الرئيس الذي بلع الفيل
أحمد عمر
رسم الأمير الصغير "أنطوان دو سانت اكزوبري" رسما امتحن به الكبار، ثم سألهم إلا يخيفكم هذا الرسم؟ قالوا ما المخيف في قبعة؟ فأعلمهم بأن القبعة ثعبان بلع فيلا.
اعترف الرئيس التونسي السابق بأنه لم يكن يتخيل أن يصل الحال بقيس سعيد أن يبلع فيلا، وقد انتزع قيس سعيّد جواز سفره الدبلوماسي، وهو رئيس سابق، ولم يبلغ به الأمر حال مرسي من الاعتقال والحبس في حوض زجاجي بعد تبين أنه بطن ثعبان، وهو باحث قدير ومناضل وطبيب حائز على جوائز إنسانية. والحال أنه لم ينتفع كثيرا بفن التحليل السياسي، لكننا شغلنا به كثيراً، فهو أحد أسلحة السلطان المعاصر.
لعل المحلل السياسي يقوم مقام الكاهن القديم، لكنه صار إلى مهرجي عالم السيرك أقرب. كان الكاهن القديم يتصل بالجان لمعرفة الغيب، أما المحلل المعاصر فهو عالم بالعلوم السياسية، أو ملمّ ببعضها، يجمع الأخبار ويضرب بعضها ببعض علّها تنطق مثل بقرة بني إسرائيل، ويقرأ ما وراء السطور، فالخبر له ما وراءه، وله ظاهر عكس الباطن أحياناً. فالحرب خدعة، والسياسة خدع، ويفضل أن يكون للكاهن السياسي اتصال بالجان المعاصرين، وهم أنس البلاط، والصورة تساعد أحياناً على قراءة بعض تأويلات الأخبار، ومن مكمنه يؤتى الحذر.
اعترف الرئيس التونسي السابق بأنه لم يكن يتخيل أن يصل الحال بقيس سعيد أن يبلع فيلا، وقد انتزع قيس سعيّد جواز سفره الدبلوماسي، وهو رئيس سابق، ولم يبلغ به الأمر حال مرسي من الاعتقال والحبس في حوض زجاجي
السياسة حسب تعريف عالم السياسة الألماني فريدريش رايزل: هي فنُّ توقع المستقبل. العرب يسمونه الدهاء والكيد، والسياسي الماهر يتجاوز توقع المستقبل إلى صناعته. المحلل السياسي هو متنبئ سياسي يشبه المتنبئ بأحوال الطقس، لكن الجوَّ غير الإنسان فالجو له نواميس معروفة.
وقد صار التحليل السياسي والتنبؤ بالأحوال السياسية مهنة رائجة بظهور الفضائيات وتكاثرها، بل إنَّ المحللين في شؤون السياسة ازدادوا بظهور قنوات يوتيوب، فاستغنى المثقفون المطرودون من الفضائيات عنها، ووجدوا في قنوات يوتيوب فسحة. أما الفضائيات فقد تساهلت كثيراً، فهي تريد أي مشهور يحسن الكلام بالعربية، ويعرف بعض المصطلحات، ليظهر على الفضائية ويدعو للسلطان المعاصر.
ويفضّل للكاهن السياسي أن يبلغنا خبراً مثيراً، صادقاً أو كاذباً، تفسيراً أو تأويلاً يصبُّ في رسالة الفضائية وغاياتها، بل لا يطلب منه سوى إعلان ولائه للرئيس ونهجه. وهذا الشرط غير موجود في يوتيوب بحمد الله، وقد بات ينافس الفضائيات التي تخسر مجدها، فذلك حال الدنيا، "فقد كتب الله على نفسه أنه ما رفع شيئاً إلا وضعه".
صار التحليل السياسي والتنبؤ بالأحوال السياسية مهنة رائجة بظهور الفضائيات وتكاثرها، بل إنَّ المحللين في شؤون السياسة ازدادوا بظهور قنوات يوتيوب، فاستغنى المثقفون المطرودون من الفضائيات عنها، ووجدوا في قنوات يوتيوب فسحة
كانت الناس تتنظر رأي المحلل السياسي وما تزال، حتى تفهم الحاضر المعقّد لتحتاط للمستقبل، تتفاءل بقوله أو تتشاءم، تقيم أو تهاجر، تبيع أو تشتري. فالسياسة تقود عربة الاقتصاد غالباً، مع أنَّ ثمة من يزعم أنَّ الاقتصاد هو الذي يقود عربة السياسة، وقد يحدث ذلك أحياناً. وكان للتحليل فوائد غير علم الغيب مثل شدِّ العزائم وتخويف المعارضين، لأنَّ المهنة اختلطت بمهن أخرى في العالم العربي، فالكاهن السياسي المعاصر خطيب، وواعظ، ولاعب سيرك، وكوميديان، وصاحب نفير وألعاب النارية، وقد احترق كثيرون بكثرة الظهور، لأنهم أسرفوا في اللعب بالألعاب النارية.
وكان ظهور توفيق عكاشة المصري الذي كان يقدم وصلات من التحليل الكوميدي، يعني للمراقبين أنَّ النظام المصري في ضائقة سياسية. ومن طرائف التحليل السياسي أنه قيل مثلاً في عودة رفعت الأسد الكثير أنه هرب من عدالة أوروبا. وقد كشفت لوفيغارو أن رفعت قايض فرنسا بالمعلومات مقابل الأمان، ومن يعرف حقائق التاريخ يعرف أنَّ فرنسا هي راعية الأسرة الأسدية، وأنها مسرورة أشدَّ السرور بهذه الأسرة "الكريمة". وإن اضطرت إلى نزع وسام جوقة الشرف من رتبة الصليب الأكبر من صاحبها، فهي من مهّد للعائلة الحاكمة المهاد، ووطأت لها الأكناف. وهي راعية الأقليات، فالساسة الأوربيون يعلنون أنهم مع الأقليات الدينية والعرقية، وهي تورية لطيفة عن معاداة المسلمين.
وزعموا أنّ فرنسا هي بلد الأنوار بشعارتها البراقة وبرج إيفل ومصابيح البرج، مع أن ثورة فرنسا هي أشدّ الثورات دموية، وكانت الرؤوس تقطع كما تقطف الزهور. وهي التي قتلت من الجزائريين في وطنهم بضعة ملايين، ورمت المتظاهرين الجزائريين المستجلبين من مستعمرتها السابقة الذين دافعوا عن فرنسا ضد الاحتلال النازي في نهر السين.
الحق أن كثيراً من المحللين يشبهون عميان الفيل، وهي قصة مشهورة عن ثلاثة عميان أدخلوا على فيل، فلمس أولهم خرطومه، فقال: ثعبان، ولمس الثاني ذيله، فقال: مكنسة، ولمس الثالث رجله، فقال: ساق شجرة حور.
الواقع حافل بالأقدار التي لا تقع في بال، وقد عملت أمريكا كثيرا تمهيدا لخروج آمن فلم تفلح؛ لأن الله أتاهم من حيث لم يحتسبوا. فالساسة أنفسهم، وهم الذين يصنعون الخبر، باتوا يتخبطون، وقد رأينا الإمارات تسعى سعيا للمصالحة مع تركيا بعد سقوط ترامب، لأنها لم تحسن التوقع وقراءة فناجين السياسة.
لا تثريب على المنصف المرزوقي وقد انطلت عليه خدعة قيس سعيد وفصاحته، كما انطلت من قبل على مرسي تقوى السيسي، فرؤساؤنا يحبّون لحم الفيلة، ولا يعلمون أن بلع الفيلة بأنيابها قاتل
والمحللون المعارضون والموالون يقومون بدور تقديم المسكّنات لمواليهم، وقد سيقت تفاسير كثيرة في شأن الأسلحة التي خلفتها أمريكا وراءها في أفغانستان، وقيل إنها تُركت عمداً، بل إن ثمة من زعم أنها مؤامرة أمريكية طالبانية، والأمريكان وطالبان يقومون بتنفيذ بتمثيلية، والحق أنهم هربوا، وقد "أَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ"، متجنبين استخدام المتفجرات حتى لا يثيروا حفيظة الطالبان المحاصِرين. وإذا احتاجت أمريكا إلى طالبان لمقاومة الصين، فلن تخفي ذلك، وستزودهم بالأسلحة كما زودت الأفغان بالصواريخ في التسعينيات.
وقد استغرب كثيرون أن يحتفل السيسي هذه المرة بالعيد النبوي من غير عبوس أو اتهامات للشعب المصري المسلم بالإرهاب والشدّة، فالمولد مناسبة وتمر مرور الكرام، وهي رشوة إعلامية للمسلمين، فهم يحتفلون بتكريم حامل الرسالة بمحاولة وأد الرسالة.
لا تثريب على المنصف المرزوقي وقد انطلت عليه خدعة قيس سعيد وفصاحته، كما انطلت من قبل على مرسي تقوى السيسي، فرؤساؤنا يحبّون لحم الفيلة، ولا يعلمون أن بلع الفيلة بأنيابها قاتل.
twitter.com/selimazouz1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق