السبت، 9 أغسطس 2014

لماذا قصف الأمريكان "داعش"؟

لماذا قصف الأمريكان "داعش"؟


شريف عبد العزيز
لأسابيع بحّ صوت المالكي وهو يستغيث بأسياده الأمريكان من أجل التدخل لنجدته من الهجوم الكاسح الذي شنه مجاهدو الدولة الإسلامية المعروف إعلاميا باسم " داعش "، والأمريكان لا يحركون ساكنا، بل لا يخفون حسرتهم على ملياراتهم الضائعة على تسليح جيش من الذعران والفئران لم يصمد في ميدان القتال فواق ناقة، حتى غدا مقاتلو داعش على أميال معدودات من العاصمة " بغداد "، والأمريكان يواصلون الإعراض عن سماع صيحات الطائفي المقيت شماتة فيه، وابتهالا لفرصة لا تعوض من أجل الإطاحة به بعد أن تسبب غباؤه الطائفي في عودة الوعي لأهل السنّة بالعراق والثورة عليه وعلي أسياده الإيرانيين والأمريكان جميعا .
وفجأة إذا بالأمريكان ينتفضون ويتحركون بمنتهى السرعة عندما توجهت نيران داعش نحو شمال العراق، بعد سلسلة من العمليات الناجحة في شمال العراق أدت إلى سقوط عشرات البلدات الكردية في أربيل ومن قبلهما جبل سنجار معقل عبدة الشيطان في العراق المعروفين إعلاميا باسم " اليزيديين "، فقد أعلنت الدولة الإسلامية الخميس 7 أغسطس عن الاستيلاء على 15 بلدة وأكبر سد في العراق وقاعدة عسكرية منذ أن شن هجوما ضد المقاتلين الأكراد في شمالي البلاد، وقد انسحب كلا من اللواء الرابع التابع للجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية، فجر الخميس من مدينتي قرقوش وبرطلة ذات الأغلبية المسيحية. في حين هربت الأقليات التي تنتمي للأقليات الدينية والعرقية من المسيحيين واليزيديين والشبك من المدينتين وتوجهت إلى مناطق بسهل نينوى وإلى مدن داخل إقليم شمال العراق. ثم جاء رد الفعل الأمريكي والفرنسي والانجليزي في غاية السرعة والعجب، ففي نفس اليوم " الخميس " يصدر أوباما أوامره للقوات الأمريكية بقصف منصات المدفعية للدولة الإسلامية، ويتصل الرئيس الفرنسي أولاند بمسعود بارزاني زعيم الأكراد من أجل الإعلان عن عزم فرنسا مساعدة الأكراد ضد مجاهدي الدولة الإسلامية، وكذلك أعلنت انجلترا تضامنها مع كردستان، فما سر هذه الاستجابة الفورية، والسرعة اللافتة للأنظار في الهجوم العسكري الأمريكي على داعش اليوم ؟

أمريكا أعلنت على لسان رئيسها أوباما قد أجاز الخميس توجيه ضربات جوية أمريكية محدودة على العراق لحماية المسيحيين والحيلولة دون وقوع “إبادة جماعية” ضد عشرات الآلاف من طائفة اليزيدية ممن يحتمون بقمة جبل خوفا من مقاتلي الدولة الإسلامية، وهو المبرر المعلن ولكنه محل نظر وشك كبيرين، وذلك لأسباب كثيرة أبرزها أن الأراضي التي تسيطر عليها الدولة الإسلامية الآن في العراق والتي تفوق في مساحتها مساحة عدة دول عربية مجتمعة، يوجد بها عشرات الآلاف من الأقليات الدينية وهم يشتكون من الاضطهاد الديني على حد زعمهم، وبالفعل قامت آلاف الأسر النصرانية في الموصل بالخروج منها بعد أن رفضوا الامتثال لأوامر الدولة بدفع الجزية، ومع ذلك لم يتحرك الأمريكان، أيضا مقاتلو الدولة قام بإعدام آلاف الجنود العراقيين الشيعة بعد أن حرروا الموصل ومدن الأنبار من جيش المالكي جزاء وفاقا على جرائمهم بحق أهل السنّة، ولم يتحرك الأمريكان، وبالتالي فالمبررات الأمريكية واهية وسرعة الرد لها مبررات أخرى في نفس أوباما ومن معه .


نستطيع أن نجمل الأسباب في كلمة واحدة وهي " هذا ما يريده الصهاينة "

فلا يمكن النظر لتطور الأحداث الملتهبة في العراق الآن بمعزل عن الظروف الجيوسياسية والتاريخية لهذا البلد المعروف بتنوعه العرقي والطائفي، فالمسألة الكردية واحدة من أعقد الملفات التاريخية في المنطقة وليس في العراق وحده، وقد دفعت التطورات التي شهدها العراق مؤخرا المسألة الكردية إلى واجهة الأحداث من جديد مع إصرار مسعود البارزاني رئيس إقليم شمال العراق، على إجراء استفتاء ينتهي بالإعلان عن انفصال شمال العراق في دولة كرديّة مستقلّة. قد تمتلك حكومة إقليم كردستان في هذا السياق ما يخوّلها إعلان استقلالها وفرض انفصالها على حكومة بغداد والعراقيين لكنّ ذلك لا يكفي بالتأكيد لجعل هذا الحلم الكردي واقعا، إذ لا تمتلك حكومة إقليم كردستان العراق عمليا حتى الآن ما يجعلها تفرض استقلالها كأمر واقع على المجتمع الدولي .

فما من دولة عربية أو إقليمية تريد أن ترى ميلاد دولة جديدة في محيطها ونطاقها الجغرافي، خاصة وأن هذه الدولة ستكون على أساس عرقي معادي، فالأكراد ينتشرون في عدة مجاورة، في العراق وإيران وتركيا وسوريا، وهم يشكلون أقلية في كل هذه الدول، وحلم الاستقلال والتجمع في دولة كردستان الكبرى لا يفارق أذهان الأكراد منذ انهيار الدولة العثمانية الذين كانوا ينعمون في ظلالها بالأمن والرفاهية وهم يتفانون في خدمتها، ولكن الأخطر من ذلك الحلم ومحاولات تحقيقه أن الحالمين قد عقدوا آمالهم وبنوا مخططاتهم على استنساخ فكرة " كردستان الكبرى " على غرار فكرة " إسرائيل الكبرى " فمازالت بعض أحاديث جيل الأربعينيات والخمسينيات في إقليم كردستان تدور حول الإرث الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي خلفه الكرد اليهود قبل أن يرحلّوا إلى إسرائيل للإقامة في الدولة العبرية. فثمة تشابه كبير بين الحالتين والشعبين، كلاهما شتات بنا معظمه تراثه الثقافي بالأساطير واليوتوبيا، وعقله الجمعي زاخر بكثير من خيالات الأدباء والقصاصين، وكلاهما يحلم بالدولة الأم التي تجمع شتاتهم المتناثر في البلاد، وكما ينقسم اليهود إلى شعوب "أشكينازي" و"سفارديم" و"فلاشا" وهُم درجات مختلفة الشرف والتمكين داخل المجتمع اليهودي وكذلك ينقسم الأكراد كعِرق إلى شعوب "كرمانجي" و"سوراني" و"سارلي" و"زازا- الفيكا" ويحتوي المجتمع اليهودي اختلافات إثنية عديدة تكاد تعتبر أديان متضادّة مختلفة متناحرة ففيهم "الحريديم" والعلمانيين" وكذلك يحتوي المجتمع الكردي اليزيديين واليارسانيين والشيعة والسنّة . وكما أن اليهود أنشئوا عصابات إجرامية كالـ"هاجانه" (1920م) والـ"أرجونزفاي" (1937م) ليوطِّنوا أرجلهم في فلسطين، فإن الأكراد أنشئوا أحزاباً عسكرية ترتكب الفظائع وتعمل في صف من يُعينها على الانفصال وتضرب الأراضي التي نبتت منها وتعادي القوميات التي نبتت تحت لوائها. كالحزب الديمقراطي الكردستاني (بارزاني) تركي/أمريكي الولاء، الاتحاد الوطني الكردستاني (طالباني) إيراني الولاء،والاثنان في "العراق. و"حزب العمال الكردستاني PKK (ماركسي) وهو بالأساس في تركيا ونافذ في "العراق" و"سوريا".

هذا الحديث قد تجدد في الآونة الأخيرة بين سكان كردستان، بعدما وجدوا الكيان الصهيوني أول من يبادر للاعتراف بحق إقليم كردستان في أقامة دولة مستقلة، فقد أعلن ثلاث مسئولين رفيعي المناصب في إسرائيل، في غضون أسبوع، إلى حق الكرد في أنشاء الدولة لهم و الانفصال عن العراق.وبدأ سيل التصريحات انطلاقا من بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في أواخر الشهر الماضي عندما قال في محاضرة ألقاها في جامعة تل أبيب، إن "العراق يمر بحالة انهيار بسبب الصراع الطائفي (السني – الشيعي)، وقيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق ستكون فاعلة في محاربة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)". هذا التصريح أعقبه موقف مماثل من ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلية، عندما قال في باريس "ندعم قيام الدولة الكردية"، وبعدها بقليل، الرئيس الإسرائيلي بيريز وبعد لقائه بالرئيس الأمريكي باراك أوباما في واشنطن؛ طالب بالاعتراف بقيام الدولة الكردية.

العلاقات الكردية الإسرائيلية علاقات تاريخية وقديمة بدأت منذ ثورة مصطفى البارزاني في الأربعينيات من القرن الماضي والذي طبق مبدأ "عدو عدوي صديقي "ومن ثم راح يقيم علاقات كاملة مع الكيان الصهيوني الوليد، وفي كتابه "انهيار الأمل العلاقات الإسرائيلية الكردية 1963ـ1975" يلقي مستشار رئيس الوزراء الأسبق إسحاق شامير، الصحفي شلومون نكديمون الضوء على الكثير من خفايا وأسرار علاقات التعاون والتنسيق بين إسرائيل والأكراد بقيادة الملا مصطفى بارزاني، والد مسعود بارزاني، الرئيس الحالي لإقليم كردستان العراق.


البارزاني الابن كان صادقاً مع نفسه ومع العالم، حين صرّح أكثر من مرّة وبصراحة أنّ "إقامة علاقات مع إسرائيل ليست جريمة". فإسرائيل دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة وواحدة من دول الشرق الأوسط الأكثر ديمقراطيةً وتقدماً، اقتصاديا وعلمياً، عليه لا مانع من حيث المبدأ من إقامة علاقات دبلوماسية معها،خصوصاً وأنّ العديد من الدول العربية والإسلامية تقيم علاقات متنوعة، دبلوماسية أو اقتصادية أو ثقافية مع إسرائيل منذ عقود، مثل مصر والأردن . وخلاصة وجهة النظر الصهيونية في تأييد استقلال كردستان عن العراق "كما كان إنشاء "إسرائيل" في "فلسطين" نواة لإنشاء "إسرائيل الكُبرى" من الفرات إلى النيل والتي لا يزال يسعى لها اليهود إلى الآن. فإن استقلال "كردستان العراق" بحكم ذاتي هو مقدمة لحلم الأكراد الكبير بدولة "كردستان الكبرى" المقتطعة من العراق وسوريا وتركيا وإيران " وهو الكيان الذي سيغيّر معادلات كثيرة ويخفف من صراع النفوذ التاريخي القائم بين "تركيا السنية" و"إيران الشيعية"، ويخلق ميزان قوى جديد في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل وأمنها القومي.وإقامة كيان كردي مستقلّ، من وجهة نظر برجماتية، هي مصلحة إسرائيلية وكردية متبادلة. فالأكراد يطمحون من خلال هذه العلاقة إلى إقامة وطن خاص بهم يجمعهم، أما الإسرائيليون فيرون في قيام دولة كردية مستقلة في المنطقة تحولاً جيوسياسياً واستراتيجياً كبيراً يخدم مصالح تل أبيب خصوصاً لجهة إضعاف الخصوم التاريخيين وهم " أهل السنّة " .

إن الصهيو- صليبية العالمية أيًّا ما كان ستارُها "بريطانيا" أم "أمريكا"؛ فهي صاحبة فكرة "الكيان الصهيوني " قديما، وهي أيضا صاحبة فكرة " الكيان الكردي " حديثا،وحيثما كانت مصلحة الفئة الغربيّة المتغلّبة فكّكت الصُّهيو- صليبية دولاً لتنشئ غيرها وهكذا،فقد نشرت مجلة "القوات المسلحة الأمريكية" في عددها يونيه 2006 تقريراً خطيراً عن إعادة ترتيب الواقع العِرقي والطائفي والقومي وفق تركيبة تناسب المخططات الأمريكية؛ وذلك في الدول شرق الأوسطية الأكثر تنوعًا وامتزاجًا مثل: "العراق"، "أفغانستان"، "السودان"، "الجزائر"، "لبنان" وهكذا، وقد جاء في هذا التقرير أن هذا التغيير ليتم ينبغي له أن يتم سباحة في الدماء وسيرًا على الأشلاء حتى يتم كسر توليفات الاندماج القومي الحالية وإعادة التوزيع وفق الهوى الأمريكي، بزرع كيانات جديدة تتماهى مع المطالب والمصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة من أجل غاية عليا وهي الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني، وحدَّد التقريرُ أن نقطة الانطلاق في تنفيذ هذا المشروع والنقطة الفاصلة "هي "العراق"؛ فإذا نجح المشروع الأمريكي في "العراق" تمّ الانتقال إلى دول أخرى، وإذا أخفق سقطت هذه الخرائط الأمريكية برمّتها، لذلك أمريكا تدخلت على أسرع ما يكون من أجل منع الدولة الإسلامية من تفجير المخططات والخرائط الأمريكية التي جعلت من استقلال كردستان نواة لها في المنطقة، وبالجملة فإن أمريكا تثبت يوما بعد يوم أنها لا تملك سياسة محددة تجاه الشرق الأوسط، بل هي فقط تتبني وجهة النظر الصهيونية وتعمل على تحقق ما يريده الكيان الصهيوني في المنطقة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق