الأربعاء، 16 أغسطس 2023

إنها حقّا أنظمة هَشّة

إنها حقّا أنظمة هَشّة
احسان الفقيه *

 لا يزال كل نمرود يخشى من بعوضة تدخل في أنفه وتقضي عليه..

ولا يزال كل أبرهة يرتقب الطير الأبابيل ترميه بحجارة من سجيل..
إنهم خائفون، لا ينعمون بنوم، يحسبون كل صيحة عليهم، يعلمون رغم إظهارهم القوة والسطوة والبطش أنهم ضعفاء، عروشهم مهددة من القريب والبعيد.. وعن المستبدين الذين يحكمون بلادنا أتحدث.
أنظمة بوليسية وعسكرية فاشية، تحكم بالحديد والنار، وتبني قواعد ملكها على إهانة الشعوب وإهدار كرامتها، لكنها مع ذلك هشّة، ولا أدل على هشاشتها من أنهم يقيمون الدنيا ويقعدونها من أجل صوت فرد يُسمع الجماهير، أو فكرة مناضل تبلغ الآفاق فتصل إلى النيام.
فنظامٌ من تلك الأنظمة الهشة لم يتحمل أن يسمع صوت صحافي حر، فتورط في فضيحة عظمى، بإرسال كتيبة من القتلة إلى ذلك الرجل الشريف في بلد الغربة وتقطيع أوصاله. ونظام آخر من تلك الأنظمة الهشّة يُجيش أبواقه الإعلامية ضد رجل أعمال يفضح مؤسسة الرئاسة وتورطها في الفساد المالي، ويظهر إعلاميوه وهم يتلجلجون ويرتبكون ويفبركون لدفع الشبهة، والنظام نفسه يطالب السفير البريطاني لتسليم فنان ساخر خارج الدولة ينال من الحكم الجائر.

هناك غليان في الشارع العربي بنسبة أو بأخرى، ومعارضة في الداخل والخارج تتحين الفرصة للإطاحة بالأنظمة الفاشية

وإنك لا ترى في الدول القوية المتماسكة ذلك الارتجاف والسعار في التعامل مع الأفراد المعارضين، وذلك بسبب قوة تكوين الدولة وحفاظها على النسيج الاجتماعي باحترام المواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولذلك لا نشهد ثورات في دول قوية كأمريكا واليابان وألمانيا.
مردّ هذه الهشاشة وهذا الضعف لدى الحكام يعود إلى عدة أسباب، أبرزها أنها أنظمة لم تنفصل عن الاستعمار الذي خلّفها على ذلك الإرث، وأبقاها للحفاظ على مصالحه والعمل على النحو الذي يضمن ذلك، ومن ذلك أنها تفتقد إلى السيادة بسبب هذ التبعية، ومن ثم لا تنسجم قراراتها السياسية مع تطلعات الشعوب وطموحاتها، وصارت تمثل بعض الشرائح دون بعض داخل الدولة الواحدة، تستمد منها شرعيتها كظهير شعبي متنفّع، يعادي الشرائح الأخرى المعارضة للنظام، وهذا كله خلق فجوة كبيرة بين الشعوب والأنظمة فجّر الصراعات متعددة الأشكال والصيغ. مثل هذا الكيانات الحاكمة لم تستطع أو لم ترغب في إيجاد دولة جامعة لكل المواطنين، ولما كانت سلطة فاقدة للشرعية السياسية والديمقراطية، التي تثبت أركان النظام، لجأت إلى العسف والبطش مع كل الأطياف المعارضة، لتثبيت نظامها، لذلك لا يقتصر عداؤها على الإسلاميين وحدهم، بل تنكل بكل معارض يكشف عوارها ولو كان يساريا أو قوميًا أو ليبراليا. السياسات القمعية لتلك الأنظمة هي المسؤول الأول عن إنتاج الإرهاب، إذ أنها مع فقدان شرعيتها، وقناعتها الراسخة، بأن الحفاظ على هيبة الدولة لا يكون إلا بالقمع، حيّدت لغة الحوار ومواجهة الفكر بالفكر، ومن ثم ظهرت تيارات العنف المسلح، ولا أدل على ذلك من أن جماعة التكفير والهجرة، التي كانت أفكارها امتدادا لفكر الخوارج، نشأت في سجون عبد الناصر، عندما كان الإسلاميون المعتقلون يتلقون أبشع أنواع التعذيب، وتحت وطأة التنكيل والتطاول على ثوابت الدين، رأى بعض المعتقلين أن مثل هذه الإجراءات لا تصدر عن مسلم، فقاموا بتكفير الحاكم ونظامه وشرطته، وكل من رضي بحكمه، وصاغوا أفكارهم على نحو قريب من أفكار الخوارج، فقاموا بتكفير مرتكب الكبيرة، وتبنوا العنف المسلح.
نعم الشعوب العربية تخاف من حكامها، لكن ينبغي للشعوب إدراك أن هؤلاء الحكام يألمون كما يألمون، ويخافون من شعوبهم كما تخاف منهم شعوبهم بل أشد، ويعقد عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» مقارنة بين خوف المستبدين من الرعية، وخوف الرعية من المستبدين، فيقول: «إنَّ خوف المستبدّ من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه؛ لأنَّ خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقُّه منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجزٍ حقيقي فيه، وخوفهم عن توهّم التخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لقيمات من النّبات، وعلى وطنٍ يألفون غيره في أيام؛ وخوفه على كلِّ شيء تحت سماء ملكه، وخوفهم على حياةٍ تعيسة فقط».
هم يخافون كلما ازداد ظلمهم وبطشهم، ويعلمون أنه مهما بلغت سطوتهم فإنهم ليسوا بمأمن على عروشهم من الضعفاء، كما قال أحد البلغاء: «لا يفرحنَّ المستبدُّ بعظيم قوَّته ومزيد احتياطه، فكم جبّارٍ عنيدٍ جُنِّد له مظلومٌ صغير». وأكثر ما يخشون منه أن يتسلح الشعب بسلاح العلم، لأنهم يبنون ملكهم على جهل الناس، فإن الرعية إن ارتفع عنها الجهل علمت حقوقها وطالبت بها وسعت إليها، كما أن للعلم سلطانا وحجة وقوة، فلا يمكن أن يُساس شعب واعٍ كما يساق القطيع. ويبلغ خوف الحكام المستبدين إلى حيث شراك نعلهم، فهم يخافون من حاشيتهم وأعوانهم والمقربين إليهم، ولا يفارقهم الفزع على زوال عروشهم على يد المحيطين بهم.
ورغم أن ثورات الربيع العربي – التي قامت في وقت تيقظت فيه تلك الشعوب – قد كشفت هشاشة الأنظمة في تلك البلاد، إلا أن البلدان الأخرى التي لم تشهد ثورات ليس حكامها بعيدين عن هذا الضعف، مهما بلغت هذه الدول من الثراء، وخلوها من المشاهد الثورية لا يعبر عن تماسكها، فهناك غليان في الشارع العربي بنسبة أو بأخرى، وهناك معارضة في الداخل والخارج تتحين الفرصة للإطاحة بالأنظمة الفاشية، خاصة بعد يأس الناس من الإصلاحات الداخلية، ومشاهد الاعتقالات المستمرة للنخب الثقافية والدينية والسياسية برهان على خوف تلك الأنظمة، التي كان بوسعها أن تستقوي بشعوبها لا عليها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

======== * احسان الفقيه * إنها حقّا أنظمة هَشّة 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق