أصبحت مصريا!
كان القاضي المالكي عبد الوهاب بن نصر يعيش في بغداد فقيرا معدما حتي قال: بغداد دار لاهل المال طيبة.. وللمفاليس دار الضنك والضيق- ظللت حيران أمشي في أزقتها.. كأنني مصحف في بيت زنديق!
وخرج إلي مصر فمر بمعرة النعمان فضيفه أبو العلاء ومدحه بقوله: والمالكي ابن نصر زار في سفر.. بلادنا فحمدنا النأي والسفرا- إذا تفقه أحيا مالكا جدلا.. وينشر الملك الضليل إن شعرا.
وحين سكن مصر تحسن حاله وجاءته الأموال, ومرض من أكلة اشتهاها فكان يقول عند احتضاره: لا إله إلا الله حينما عشنا متنا! القاهرة والإسكندرية كانتا مهجرا للراغبين ومعبرا للراحلين, والمصري كان يقول: كنت عينا للاعمي, ويدا للمشلول, ورجلا للكسيح, وأبا لليتيم, وأنسا للغريب.
ولا غرابة أن يمر غريب فيطيب له المقام ويأنس بالدار وأهلها, فطبيعة هذا الشعب الطيبة والتسامح والإيواءوقد تعلم من أرضه الجود بالموجود!
وبين المغرب ومصر هوي قديم وكانت مصر رباطا يأوي إليه العلماء والمقاتلون ويلقون الحفاوة الشعبية والرسمية وقد شيد المغاربة المدارس والزوايا والرباطات والأروقة,لقد انتفعوا بمقامهم ثم آثروا مصر بكفاءتهم وحفظوا جميلها.
كانت تقع في طريق الحج للقادمين من الأندلس وبلاد المغرب ولذا مر عليها الرحالون وتزودوا من معارفها منذ ابن جبير في القرن(12) الميلادي, إلي الحجوي في بداية القرن العشرين ومنهم ابن خلدون, وكان جميلا أن يسمي الأديب شعيب حليفي كتابه( عتبات الشوق) إشارة إلي قصد البلد الحرام عبر مصر, وقد تحدث فيه عن الرحالة المارين, كما تحدث عمن اختاروا الاستقرار بمصر.
ثم شيء يسمونه الهوي المصري يصيب عابرين فيحملهم علي البقاء ليصبحوا جزءا من نسيج المجتمع المصري ويندمجوا فيه فلا يوجد شعب أو ثقافة تغلغل في وجدان العربي المسلم وصاغ وعيه كما حدث لمصر, حتي أولئك الذين لم يزوروا مصر كانت مصر تزورهم عبر رجالاتها وكتابها النابغين.كانت تقع في طريق الحج للقادمين من الأندلس وبلاد المغرب ولذا مر عليها الرحالون وتزودوا من معارفها منذ ابن جبير في القرن(12) الميلادي, إلي الحجوي في بداية القرن العشرين ومنهم ابن خلدون, وكان جميلا أن يسمي الأديب شعيب حليفي كتابه( عتبات الشوق) إشارة إلي قصد البلد الحرام عبر مصر, وقد تحدث فيه عن الرحالة المارين, كما تحدث عمن اختاروا الاستقرار بمصر.
كانت مصر يوما مركز الخلافة العباسية وهي ميزة منحتها إهمية إضافية سياسية ودينية وجعلتها مهجرا عالميا ومرتادا للسواح والمهاجرين من كل صوب, ولست أدري ما الذي تغير حتي صار الشاب المصري يبحث عن فرص الهجرة غير المشروعة إلي أوربا, وهو الحلم الغامض الذي غالبا ما ينتهي بالكارثة!
( فارس يواكيم) أديب لبناني كتب( ظلال الأرز في وادي النيل) وأرخ لشخصيات شامية عاشت في مصر وأسهمت في حياتها الثقافية والصحفية من مسلمين ومسيحيين ومن الذي لا يعرف رشيد رضا أو أحمد فارس الشدياق أو جورجي زيدان؟
قادة الحراك الوطني وزعماء التحرير مروا من هنا أو استقروا هنا!
والكواكبي الذي فضح الاستبداد وحوصر في حلب هاجر إلي مصر لأنها كانت تملك القدرة علي استيعاب المهاجرين وصناعة المجال الحيوي لأطروحاتهم وإبداعهم.إنها منصة انطلاق للطاقات والمواهب ومنطقة جذب للموهوبين.
وقد يظل المرء مغمورا بين أهله فإذا انتقل إلي مصر أشرق واشتهر!
حتي كان الأب يحفز ولده علي التفوق ليتمكن من الحصول علي بعثة إلي مصر, وإذا عاد فإنه يصبح شخصية مرموقة بين معارفه.
جمال الدين الأفغاني القادم من أفغانستان أو من إيران استقر بمصر وأنشا مدرسة فكرية وترك تلاميذ من أبرزهم الشيخ محمد عبده, وفي حياة الافغاني تساؤلات وغموض لها حديث آخر وكان محمد عبده يقول: إن والدي أعطاني حياة يشاركني فيها أخواي علي ومحروس والسيد جمال الدين أعطاني حياة أشارك فيها محمد وإبراهيم وموسي وعيسي والأولياء والقديسين!
محمد الخضر حسين تونسي ضيق عليه الاستعمار الفرنسي لأنه رفض تولي القضاء لهم فطلب حريته بمصر والتقي طاهر الجزائري ومحب الدين الخطيب ورشيد رضا وتولي مشيخة الأزهر ثم استقال احتجاجا علي إلغاء القضاء الشرعي ودمجه في القضاء المدني وهو عالم وأديب مترسل ولولا امتلاء روحه بإحساس الحرية في مصر ما قبل المنصب ولا تجرأ علي الاحتجاج بهذه الطريقة.
مصر كانت محضنا للأدباء والعلماء والإعلاميين والفنانين والتجار قبل أن تنشغل بآلامها الذاتية وتنكفئ علي نفسها, وقد آن أن تستعيد مكانتها وتجدد أواصر الحب والوصل مع محيطها العربي والإسلامي فهي دائما تولد من جديد ومكانها الريادي لايزال فارغا لم يسد!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق