الخميس، 14 أغسطس 2014

فض رابعة .. كنت هناك وسأكمل ولو فاتت ألف سنة ولو لم يبق سواي


فض رابعة .. 
كنت هناك وسأكمل ولو فاتت ألف سنة ولو لم يبق سواي



بقلم: محمد جلال 
 ناشط ومدون مصري

كنت هناك ولا أدري كيف خرجت .. ولا أدري أأفرح أم أحزن أنني قد نجوت!

لم أكن أعلم حينها لم يموت من يموت ولم يعيش من يعيش .. ولم أكن أعلم أن هناك من اختاروا وقرروا أن يكونوا شهداء .. نعم قرروا بل منهم من أقسم على الله أن يختاره فاختاره !

كنت أقول دائما إن رابعة هي المدينة الفاضلة .. وكنت أقول أن هؤلاء والله لا يمكن لهم العيش في دنيا الناس، حيث قلوب يملؤها الغل والحقد والنفاق ..

قبل الفجر جلست قليلاً مع الحبيب عمر الفاروق ولم أكن أعرف أن هذه آخر مرة سأراه فيها بحياتي .. كنا كثر وكان عمر يخدم الجميع بتفانٍ .. لم أراه يتكلم كثيرا هذه الليلة ولا يمزح كما تعودته ولكنها ابتسامة خفيفة على وجهه يقابل بها الجميع .. ثم أهداني بنطاله ليكون آخر هدية من أجمل عريس!

وفي لحظة كان الميدان يغلي ويفور .. استنفار كبير وأصوات عالية .. ثم نادى مناد أنهم قد أتوا وأنهم يفضون الميدان .. ثم رأيت الرجال يمشون مشية الواثق ينظمون الميدان .. فأنت هناك وأنت هنا .. الكل ثابت صابر يلاقي مصيره .. رأيت في عيون الجميع إيمانا لم أره من قبل وثقة لم أرها من قبل .. الصوت يعلو والحرب تشتعل ونحن عزل بلا سلاح!

ثم رأيت أما تجلس مع ولدها الصغير تبث الأمل في نفسه .. قم يا ولدي وقاوم لا تخف منهم إنهم نساء ونحن أسود .. إنهم ضعاف ونحن أقوياء .. كانت تحطم أرصفة الميدان وتنادي على ولدها أن احمل الطوب وألقه في وجه الأعداء وحجارتنا ستهزم رصاصاتهم!

المنصة تنادي بصوت عال أن يا الله أغثنا وكن معنا .. والأناشيد الحماسية تعلو بالميدان مع أصوات الرصاص ولكنها هذه المرة ليست من أجهزة الصوت ولكنها من العدو ..!

عرفت أننا قد انقطعنا عن العالم الخارجي وأنهم يريدون قتلنا من دون حتى أن نبكي أو يسمع العالم بكاءنا .. فقررت أن أصور وأنقل الحقيقة .. كانت الشبكات ضعيفة .. ولكني جلست محاولاً الكتابة والنقل .. ثم رأيت من حولي يقولون (لا تقل إننا نموت .. ولكن قل إننا نناضل ونقاوم وسننتصر)، كانت الكلمت كفيلة بأن تنزل دموعي وتسيل، ولكنها لا تظهر لأن الجميع يبكون فقنابل الغاز تملأ الميدان كله!

وفي منتصف الميدان تماماً رأيت طفلة صغيرة مع أبيها بجواري .. ثم رأيت أباها يبكي بحرقة .. قلت له ما حدث؟ قال: ماتت بنيتي .. يحملها ويقبلها بعنف شديد ودموعه تنهمر!

فتحت الكاميرا وبدأت في التصوير، فقال: (البنت شهر .. هي عملت ايه علشان تموت .. عملت ايه .. ممكن تقولي) ..!!

كان الخل والبيبسي الذي يلقى في وجهي كل دقيقة بمثابة إشارة بأنني حي .. أنا لا أحلم .. ما يحدث حقيقة .. الدم في كل مكان والدخان يملأ الجو والرصاص أصواته تصم الآذان والأناشيد الحماسية تلهب الميدان!

وفي إحدى الخيام الصغيرة التي اشتعلت بأكملها لم يتبق سوى بطل يجلس ويفتح مصحفه ويقرأ.. اقتربت منه أكثر وجلست بجواره .. فرأيت ثباتا عجيبا وبصيص أمل يشع من عينيه .. رأيته فابتسمت .. وعلمت حينها أنه قد أصيب برصاصة في قدمه فلم يعد يقوى على الحركة .. فجلس لقراءة القرآن!

وخلف مسجد رابعة اجتمعت أعداد غفيرة، منهم من يرتاح وسيذهب ليكمل النضال .. ومنهم من يعمل بالمستشفى الميداني ومنهم من ينقل الجرحى والقتلى .. ومنهم من تحمس الشباب والرجال أن أكملوا .. ومنهم من جلس يبكي ولكن بصوت ضعيف كي لا يزعج من بجواره أو يضعف من معنوياته .. ومنهم من يدعو الله أن نجنا من القوم الظالمين ..!

لم يفرق الميدان حينها بين كبير وصغير بين قائد وتابع .. رأيت د.البلتاجي يقف في المستشفى ويمر ولا أحد بجواره .. ورأيت الدكتور صلاح سلطان يمر على الناس يثبتهم .. لا حاشية ولا أتباع كانوا ينتظرون الموت كما كنا ننتظره!

وذلك الذي وقف يكلم أمه في الهاتف .. يقول لها كلمي عمي فلان وخالي فلان قولي لهم إن السفاح الذي تؤيدونه يقتل ولدي .. كان يبكي بحرقة ويشكو لها تخاذل المتخاذلين وتراجع الجبناء .. قال لها قد أموت يا أمي فهذه آخر كلماتي .. قولي لهم إني لن أسامحهم أبداً .. ولا أعرف أمات أم لا يزال على قيد الحياة!

وفي الناحية الأخرى من الميدان علمنا أن من أصحابنا من ما زال تحت أسر العسكر، فرأيت بطلاً انتفض وقال إذن نحررهم! كيف وسط الرصاص والقنابل .. قال: سأذهب .. ثم علمت بعدها أنه راح وساعد في إخراجهم بعد انحسار العسكر عن المكان!

ساعتان في منتصف النهار من النوم المتواصل المستغرق رغم الصوت العالي .. رغم الرصاص والاستنفار كانتا كفيلتين بإذهال كل من حولي .. ولكنه رزق رزقني الله إياه وسمعت بعدها أن الكثيرين قد نالوا هذا الرزق!

ثم بعدها أب يجلس وسط أولاده .. وفي يده زجاجات البيبسي لتقيهم أثر قنابل الغاز .. يبكي ولده ليشرب منها .. فيقول له الوالد وهو يضمه: (البيبسي مش عشان نشربها .. علشان نحطها على عنينا علشان منموتش) ..!!

طلقة لعينه تخترق رأس الفتى صاحب الكاميرا الذي كان يبعد عني مسافر متر واحد ترديه شهيداً بإذن الله .. نظرت بجواري فلم أجده، نظرت على الأرض فوجدت دمه يسيل على قدمي وعلى الأرض .. وسط ذهول تام مني وممَن حولي .. حتى إن ذهولي ثبتني تماما بينما من حولي يحملون الفتى من الأرض ويتجهون به بالمستشفى الميدانن!

وفي شارع الطيران .. وجدته يوزع على الناس البيبسي والكمامات باهتمام كبير .. ولما رآني احتضنني بشدة ثم بكى .. إنه إسلام صاحب الــثلاث عشرة عاما، تلميذ عمر الفاروق رحمه الله .. سقطت قنبلة بجواري فجذبني إليه بشدة وأخذ يبكي من خوفه علي لا على نفسه!!

وعالم آخر لما صعدت مستشفى رابعة التخصصي ووصلت إلى الدور الخامس، حيث تحوي كل غرفة على أربعة أو خمس مصابين على سريرين فقط .. والأرض تمتلئ بهم أيضاً .. حيث رجل كبير يئن قد أصيب في يده، ولكنه يبحث فقط عن ولده ويسأل عنه المارة .. وامرأة كبيرة مصابة وتقول بصوت عالي يهز المستشفى سننتصر ولن يخذلنا الله أبداً: اثبتوا يا أولادي ..!

خرجت من الحلم مع أفواج تخرج من الميدان لا تعلم إلى أين تتجه .. لم تأكل ولم تشرب .. تتمتم بـ"حسبنا الله ونعم الوكيل" وفقط ..

خرجت من الحلم بلا أحبة كنت لا أستطيع العيش من دونهم!

خرجت من دون عمر الفاروق وبدون خالد بن الوليد.. نعم حلم .. وأي حلم!

ولكني قررت أني سأعود .. لم أخرج بعقلية منهزمة منكسرة .. ولكنني قررت أن أكمل .. فاتت سنة على المجزرة .. وسأكمل ولو فاتت ألف سنة ولو لم يبق سواي ..

سأكمل لأننا قدر الله النافذ .. سأكمل لأن وعد الله واضح ثم تكون خلافة!

سأكمل لأني لن أخون دم أحبابي ورفقائي .. سأكمل لأني اشتقت لمن هم في غياهب السجون!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق