الجمعة، 12 ديسمبر 2025

ابن تيميـة والألبانـي وسجن القلعـة... والأرِثْ المُتجـــدِّد!

 ابن تيميـة والألبانـي وسجن القلعـة... والأرِثْ المُتجـــدِّد!



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجميعن، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه وأقتفى بأثره إلى يوم الدين، أما بعــد..

النـاظر في سيرة إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمـد وشيخ الإسلام الإمام ابن تيمية –رحمهمـا الله- سيجـد أن سجنهمـا كانت له بركاتٌ لم يتوقعها من وضعهما في السجون! فالإمـام أحمد كانت من حسنات وإيجابيات دخوله للسجن الثبات الذي أكتسبه من "سارقٍ" كان مسجوناً في السجن لأجل سرقة قام بها ورفض الإعتراف بجرمهِ، وهذا جعل الإمام أحمد يزداد ثباتاً لينتج عن ذلك تصحيح رافدٍ من روافد العقيدة الصحيحة التي كاد أن يندثر لولا الله تعالى ثم ثبات أحمد .
وهكذا هم العظمـاء، لا ينقطع عطاءهم حتى لو ضاقت عليهم الأرض، أو قلّت من حولهم الرجال، أو كثرت عليهم الأعداء، تراهم يستغلون كل ما يملكون حولهم ليجعلوا من ضائقتهم فرجاً لغيرهم، وعيشهم في ظلمات السجون نوراً لمن فقد نوره، وموتهـم حياةً لِمن بعدهـم.
ومن أولئك العظماء، إمام السنة النبوية في العصر الحديث العلاّمة ناصر الدِّين الألبانـي –غفر الله له-، مات ذلك الرجل، وأختفى من بين الخلائق بجسده، وأصبح جثة هادمةً في إحدى المقابر، ولكن عطاءهُ وبركاتهُ ما تزال تترى علينـا صباح مساء، ما تكاد تُمسك كتاباً شرعياً إلا وتجد فيه "صححه الألباني، حسنه الألباني، ضعفه الألباني، السلسلة الصحيحة، صحيح الجامع"، وهذا من فضل الله تعالى على الشيخ، ومن علو همته وشدة عزيمته.

ابن تيميـة... وجمعة سجن القلعة:
سُجن الإمام ابن تيمية في سجن القلعة بدمشق بعد أن وشى به بعض علماء السوء الذين وجدوا في الإمام كاسراً لأحكام زمانه من التقليد والإتباع الأعمى، فكان سجنه فاتحةُ خيرٍ على سجن القلعة ومن فيه، فلقد اقام الإمام فيه داعياً إلى الله تعالى نابذاً للبدِّع والمنكرات آمِراً بالمعروف والطاعات.
وكان من آثارِ الإمام ابن تيمية في السجن، جمعُ المساجين في أن يُقيموا صلاة الجمعـة بعدما كانت لا تؤدى بداخل ذلك السجن، فلقد قام ابن تيمية بجمع الناس وذكر بالله وحضهم على صلاة الجمعة ، فأليك هذه القصة التي يرويها الإمام ابن عبد الهادي، وتأمل كيف كان حال المساجين قبل وبعد أن يُسجن معهم الإمام :
لما دخل الحبس وجد المحابيس مشتغلين بأنواع من اللعب يلتهون بها عمَّا هم فيه، كالشطرنج، والنرد، ونحو ذلك من تضييع الصلوات.. فأنكر الشيخ عليهم ذلك أشدَّ الإنكـار، وأمرهُم بملازمة الصلاة والتوجُّه إلى الله بالأعمال الصالحة والتسبيح، والاستغفار، والدعاء، وعلّمهم من السنّة ما يحتاجون إليه، ورغّبهم في أعمال الخير، وحضّهم على ذلك؛ حتى صار الحبس بما فيه من الاشتغال بالعلم والدِّن خيراً من الزّوايا والرُّبُط والخوانق والمدارس، وصار خلقٌ من المحابيس إذا أُطلِقوا يختارون الإقامة عنده، وكثُر المتردِّدون إليه، حتى كان السجن يمتلئ بهم.
"العقود الدرِّية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية" لابن عبد الهادي ص 269-.

فأنظـر إلى أولئك الأشخاص، كماء زمزم أينما تضعهم فإنهم يُغيرون ولا يتغيرون، دخل في وسطٍ خالٍ من ذكر الله تعالى، وخرج منه وهو مُقيمٌ للصلاة والجمعة والذكر والإشتغال بالعِلم، فيالله ما تلك الهِمم!

الألبانـي... وجمعة سجن القلعة:

نأتي إلى الإمام الألباني –عفى الله عنه- فلقد قاسى في سبيل الدعوة إلى الله الأمرَّين، هرب بهِ والدهُ من بلده الأصلي ألبانيا، ثم طُرد من بلده الآخر الأردن، ثم رحل إلى لبنان، ثم سُجن في دمشق، وهُدِّد من قبل علماء الدولة آنذاك، وأُذي كثيراً حتى أنه بعض "العلماء" المعارضون له اهدروا دمهُ، بل وفوق ذلك هجرهُ أباه وعاش وحيداً بدون مأوى ولا أنيس، ولكنه ما تراجع عن مبدأهِ ولا تزحزح عن دربه، وسار وجاهد وأجتهد حتى أصبح علماً يُضرب به المثل ويُشار إليه بالبنان بالصلاح والإستقامة –ولا نُزكيه والله حسيبهُ-.
الإمام الألباني قد سُجِن مرَّتين، و الثانية كانت في سجن القلعة الشهير الذي سُجن فيه مرتين عام 1389 هـ الموافق 1969م، بدون جريرة أقترفها إلا أنها كان يدعو الله تعالى هو وبعض إخوانه من الدعاة إلى الله.
فإليك شئياً من حال الشيخ الألباني فيما يتعلق بسجنه ممّا حكاه بنفسه، لتنظر كيف مدى تفاني هؤلاء الرِجال في خدمة دين الله تعالى وشغفهم بالعلـم:
قال الشيخ –رحمه الله-:
أخذوني في سيَّارة ونقولني من مكان إلى مكان، ووضعوني في مركز شرطة على أساس ينقلوني، وما أدري إلى أين؟ مرّ بي أَحد بني قومي الذين يُسمَّون بـ"الأرناؤوط" فسألني عن سبب وجودي في هذا المكـان، فأخبرته بالأمر، ثم ذهب الرجُل وسأل عن المكان الذي سينقلوني إليه، ثم جاء وقال لي: إنهم قرَّروا نفيك إلى الحسكة، يعني شمال شرق سوريا.
عرف الشيخ أنه سيُسجن في مكانٍ بعيد، وسينقطع عن أهله وأبناءهِ واصحابهِ، فماذا كان ردة فعله؟! هل طلب مُحامياً أم كفالةً؟
لنسمع من الشيخ، يقول:
فطلبتُ منه أن يذهب إلى ابني في الدكّان ويُخبره أن يأتي لي بالشنطة ويضع فيها نُسخة "صحيح مسلم" وبرَّاية وقلم رصاص ومحَّاية... إلخ، ويُدركني هُنا، وإلا فليلحقني إلى منطلق السيارات إلى حلب.
هم سيرسلونه إلى السجن، وهو لا يُفكر إلا في "صحيح مسلم"!!...
يُكمل الشيخ ويحكي لنّا ما حدث له في سجن الحسكة:
الحسكة فيها سجنٌ جديد واسعٌ جدًّا ومرتفع، فأدخلوني إلى عروش طويل جدًّا، وإذا فيه شباب من المسلمين من "حزب التحرير"، و رئيسُهم كان يحضُر دروسي في حلب، سلفي يعني، ثمَّ انحرف مع "حزب التحرير".
قُلنا: رُبَّ ضارَّة نافعة، وكنتُ ليلاً ونهاراً في نقاش مع الجماعة، ولكن أنا "جايب" زادي أريد أن أشتغل، وكانت "اللمبة" ملتصقة بالسقف، والسيقف عالٍ جدًّا ما أستفيد شيئاً، حكيت مع صاحبنا هذا الذي كان سلفيَّاً، اسمه الشيخ مصطفى، وقد مضى عليه في السجن سنتين، وبسبب طول المكث هناك صار بينهم وبين مدير السجن صحبة، ومدير السجن الظاهر كان عنده شيءٌ من الفطرة ولو أنه بعثي، فكان يتجاوب فعلاً مع الشيخ مصطفى ومع المسلمين أولئك ويُساعدُهم بقدر الإمكان، وكانوا مشتركين في الطعام... فاشتركتُ أنا معهم...
المُهـمّ أنا أُريد كهرباء.. فتحدّث الشيخ مصطفى مع مدير السجن وقال له: الشيخ الألباني طالب علم ويُريد أن يشتغل؛ لأنه أتى معه بالكتُب.
فقال له مدير السجن: نأتي بما يريد ولكن على حسابه! فقلتُ: هذا سهلٌ، يأتي بالأغراض ونحن ندفع... فنزّلت "اللمبة" من فوق إلى فوق رأسي تماماً، فما أحسستُ الغربة بالسجن إطلاقاً، كما قال ابن تيمية –رحمه الله-: سجني خلوة"
-حكاها عنه الشيخ الحويني في شريطه "ترجمة الألباني"-.

ويقولُ في موضعٍ آخر :
وقد قدَّر الله أن لا يكون معي فيه إلاّ كتابي المحبَّب "صحيح مسلم" وقلمُ رصاصا وممحاة، وهناك عكفت على تحقيق أمنيتي في اختصاره وتهذيبه، وفرغتُ من ذلك في نحو ثلاثة شهور، كنتُ أعمل فيه ليل نهار، ودون كلل ولا ملل، وبذلك أنقلب ما أراده أعداءُ الأمَّة انتقاماً منّا إلى نعمة لنا، يتفيأ ظلالّها طلاّب العلم من المسلمين في كلِّ مكان، فالحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات .
-"مختصر صحيح البخاري" (1/د)-.
وإذا كانت النفـوس كبـاراً × تعبـت في مرادها الأجسـامُ

ومن آثـاره المباركة في السجن –رحمه الله-، عودة صلاة الجمعة والجماعة بعد حظِّه للمساجين عليها، وإنه من بركة الله تعالى للعلماء أن يجعلهم مُكملين لبعضهم البعض، تابعين سُنن الخير خلفاً عن سلف، فبعد الإمام لم تُقام صلاة الجمعة في سجن القلعة إلا على يدِّ الإمام الألباني.
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم الشيباني :
وقد كان من نعم الله على الشيخ ناصر أثناء سجنه أن دعا المسجونين إلى ما كان يدعو إليه خارج السجن، وهو الكتاب والسنة ونبذ الإبتداع في الدِّين، والإنقياد لقول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك التقليد... فاستجاب لدعوته خلقٌ كثير منهم، فاستفاد من سجنه أنه ألّف فيه "مختصره" على صحيح مسلم بن الحجَّاج –رحمه الله تعالى-...
وحثّ الناس في السجن على صلاة الجماعة والجّمعة، وهو أوَّل مرَّة تُقام صلاة الجمعة في القلعة من بعد سجن ابن تيمية –رحمه الله-. فكانت همَّتُه العالية وشغفه بالعلم لا تعرفنا الحدود والقيود...
-"حياة الألباني" للشيباني (1/28-29)-.
أرأيت أخي القارئ كيف أن أهل العِلـم مبارَكين أينما حلّوا؟ جعلنا الله وإياكـم من المباركين أينما كانوا. ونسأله تعالى ان يغفر لإمامنا الألباني ويعفو عنه، وأن يجمعنا وأياه في مستقر رحمته ووسيع مغفرته، أنه ولي ذلك والقادر عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق