وحين يسأل أحدنا نفسه: هل أعذرنا أمام ربنا حقًّا؟ يجد الجواب مُربكًا، لأنّنا بكلّ صراحة لم نقترب بعد من الحد الأدنى ممّا يجب، ومع ذلك نتجرأ أن نقول إنّنا “ألقينا عصا السنوار” وخرجنا من دائرة الواجب.
والمؤلم أنّ كثيرًا من الناس عادوا إلى حياتهم الطبيعية كما لو أنّ غزّة كانت مشهدًا حزينًا لكنّه مؤقت، لا امتحانًا عقائديًّا يعيد تعريف معنى وجودنا كلّه.
عادوا إلى أعمالهم وتفاصيلهم ومواعيدهم، وغسلوا غبار المشاهد المؤلمة عن وجوههم…
لكن من الذي غسل قلبه أولاً؟
من الذي تجرأ أن يحمل سطلاً من الماء ليغسل الدم عن ضميره قبل أن يغسل يديه؟
من الذي توقف ليسأل نفسه: هل تغيّرت بعد الطوفان؟ هل نضجت؟
هل اقتربت من الله خطوة حقيقية؟ أم أنّني فقط عدت أعيش، وأتنفس، وأستهلك الحياة بزيفها ووُعودها وكأنّ شيئًا لم يكن؟
نحن الذين نقول إنّ عقيدتنا صافية، وإنّ توحيدنا خالص لله، وإنّ ولاءنا وبراءنا ثابت…
لكن أين ظهرت هذه العقيدة في لحظة الامتحان؟
أين انعكس التوحيد حين اختلطت الدماء بالدعاء؟
وأين ظهرت مفاهيم العدة والاستعداد والجهاد ونحن نعود إلى نمط الحياة ذاته، ومفاهيم الاستهلاك ذاتها، وأولويات الراحة نفسها؟
الحقيقة المؤلمة أنّ العودة إلى الحياة دون مراجعة، ودون إعادة ترتيب أفكارنا، ودون تغيير جذري في فهمنا لمعنى الرسالة… تعتبر خيانة صامتة لكلّ التضحية التي قُدّمت في غزّة.
وما يزيد الجرح أنّ المثقفين والكتّاب – الذين كان يُنتظر منهم أن يُعيدوا توجيه وعي الأمة – انشغلوا بالسؤال الخطأ.
بدل أن يضعوا أساسًا فكريًّا جديدًا لأمة يجب أن تعيد صياغة نمط حياتها من الجذور، ذهبوا يناقشون صوابية قرار الطوفان من عدمه، كأنّ الطوفان حدث سياسي يمكن تحليله على طاولة باردة، لا هزة قدرية أراد الله بها أن نعيد اكتشاف أنفسنا.
تركوا سؤال النهضة الأكبر، انشغلوا بالتفاصيل، وابتعدوا عن الفكرة التي كان يجب أن تُبنى عليها مرحلة جديدة من الحركة والتربية والفكر.
ثم ّيأتي أحدهم، بكلّ بساطة، ويقول لقد “ألقينا عصا السنوار”. أيّ عصا؟ وأيّ موقع؟ وأيّ مقارنة؟ أين نحن من رجل يعيش حياته في العتمة، على دروب الإعداد والصبر؟ أين نحن من رجلٍ يعرف أنّ الله وحده سندُه، وأن الأمة –مهما تعثرت– تحمل في داخلها شرارة لا تموت؟ من أين جاءت الجرأة لنعتبر أنّنا أتممنا واجبنا ونحن لم نقترب من أول الطريق بعد؟ يكفي أن ننظر داخل أنفسنا لنعرف أنّنا لم نفعل شيئًا يستحق أن يُسمى إلقاءً للعصا.
غزّة اليوم ليست مشهدًا قديمًا، بل معيارًا تُقاس به الأرواح وموازين الإيمان والصدق. إما أن نرتقي إلى مستوى دماء الشهداء، أو نبقى مقيدين بالأصفاد التي صنعتها الحياة المترفة والاهتمامات الزائفة.
المرحلة التي نعيشها ليست انتظارًا لخبر جديد، بل مرحلة إعادة تشكيل أمة. ومن شعر أن “كلّ شيء عاد طبيعيًا” فليعلم أنّه هو الذي ابتعد، لا غزّة.
والسؤال الذي يجب أن يبقى مفتوحًا أمامنا:
هل حقًّا ألقينا عصا السنوار؟ والله يعلم قبل كلّ أحد أنّنا لم نلق شيئًا. وأنّ الطريق ما زال طويلًا، لكنّه الطريق الوحيد الذي يليق بأمة أقسمت أنّ لا تخون غزّة ولا دماءها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق