سلطنة العلماء.. فوق سلطنة الأمراء
أ.د. محمد عمارة
الأربعاء, 26/09/2012
لا أظن أن أمة من الأمم أو حضارة من الحضارات غير الأمة والحضارة الإسلامية قد رفعت سلطان العلماء فوق سلطان الأمراء، والسر في هذا الأمر الذي يبدو فريداً وغريباً كامن في طبيعة النظام الإسلامي للدولة، وللسلطات التي تتكون منها الدولة، فالدولة الإسلامية هي دولة القانون.
كما أن الدولة في الديمقراطيات الغربية هي دولة القانون، لكن القانون في الديمقراطيات الغربية تضعه الدولة، ومن ثم فإن سلطانها عمليا هو فوق القانون، وهي تستطيع بواسطة السلطة التشريعية، التي هي جزء من الحزب الحاكم حزب السلطة التنفيذية أن تعدل هذا القانون، بل وأن تعبث به عندما تشاء،
فالبرلمان الفرنسي سنة 2005 قرر أن صنيع الاستعمار الفرنسي والجيش الفرنسي في الجزائر هو أمر يبعث على الفخار! والكونجرس الأمريكي جعل غزو أفغانستان والعراق، وتدميرهما قانوناً واجب الاحترام والتنفيذ، ومن ثم جعل القتل والتعذيب قانونا محصنا!
لكن الأمر ليس كذلك في النظام الإسلامي الذي يجعل مبادئ الشريعة الإلهية فوق السلطة التنفيذية وإطاراً حاكماً للسلطة التشريعية، يمارس العلماء المجتهدون الذين اعترفت الأمة بسلطتهم الاجتهادية دور الخبراء في التشريع والتقنين، ومن ثم السلطة الهادية والمرشدة لبقية السلطات، لهذا السبب، ولهذه الحقيقة عرفت أمتنا وحضارتنا لهؤلاء العلماء سلطاناً أدبياً وليس كهنوتياً تفوق على سلطان الأمراء.
اقرأ أيضاً: العز بن عبدالسلام.. ومواقف العز
وفي تاريخنا الإسلامي الذي يجب أن نعيه لنقتدي به نماذج مضيئة من هؤلاء العلماء الذين أجلستهم الأمة على عرش السلطنة العلمية، ومن هذه النماذج العز بن عبد السلام، الذي اشتهر في التاريخ الإسلامي بـ سلطان العلماء، كيف كانت سلطنة سلطان العلماء فوق سلطنة سلطان الأمراء؟
لقد اشتغل العز بن عبدالسلام بالتدريس والخطابة والقضاء والإفتاء، مارس ذلك بالشام، وعندما اصطدم بأمير دمشق الذي كان مواليا للصليبيين ومعادياً لسلطان مصر، والذي استقوى بالصليبيين على سلطان مصر، وسمح لهم بشراء السلاح من أسواق دمشق صعد العز بن عبدالسلام منبر الجامع الأموي، وهاجم أمير دمشق، ودعا عليه بدلاً من أن يدعو له وجماهير المصلين بالمسجد الجامع يهدرون من خلفه: آمين.. أمين! وبعد هذا هاجر المعز إلى مصر.
في القاهرة، كان العز بن عبدالسلام لا يخشى في الحق لومة لائم، فلقد أنكر علي السلطان الصالح نجم الدين أيوب، أساليب الجور في الحكم، وفرض الضرائب الباهظة علي الرعية، وإباحة الخمور والمسكرات، ولقد واجه السلطان بالنقد في يوم العيد، وفي حضرة الأمراء الذين كانوا يقبلون الأرض بين يدي السلطان فأراد العز كسر شوكة هذا التكبر والتجبر، فنادى السلطان باسمه المجرد،
وقال له: يا أيوب ما حجتك عند الله إذا قال الله: أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيع الخمور؟!، فقال السلطان: وهل حدث ذلك؟،
فقال له العز: نعم، في الحانة الفلانية تباع الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة!، فلما احتج السلطان بأن ذلك إنما هو حادث من أيام أبيه، ولم يحدث في عهده هو،
قال له العز: وهل أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة؟!
وعندما تولى المماليك حكم البلاد بعد الأيوبيين، ورأي العز بن عبد السلام استعلاءهم وتجبرهم وظلمهم، عزم على كسر شوكتهم بفتوى لم يسبق لها مثيل في تاريخ الفقه والفقهاء، فهؤلاء المماليك قد سبق واشترتهم الدولة وهم صغار كعبيد، ثم علمتهم ودربتهم على السلاح، إذن فهم لا يزالون شرعا وقانونا أرقاء، رغم المناصب العليا التي يتولونها، فأفتى العز ببيع هؤلاء الحكام والأمراء المتجبرين في سوق الرقيق، وبأن توضع أثمانهم في بيت مال المسلمين!
وهنا كانت الطامة الكبرى التي نزلت بهؤلاء المماليك، الذين بيدهم الجيش والسلاح والأموال والمناصب الرفيعة،
وقال نائب السلطان: كيف ينادي علينا هذا الشيخ، ويبيعنا، ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي هذا، وزحف المماليك، مدججين بالسلاح، يقودهم نائب السلطان، وحاصروا بيت هذا الشيخ الأعزل إلا من سلطان الحق فخرج إليهم في جلال الحق وقوته وجبروته، وحين وقع بصره على نائب السلطان، يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وارتعدت مفاصله، فبكى، وسأل الشيخ أن يعفو عنه وأن يدعو له!، لكن الشيخ أصر على تنفيذ فتواه فنادي في السوق على هؤلاء الأمراء واحداً واحداً، وغالى في ثمنهم، وقبض هذا الثمن، وصرفه في وجوه الخير ومصالح المسلمين،
ولقد تعجب الناس من هذه الشجاعة النادرة شجاعة الحق الأعزل من السلاح حتى لقد سأل ابن الشيخ أباه: يا أبت، كيف واجهت هذا الموقف العصيب، وأنت أعزل أمام جيش مدجج بالسلاح؟!، فقال له: والله يا بني لقد استحضرت عظمة الله فرأيت الأمير مثل الفأر!
وعندما زحف التتار المتحالفون مع الصليبيين فدمروا بغداد وبلاد المشرق الإسلامي, وهددوا الوجود الحضاري لأمة الإسلام، وبعث هولاكو بإنذاره الفظ إلى سلطان مصر قطز، جمع السلطان العلماء والأمراء والأعيان، وطلب فتوى العلماء بفرض الأعباء المالية للحرب علي الرعية، فكان انحياز العز بن عبدالسلام إلى تطبيق العدل في اقتسام أعباء القتال، وتحدث باسم العلماء فقال: إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الجميع قتالهم، وجاز للحكام أن يأخذوا من الرعية ما يستعينون به علي الجهاد، لكن بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وبشرط أن يبيع الأمراء ما لديهم من الذهب والآلات والتحف النفيسة، وألا يبقى مع الجنود سوى خيول الحرب وأسلحتها، وعندما يتساوى الأمراء والعامة يجوز جمع ما تحتاج إليه المعركة من النفقات من عامة الناس، ووجه العز بن عبد السلام كلامه إلى السلطان قطز، وقال له: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام، وضربته نقدا، وفرقته علي الجيش، ولم يقم بكفايتهم، في ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا، إن كل جندي لا يخاطر بنفسه فضلا عن ماله فليس بجندي!
وبالفعل تم توزيع ميزانية القتال بالعدل على الرعية، وذلك بعد مصادرة ما لدى الأمراء من أموال وتحف ونفائس، وكما يقول المؤرخ ابن إياس: فدفع المواطن العادي دينارا، ومالك العقار والحقل والساقية أجرة شهر، ودفع الأغنياء زكاة أموالهم وممتلكاتهم مقدما، أما كبار الأثرياء، فقد اقتطعت الدولة منهم ثلث ما لديهم من أموال.
هكذا كان سلطان العلماء العز بن عبد السلام، سلطانا في الحق والعدل، مع فقه الورع والإياب إلى الحق في هذا النموذج الأسوة والقدوة، نموذج سلطان العلماء الذي تفوقت سلطنته علي سلطان الأمراء!
المصدر: المنتدى العالمي للوسطية.
ولقد تعجب الناس من هذه الشجاعة النادرة شجاعة الحق الأعزل من السلاح حتى لقد سأل ابن الشيخ أباه: يا أبت، كيف واجهت هذا الموقف العصيب، وأنت أعزل أمام جيش مدجج بالسلاح؟!، فقال له: والله يا بني لقد استحضرت عظمة الله فرأيت الأمير مثل الفأر!
وعندما زحف التتار المتحالفون مع الصليبيين فدمروا بغداد وبلاد المشرق الإسلامي, وهددوا الوجود الحضاري لأمة الإسلام، وبعث هولاكو بإنذاره الفظ إلى سلطان مصر قطز، جمع السلطان العلماء والأمراء والأعيان، وطلب فتوى العلماء بفرض الأعباء المالية للحرب علي الرعية، فكان انحياز العز بن عبدالسلام إلى تطبيق العدل في اقتسام أعباء القتال، وتحدث باسم العلماء فقال: إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الجميع قتالهم، وجاز للحكام أن يأخذوا من الرعية ما يستعينون به علي الجهاد، لكن بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وبشرط أن يبيع الأمراء ما لديهم من الذهب والآلات والتحف النفيسة، وألا يبقى مع الجنود سوى خيول الحرب وأسلحتها، وعندما يتساوى الأمراء والعامة يجوز جمع ما تحتاج إليه المعركة من النفقات من عامة الناس، ووجه العز بن عبد السلام كلامه إلى السلطان قطز، وقال له: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام، وضربته نقدا، وفرقته علي الجيش، ولم يقم بكفايتهم، في ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا، إن كل جندي لا يخاطر بنفسه فضلا عن ماله فليس بجندي!
وبالفعل تم توزيع ميزانية القتال بالعدل على الرعية، وذلك بعد مصادرة ما لدى الأمراء من أموال وتحف ونفائس، وكما يقول المؤرخ ابن إياس: فدفع المواطن العادي دينارا، ومالك العقار والحقل والساقية أجرة شهر، ودفع الأغنياء زكاة أموالهم وممتلكاتهم مقدما، أما كبار الأثرياء، فقد اقتطعت الدولة منهم ثلث ما لديهم من أموال.
هكذا كان سلطان العلماء العز بن عبد السلام، سلطانا في الحق والعدل، مع فقه الورع والإياب إلى الحق في هذا النموذج الأسوة والقدوة، نموذج سلطان العلماء الذي تفوقت سلطنته علي سلطان الأمراء!
المصدر: المنتدى العالمي للوسطية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق