حكم الإعدام.
(2)
عندما تكون في سن الشباب لا تعبأ بالوقت، فهذه الساعة التي تمر بك الآن سوف تتكرر مئات المرات، وعطلة نهاية الأسبوع إن لم ترُقك ستعوضها بعطلة مقبلة، وإذا لم تنجز ما خططت له في الشتاء، فهناك شتاء آخر، ودراستك التي بت تكرهها تستطيع تغييرها العام المقبل، ومشروعك التجاري إن نجح فهو خير، وإن فشل فيمكن البحث عن مشروع آخر؛ ذلك أنَّه ما زال أمامك متسع من الوقت، ولا سبب لتكون في عجلة من أمرك.
لكن عندما تكبر وتدخل في المرحلة الأخيرة، تختلف مشاعرك تماما؛ فهذه الجمعة قد تكون الأخيرة، وهذه المهمة قد تكون ختام مهامك، وهذا الصيف قد لا يتكرر، لذا يصبح عليك أن تفكر ألف مرة في كل خطوة، وفي كل ساعة تمر عليك، فما لديك من وقت إنما هو محدود.
إن ذلك يجعلك دقيقا جدا، حائرا جدا، مترددا جدا، فلا مجال هنا للخطأ، ولا متسع لتعويض خسائرك، عليك أن تكون بخيلا في إنفاق وقتك، وأن تصرف منه بحذر.
عندما خضت العقد السادس، هالني الاسم، "السادس"! وكأنني بلغته فجأة، ثم سألت نفسي ما مشروع "العشر الأواخر"، وكأنني أُسأل عن رغبتي الأخيرة قبل تنفيذ حكم الإعدام.
تُرى أي كوب شاي سأطلبه؟
تنتابك كل الأفكار، تريد أن تفعل كل شيء، وكأنك في عمر المراهقة!
(3)
ألتقي صدفة بصديق لي لم ألتقه منذ زمن، أندهش بما فعل الزمان به، ثم أتذكر أن صاحبي إنما هو من نفس عمري، أعود فأخوض حديثًا بيني وبين نفسي، أقر بالأمر، وأتساءل لماذا يواسينا الناس ويكررون على مسامعنا أن الشباب إنما هو شباب القلب، لماذا لا يريدون الاعتراف بالشيخوخة وكأنها عار أو جريمة؟!
لماذا لا يدركون في الوقت نفسه أن في الشيخوخة ما هو أسوأ من التجاعيد والشعر الأبيض، مثلًا: أن تشعر بأن وقت القتال قد انتهى، أن يتملكك الشعور بعدم المبالاة، أن تقضي وقتك في انتظار الموت.
عندما بلغت الستين عاما سألت نفسي: ماذا لو تورطت وعشت للثمانين مثلًا، هل أقضي 20 عاما من حياتي فقط في انتظار الموت؟! ألن يحاسب الشيوخ على أوقاتهم كما يحاسب الشباب؟!
(4)
لا يأتي السؤال وحيدًا..
يتدفق معه سيل من الأسئلة.
هل عشتُ الحياة فعلا؟ هل استمتعتُ بها؟ هل فعلتُ ما كان يجب أن أفعله؟ وهل امتنعتُ عما كان يجب أن أمتنع عنه؟
ثم ينطلق بركان الذكريات..
إنه الحنين بشدة إلى الماضي والحزن بعنف على المفقودات.
تجلب الذكريات الندم.
والندم أقصى مواجهات المرء إذا ما كبر..
يندم لأنه سيكتشف أنه كان أحيانًا يعيش السعادة من دون أن يعلم، بل لعله كان يشكو حينها من حاله.
يندم لأنه مرة أساء اختيار الطريق..
يندم لأنه عندما أحسن اختيار الطريق لم يعطه حقه، ولم يبذل من الجهد ما كان يجب أن يبذل..
وعندما يخرج المرء من هذه الدوامات -التي غالبا لا تختفي وإنما تغيب لتعود مرة أخرى- فإنه يصبح في مواجهة سيل جديد من الأسئلة:
نعيش التوتر في المراهقة، ونقضي شبابنا في المعارك، ونموت ونحن في سن الشيخوخة رغم أننا ما زلنا على قيد الحياة، فمتى نعيش؟
هل يتفرغ المرء للاستمتاع بما تبقى له من وقت فوق هذه الأرض، ويُعَوِّض ما فاته؟
أم يقضي وقته نادما على ما ارتكب طالبا من الرب الصفح والغفران؟
(5)
فكرت في أننا في نهاية حياتنا يزداد حرصنا على الجنة، نطمح أن نجد هناك ما فقدناه في الدنيا، ما لم نحصله، ما لم ننله، ما نعتقد أننا حرمنا منه، ولأن وقت الاختبار قد أوشك على النفاد، فإن علينا أن نعمل بجد، إنها الساعة الأخيرة من الامتحان، وليس من سبيل سوى التفرغ لأداء العبادات الدينية.
لكن ألم تكن هذه العبادات واجبة في شبابنا؟ عندما كنا بكامل صحتنا وطاقتنا، وهل ندرك في القليل المتبقي من عمرنا ما قصرنا فيه خلال سنوات شبابنا؟
ثم ماذا يقصد الناس بحسن الختام؟ هل يقصدون عملنا في أيامنا الأخيرة، أم يقصدون الحال التي تقبض فيها أنفاسنا ونموت عليها؟
ثم لماذا يجب أن نعتزل الحياة، ونمضي أيامنا الأخيرة هذه بين الحسرة على ما فات، وبين العبادات.
بل الأهم لماذا نقصر فهمنا لأمر العبادات على الصلاة وقراءة القرآن الكريم وحفظه؟!
ثم إني توصلت إلى الآتي:
عندما تشعر أنك في الرمق الأخير من عمرك، لا تعتزل الحياة، بل عشها بكل قوة.
عندما تشعر أنك في الرمق الأخير من الحياة لا تكتفي بتأدية شعائرك الدينية، بالمفهوم التقليدي الذي ورثناه، وإنما قم بجانب العبادات المفروضة بما ينفع الناس، وستجد في ذلك متعة ربما لم تجدها طوال حياتك، وثوابًا ربما لم تحصله من قبل.
"مت فارغا".. لقد وقع في قلبي هذا الشعار وقعا فريدا.
لا تحمل كل معارفك وخبراتك معك إلى القبر، تصدق بها يا أخي، وزعها على المحتاجين من الشباب، الذين لا تزال أمامهم الحياة طويلة، زكاة عن علمك وخبرتك، زكاة عما رزقك الله به من نجاح وتوفيق.
تخيل أنك ستظل تسهم بصورة أو بأخرى في نمو هذا المجتمع وتطوره حتى بعد رحيلك. إن الأمر أشبه بصدقة جارية.
عندما يفشل مسعاك في أن تجد داعمًا لمشاريعك في التدريب ونقل معارفك للآخرين، عندما يشترط الداعمون ربحًا، اتركهم وألجأ لما يسَّره العصر الحديث من منصَّات تواصل وغيرها، كما نجحتَ في شبابك في أن تجد دومًا حلولًا لأحلامك ومشاريعك، ستنجح أيضًا في كبرك.
عندما تكبر ستشعر أنك تنظر إلى العالم من فوق، من السماء، أنت لا تراه كجغرافيا فقط، ولكن كتاريخ أيضًا، أنت لا تنظر إلى الأرض فقط، ولكن إلى عمرك وفيما أفنيته.
(6)
ماذا تريد أن تقول للعالم قبل وداعه؟
يا له من سؤال صعب..
إجابته تستغرق حياة بأكملها..
عندما تكبر ستشعر أنك تنظر إلى العالم من فوق، من السماء، أنت لا تراه كجغرافيا فقط، ولكن كتاريخ أيضًا، أنت لا تنظر إلى الأرض فقط، ولكن إلى عمرك وفيما أفنيته.
هل تسمعني؟
كم من معركة جانبية خضتها استنفدت فيها جهدك وأبعدتك عن المعركة الرئيسية؟
كم مرة تملكك الخوف إلى حد الرعب، ثم اكتشفت أن لا أصل له، وأن مخاوفك من صنعك أنت، أنت من زرعها في نفسك زرعًا.
كم مرة تنازلت عن رغباتك إرضاء لمن حولك، فلا من حولك رضي ولا بقيت أنت أنت.
هل أكمل؟
هذا العالم بشع لا يستحق كل هذا الجهد، الفائز فيه هو المترفع عنه.
هذه الحياة دورات تدريبية، كل أزمة تمر بها هي دورة، يمكنك أن تصرخ وتولول وتشتكي، ويمكنك مواجهتها كرجل شجاع أو كامرأة شجاعة، فإذا نجحت مررت إلى دورة أخرى، وهكذا دواليك، حتى يصبح شعرك مثل شعري، وإن رسبت فإنك تظل تدور في الدائرة نفسها حتى تتمكن من اجتيازها.
(7)
لعلي بالغت في إسداء النصائح..
سامحوني، وعذري هو رغبتي في الموت فارغا.
وآخر ما يمكن أن أقوله هنا هو التالي:
أحلى شعور يمكن أن يتذوقه المرء هو أن يتوقع شيئا ما ويعد له عدته، ثم يقع بالفعل، فيفرح أنه كان مستعدا له، ولم يفاجئه الأمر.
وأنت كذلك.. تخيل أنك عندما تنتهي حياتك فلا شيء يفاجئك.
لقد أعددتَ حسابك لهذا اليوم، وإجاباتُك جاهزة، فقد كنت موقنا بأن الدنيا مرحلة إلى ما بعد ذلك، في حين أن آخرين بهتتهم المفاجأة، مثل تلميذ استيقظ صباحا فصعق أن لديه اختبارا اليوم، وأن هناك ألف سؤال وما من إجابة.
أما أنت فإن كل مخاوفك تنحصر في ما سيؤول إليه مصيرك، إنه أشبه بطالب متأكد من نجاحه، قلق من مستواه.
الذكي من يحدد رغبته الأولى وهو شابّ حتى يعرف رغبته الأخيرة وهو شيخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق