يعقوب، شقيق الرب
أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
دأبت الأيادي العابثة بالتاريخ الكنسي على التعتيم على وجود أشقاء للمسيح، من ضمن ما تعتّم عليه منذ بداية مشوارها، وخاصة التعتيم على اسم يعقوب (Jacques)، من بين هذه الإخوة والأخوات.
ولا ترجع أهميته إلى أنه مجرد أخ شقيق ليسوع، ولكن للدور الذي لعبه في الكنيسة الأولي أو في العقود الأولي.. ففي ذلك الوقت لم تكن حتى كلمة "كنيسة" قد تم اشتقاقها بعد، وإنما كانوا يطلقون على ذلك الاجتماع الأول بعد رحيل يسوع، "الجمعية"، بمعني الاجتماع. ووجود كلمة كنيسة في نص الأناجيل أو على لسان يسوع دليل صارخ على التغيير والتلاعب في النصوص. لذلك يتواصل صدور الكتب والأبحاث حتى يومنا هذا في محاولة لتأكيد حقيقة وجود يعقوب، استنادا إلى الأناجيل وأعمال الرسل.
والتعتيم على اخوة وأخوات يسوع تم بعد تأليهه لكيلا تتورط الكنيسة في إشكالية اجتماعية ـ إلهية ـ هزلية، بأن يصبح للرب إخوة وأخوات ويتزوجون وينجبون للرب عائلة من أبناء وأحفاد، ينادونه الأطفال فيها بعبارات من قبيل "عمو ربنا" و"خالو ربنا"، فتتسع العائلة البشرية للرب لتظهر إشكالية جديدة، فهل ستكون عائلة من الأرباب والربابنة؟ أم ربّ في السماء وله سلالة بشرية على سطح الأرض؟ الخ..
وإذا رجعنا للأناجيل الأولي فإن المعطيات الواردة شديدة الوضوح. فسواء أكان إنجيل متّي، أو لوقا أو يوحنا فثلاثتهم يتحدثون بوضوح عن إخوة وأخوات يسوع. بل إن إنجيل توما، الذي كانت الكنيسة قد استبعدته وتم نشره سنة 1986، يورد أسم يعقوب ومكانته عند يسوع.
لذلك يقول العالم الفرنسي دانيال مرجورا في هذه النقطة تحديدا: "إن النصوص الرسمية قاطعة: يسوع كان لديه إخوة وأخوات أشقاء فعلا. وقد حاربت الكنيسة ذلك بزعم العذرية الدائمة لمريم". والمقصود بها وفقا لقرارات الفاتيكان: عذرية أزلية قبل وأثناء وبعد الولادة..
وقد أورد أوريجين في كتابه "ضد سلسيوس"، نقلا عن فلافيوس جوزيف، أن العقاب الذي وقع على اليهود لقتلهم يعقوب، شقيق المسيح، كان هدم مدينة القدس سنة 70. تلك الحادثة التي هُدم أثناءها المعبد وتم طرد اليهود. وقد أشار كلا من يوسبيوس (المتوفي سنة 340)، والقديس جيروم (347 سنة) إلى نفس المقولة.
كما أن العديد من نصوص الأناجيل تشير بوضوح لا لبس فيه إلي يعقوب شقيق المسيح.
فنطالع في إنجيل متي:
* "أليس هذا ابن النجار. أليست أمه تدعي مريم وإخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا" (13: 55). كما نطالع في إنجيل مرقس (6: 3):
* "أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخو بعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان. أوليست إخوته ههنا عندنا. فكانوا يعثرون به". وفي أعمال الرسل (1:14):
* "هؤلاء كلهم كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلّبَة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته". وفي إنجيل يوحنا (2: 12):
* "وبعد هذا انحدر إلى كفر ناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه واقاموا هناك أياما".
وتعتبر رسائل بولس من أقدم الوثاق الإنجيلية، ومن المفترض أنها كُتبت في الخمسينيات من القرن الأول ـ أو هكذا يؤكدون. وهي رسائل تتحدث عن يعقوب، شقيق يسوع، على أنه واحدا من أهم قادة الكنيسة الأولي. ففي رسالته إلى أهل غلاطية يقول إنه بعد اعتناقه المسيحية بثلاث سنوات وذهابه إلى مدينة القدس، لم ير سوي بطرس و"يعقوب شقيق الرب". وأشار إليه مرتين في الإصحاح الثاني في الجملة رقم 9 والجملة رقم 12.
وعند زيارته الثالثة، بعد ذلك بأربعة عشر عاما، تحدث عن يعقوب وبطرس ويوحنا على أنهم "أعمدة الكنسية"، بادئا بذكر يعقوب. وقد ترأس هذا الاجتماع، الذي يوصف بأنه أول اجتماع في التاريخ، لبحث قضية إمكان الوثنيين أن يصبحوا مسيحيين دون ضرورة اعتناق اليهودية أولا، كما قرروا إلغاء الختان، الذي أراده الرب أبديا، لتسهيل جذب الوثنيين الذين كانوا يهابونه. أي إن يعقوب كان له دورا قياديا في الاجتماعات الأولي، ورغمها قام الفاتيكان بالتعتيم عليه.
وفي رسالة بولس الأولي إلى أهل كورنثيوس (1:15 ـ 7) يقول:
"وأعرفكم أيها الإخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به (...) إن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. وأنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب. وأنه ظهر لصفا ثم للإثني عشر. وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ أكثرهم باق إلي الآن ولكن بعضهم قد رقدوا. وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجمعين".
واللهم لا تعليق على ان إنسان ما، أي إنسان، يموت ويُدفن ثلاثة أيام ثم يصحو ليواصل حياته.. فأي طبيب يعلم يقينا أنه من المحال، أو من المستحيلات ان يموت الإنسان ويُدفن ثلاثة أيام ثم يصحو ليقوم "مخه" بوظائفه كالمعتاد، وهو الجهاز الذي يتوقف تماما بعد الموت بعشر دقائق أو ربع ساعة!
وفي الجزء الذي يتناول أحداث اجتماع أول مجمع في القدس سنة 50، الوارد في أعمال الرسل، نري يعقوب هو الذي يترأسه ويتخذ القرارات الفاصلة، ويَعد "بإعادة بناء خيمة داود الساقطة".. ومن الغريب ألا يرد ذكر قتل يعقوب في الأناجيل الحالية، رغم مكانة الصدارة التي يحتلها. وقد ظلت ذكراه وسمعته وأفعاله الحيوية تتردد اثناء القرون الثلاثة الأولي في كتابات الآخرين. فعلي سبيل المثال، قد كتب عنه هيجيبيوس في النصف الثاني من القرن الثاني، وارد في أعمال يوسبيوس في كتابه المعنون "التاريخ الكنسي" قائلا: "لقد تولي يعقوب، شقيق الرب، قيادة الكنيسة مع الحواريين. ومنذ أيام ربنا يسوع حتى يومنا هذا يُطلق عليه الجميع اسم "العادل" تمييزا له".
كما كان كليمون السكندري (حوالي سنة 200)، يعتبر يعقوب السلطة العليا للكنيسة الأولي بعد المسيح. ثم بدأ التلاعب باسمه وبذكراه بعد تأليه المسيح، على الرغم من ان إنجيل توما يتضمن إشارة واضحة إلى ان يسوع قد اختار يعقوب العادل ليكون القدوة التي يتعيّن على الحواريين أن يتبعوه بعد رحيل المسيح.
ونطالع في إنجيل توما، الذي كان من الأناجيل المستبعدة وتم نشره سنة 1986، في صفحة 18، الفقرة رقم 12 تنص علي:
" الحواريون قالوا ليسوع:
نعلم إنك ستغادرنا؛
من سيكون كبيرنا؟
فقال يسوع:
"في المرحلة التي ستكونون عليها، اذهبوا الي يعقوب العادل:
فما يتعلق بالسماء والأرض يعود إليه".
بمعني ان تكوين جمعية منظمة أو كنيسة من اختصاص يعقوب، وذلك هو ما يشرحه جان إيف للو، ناشر ومفسر إنجيل توما.
وإن دل استمرار ظهور بعض الكتب أو الدراسات، التي لم تتوقف عبر الزمن، لكنها تزايدت خاصة منذ القرن الماضي بصورة لافتة، فذلك يرجع الي ان الحقائق يصعب دفنها طويلا، مهما امتد زمن التعتيم. فالمعروف تاريخيا ووثائقيا أن كل أصول المسيحية باللغة اليونانية، وليندهش من يشاء، فهذه الحقيقة تمثّل إحدى آفاتها التي لا حل لها مهما جاهدوا..
ويكفي أن نطالع أنه في إحصاء رسمي تم نشره الشهر الماضي في باريس، يؤكد ان 51 % من الفرنسيين لا يؤمنون بالرب يسوع ولا بالأناجيل، وذلك رغم كل المحاولات التي قام بها الفاتيكان. لذلك قرر البابا فرانسيس تخصيص أول ثلاثة أيام من هذا الشهر، أكتوبر 2021، لعمليات تبشير مكثفة متواصلة في مختلف أهم العواصم الفرنسية، للفرنسيين، نعم: للفرنسيين وليس للمسلمين الذين يحاربهم ماكرون أو حتى من سيأتي بعده. فبعض الذين ينوون ترشيح أنفسهم لانتخابات الرئاسة الفرنسية في بداية العام القادم يعلنون، منذ الآن، عن مدي كراهيتهم للمسلمين وعما سوف يقومون به إن تم انتخابهم..
زينب عبد العزيز
7 أكتوبر 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق