أخطر غزوة تعرضت لها الدولة الإسلامية بالمدينة
اترك ما في يدك إن كنت منشغلا.. وتعالَ أحكِ لك أمرًا وجدتُه في سورة الأحزاب..
لقد تناولت سورة الأحزاب أخطر غزوة تعرضت لها الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة، لقد كانت لحظة تهدد فيها الوجود الإسلامي كله، عاصمة الدولة الإسلامية على وشك الاجتياح والتدمير والانتهاء..
كل ما بُنِي طوال خمس سنوات من عمر الدولة الإسلامية يبدو وكأنه الآن معرض للانهيار.. وخلفه ثلاثة عشر عاما من العذاب والكفاح في مكة..
عشرة آلاف من تحالف الكفار يوشك أن يجتاح المدينة!!.. لحظة زلزال شديد..
لم يكن المسلمون قادرون، حتى على المدافعة، لفارق العدد الكبير.. لولا أن جاء سلمان الفارسي بخطة لم تعرفها العرب.. وهي بناء الخندق..
كانت خطة ممتازة تلائم جغرافية المدينة، المدينة بمثابة الوادي بين جبلين، ومن الجنوب آطام عالية لبني قريظة، فلا مدخل لها إلا من الشمال.. وعلى الفور بدأت حملة محمومة استنفدت كل الجهد والطاقة لصناعة خندق يستكمل إغلاق المدينة من جهتها الشمالية، حتى تعجز خيول المشركين وجحافلهم على اجتياح المدينة..
وبهذا صارت مهمة المسلمين هي حراسة هذا الخندق، لئلا يدبر المشركون لردمه أو نصب جسر يعبرون عليه..
وبهذا استهلكوا جهدهم في حفره.. ثم استهلكوا بقية طاقتهم في حراسته.. وما بقي من الطاقة استهلكوه في الصبر على الجوع والعطش ومقاومة الخوف.. لأن المشركين بعد أن فوجئوا بالخندق، قرروا أن يستعملوا هذا الخندق ضد المسلمين.. فمكثوا بجيشهم يحاصرون المدينة، التي نفدت منها الأقوات، وتعرضت للمجاعة!!
هذه اللحظة سماها القرآن “الزلزال الشديد”..
وفي التاريخ السياسي والعسكري تعد هذه اللحظة لحظة تحول حاسمة.. إذ فشل هذا الحلف في القضاء على الدولة الإسلامية كان يعني أنها قد صارت واقعا غير قابل للزوال، وهو ما يعني نهاية عصر انكماشها وبداية عصر توسعها، وذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “الآن نغزوهم ولا يغزونا”.
الغريب الذي يلفت النظر أن هذه اللحظة العظيمة الحاسمة لم تأخذ من سورة الأحزاب إلا آيات قليلة.. ست عشرة آية من بين ثلاث وسبعين آية!!
حتى غزوة بني قريظة التي كانت أيضا لحظة حاسمة في القضاء على التهديد الداخلي في المدينة، بعد الخيانة العظمى التى ارتكبها بنو قريظة في لحظة الأحزاب، لم تأخذ من السورة أيضا إلا آيتين!!
وإذن، فما الموضوع الذي هيمن على السورة وشغل أكثرها؟!!
ربما لن تصدق.. إنه شأن العادات الاجتماعية السائدة في المجتمع المسلم، لا سيما:
الحجاب، والتعامل بين الرجال والنساء، وإبطال التبني وإباحة الزواج من مطلقة الولد بالتبني..
ويلحق بذلك: التشنيع على المنافقين الذين يتخذون هذه الأمور مدخلا للطعن بالشريعة وصاحبها، فيؤذون النبي ويؤذون المؤمنين، ويشيعون مقالة السوء.
لك أن تتصور أن إبطال العادات الاجتماعية السائدة هو الأمر الذي أطالت السورة في بيانه، وفي التنبيه عليه، وفي التشديد على مخالفته، أكثر من عنايتها بجيش الأحزاب الذي كاد يفني دولة الإسلام بالمدينة!!
ولذلك كثرت في هذه السورة الآيات الشديدة، بل الشديدة جدا، في حق النبي وفي حق زوجاته أمهات المؤمنين، وفي حق المؤمنين أنفسهم.. وكذلك في المنافقين!
إن مواجهة الأمور الباطلة والعادات السائدة، والتقاليد التي ترسخت في مجتمع المؤمنين تبدو أشد وأصعب، على نفوس المؤمنين، وعلى نفس النبي نفسه، من مواجهة الكافرين وقتالهم!!.. وتحتاج لكل هذا التنبيه والتشديد..
وتأمل معي..
ففي التنبيه على خطورة هواجس النفس وضرورة مكافحتها وأن الله مطلع عليها، يقول تعالى:
{إن الله كان بما تعملون خبيرا}، {وكفى بالله حسيبا}، {والله يعلم ما في قلوبكم}، {وكان الله على كل شيء رقيبا}، {إن الله كان على كل شيء شهيدا}
وفي هذه السورة نرى أشد الآيات في ضرورة الطاعة والتسليم لأمر الله:
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة، إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}
{وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله}
{إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذابا مهينا}
{يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى}
{إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان}
وفي هذه السورة، وفي هذا الموطن، ترى أشد التنبيه على أن الصدق نفسه سيُحاسب الله عليه، فقد يكون الغرض من قول الصدق باطلا، وطعنا، وإلقاء شبهة، كما في قوله تعالى {ليسأل الصادقين عن صدقهم}
وفي هذه السورة، وفي مواطن إبطال هذه العادات الاجتماعية، ترى أشد الآيات التي نزلت في تنبيه النبي على ضرورة قيامه بالرسالة، وأن لا يخشى فيها أحدا إلا الله، وأنه قد أُخِذ منه ميثاق غليظ.. قال تعالى
{وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم، ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، وأخذنا منهم ميثاقا غليظا}
{الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله}
{وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}
{ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له}
{أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا}
{ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله}
{قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم، لكيلا يكون عليك حرج}
{ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم}
وفي هذه السورة نزلت أشد الآيات في خطاب أمهات المؤمنين، كقوله تعالى:
{قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعاليْن أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا}
{يا نساء النبي من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين}
{يا نساء النبي لستن كأحد من النساء}
وفي هذه السورة آيات شديدة في المنافقين، سواء في فرارهم من معركة الأحزاب، أو في طعنهم بالنبي وأمهات المؤمنين والمؤمنين، ومن أشدها قوله تعالى:
{والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}
{لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم، ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا . ملعونين أينما ثُقِفوا، أُخِذوا وقُتِّلوا تقتيلا}
{يوم تُقَلَّب وجوههم في النار، يقولون: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا . وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا}
وهكذا يا صاحبي.. ترى أن إصلاح أحوال المجتمع المسلم، ومكافحة العادات التي رسخت فيه، استغرقت أكثر مما استغرقت آيات مواجهة العدو.. وكانت لهجتها أشد وأقوى من الآيات التي نزلت في شأن الحرب.. وحُذِّر فيها النبي من أن يستحيي أو يخشى الناس أو يشعر بالحرج ما لم يُقَل مثله في شأن مواجهة الكافرين.
وفي هذا درس عظيم عظيم لمن تأمله وتبصر فيه.. فلكم يكون المرء شجاعا في مكافحة العدو الظاهر، ويكون ضعيفا في مواجهة الحبيب القريب..
لكم يكون مقداما في مواجهة الموت، ثم هو يُحْجِم في مواجهة أحوال مستقرة في أهله وأصحابه وأحبابه!!
والسعيد من حمل الأمانة وبلغ الرسالة وقام بالواجب كما أراده الله.. لا يصده عن ذلك عدو شديد، ولا محبة حبيب، ولا رسوخ عادة..
فاللهم اجعلنا ممن أدوا الأمانة وصاروا في موكب صاحب الرسالة!!

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق