الأحد، 22 فبراير 2015

الدكتور محمد عباس يكشف سر التسريبات


الدكتور محمد عباس يكشف سر التسريبات


إحدى القصص المذهلة للدكتور محمد عباس الذي يختلط فيها الواقع بالخيال والصحو بالأحلام والذي يتنبأ فيها بالتسريبات ويكشف سرها:

الوزير (سنة 1 ق.ف. )*



في ذلك الزمن الغابر, السحيق الساحق, الذي تفصلنا عنه هوة سحيقة من الألم والشقاء والمهانة, كنت وزيرا في بلاط الملك , ففوجئنا برئيس الوزراء يدخل علينا هلوعا يهمس في صراخ أو يصرخ في همس :
- لقد استبد الغضب بالملك..
غرقنا في رعب هواجس الإقالة والفضيحة والحرمان من كل نشوات السلطة الحلال والحرام, وواصل رئيس الوزراء همسه الصارخ وصراخه الهامس :
- كل أسرار المملكة مسجلة عند الأعداء, كل أسرار المملكة.
رحنا نتبادل النظرات الزائغة في روع وقد هدتنا مصيبة فادحة لم نعرف بعد كنهها وتفاصيلها وأخذنا نهدئ من انفعاله كي نفهم منه ما حدث, لكن داعيا جاء يستدعينا إلي الاجتماع الذي يرأسه الملك بنفسه .
عند مدخل قاعة الاجتماع فوجئنا برئيس المخابرات بشحمه ولحمه يقف عند بوابة إليكترونية, طلب منا أن نمر من خلالها فامتلأنا بإحساس غامر من المذلة والمهانة, وأنذرتنا الشواهد بسوء المصائر.
نظر الملك إلينا ساخرا -والعجيب أن شبح ابتسامة كان يلوح علي محياه الكريم - وهو يقول :
- كل أسرار المملكة مسجلة عند الأعداء, كل أسرار المملكة..
راح يسرد علينا كيف أن كل خططنا لمقاومة خطط الأعداء قد ذهبت أدراج الرياح عندما جلس يتفاوض معهم, فإذا بهم يعرفون كل شيء, كل شيء, فحاول أن يقاوم وأن ينكر, لكنهم أتوا له بتسجيلات كاملة لاجتماعاتنا, سُمع فيها حتي وجيب قلوبنا. أشار الملك إشارة خفيفة فأحضروا جهازا للتسجيل أداروه فإذا به أحد تلك التسجيلات, وقال الملك :
- علي سبيل النكاية والزراية أعطوني نسخة من تسجيلاتهم.
أسقط في أيدينا.
قال رئيس المخابرات أنه سيبحث الأمر, سيتقصاه, سيستجوب البشر والحجر والشجر, وسيتنصت حتي علي دبيب النمل, حتي يصل إلي حقيقته.
خرجنا من الاجتماع نرتجف وقد بلغت أرواحنا الحلقوم.
في الأيام التالية, تم استبعاد المعاونين والخدم, بعد تقص مستفيض قال رئيس المخابرات أنه لم تكن لديه شبهة حقيقية فيهم لكنه درءًا للذرائع لم يترك ثمة شبهة إلا بحثها.
تم فحص المكان بأدق الأجهزة, واستبعدت احتمالات التسجيل عن طريق تسليط حزمات من أشعة الليزر, فقد كان المكان محصنا ضدها, كما تم استبعاد احتمال التسجيل عن طريق الأقمار الصناعية التي كان جهاز مخابراتنا العظيم قد نجح في الشوشرة عليها.
جمعنا رئيس الوزراء ليقول لنا أنه عاجز عن مواجهة الملك بعد أن فشلت جميع محاولاته في اكتشاف الثغرة الخائنة التي تتسرب منها أسرارنا إلي الأعداء, و أنه علينا إما أن نساعده في البحث عن سبب للمصيبة و إما أن نقدم استقالاتنا, لأنه لم يعد سوانا محل اشتباه.
 قلت لرئيس الوزراء غاضبا:
- إذا لم يكن الوزير محل ثقة فإن أحدا لن يقبل المنصب بعد ذلك.. فأجاب رئيس المخابرات في أسي :
- علي العكس تماما ...
غطي ضجيج الوزراء علي محاولات الاحتجاج وراح كل منا يدلي بدلوه.
في اليوم التالي جمعنا رئيس الوزراء علي عجل وفوجئنا باضطرابه وتلعثمه حتي فوجئنا بدخول الملك مجتاحا كإعصار مشتعلا كبركان هادرا كطوفان فصرخ بنا بصوت الرعد:
- من منكم الخائن ؟.
ثم أمر بجهاز تسجيل وأمر بوضع شريط فيه فإذا بكل ما دار في الاجتماع الأخير مسجل عليه, وقال رئيس المخابرات أن خطابا مرفقا مع شريط التسجيل هدد بأن وقائع اجتماعاتنا يمكن أن تذاع حية علي شبكات الإنترنت , في بث مباشر, بل وأنذر الخطاب بأنهم قد يبدءون من اجتماع تالٍ في بث أصواتنا بعد معالجتها كي تُسمع أصواتنا دون أن تُفهم ألفاظنا, وأنهم لن يعلنوا عن ذلك, لن يفضحونا, لكننا نعلم وهم يعلمون, وعند اللزوم سيكشفون كل شئ!!..
ملأنا الرعب وشلنا الخوف و أغرقنا الذهول,
وقال رئيس المخابرات :
- الخائن إما واحد منا أو قريب جدا إلينا ..
انطلقنا يجللنا العار وتخيم فوق رؤوسنا حيرة.
أخذ رئيس الوزراء يجرب كل حيلة كي يكشف الخائن الأثيم .. فمرة يدعونا إلي مكان غير متوقع لاجتماع مفاجئ, ومرات تقتصر الدعوات علي البعض دون البعض الآخر, لكننا في كل مرة كنا نفاجأ بعد يوم أو يومين, بشريط تسجيل لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها, فحصوا أحذيتنا وملابسنا وعويناتنا وأقلامنا وحقائبنا, وامتد الفحص -بعد إذننا- إلي سياراتنا ومكاتبنا, وحتي إلي منازلنا .
قال وزير البحث العلمي أن وسائل المخابرات قد تقدمت إلي الحد الذي يستطيعون فيه زرع جهاز إرسال لا تراه عين في إطار نظارة أو في حلية علي مثبت رباط عنق أو في أزرار سترة أو حتي في ضرس محشو.
ضعنا جميعا لفحص طبي مكثف ..
قال رئيس المخابرات وقد أوشك علي الانهيار :
- إذا استمر الوضع علي هذا الحال فليس ثمة مناص من اختيار من اختيارين ليس لهما ثالث : فإما أن نتخلي جميعا عن الحكم , وإما أن نتفق مع الأعداء علي أن نسلم لهم بكل ما يريدون, كل ما يريدون دون قيد أو شرط ..
واجهته غاضبا بقولي :
- ذلك واجبك أنت وحدك فلا تتنصل..
قال وكاهله ينوء بهمه :
- أنا شخصيا سأقدم استقالتي إذا لم أكشف سر الخيانة خلال أيام..
تعالت همهماتنا لا يبين منها موافقة أو اعتراض ..
انطلقنا, كل منا في اتجاه, وعلت نبرتنا في الخطابة بين الناس وفي الإدلاء بالتصريحات النارية الملتهبة التي ندين فيها العدو الزنيم ونقسم أننا سنواجهه في كل شبر وسنهزمه, لكننا في نفس الوقت توقفنا عن اتخاذ أي قرارات حقيقية ضده انفصمت نفوسنا بين عداء العلن وخنوع السر, وأصبح الهم الشاغل لكل وزير أن يراجع خطط وزارته لينقيها مما يمكن أن يستفز العدو, انفرط عقدنا وتشتت جمعنا وأخذ كل منا يحارب معركته الخاصة محاولا أن يترك عند الأعداء يدا يذكرونها له عندما يشاءون تفجير الفضيحة, لم يكن أحدنا يقول للآخر ما يفعل ولماذا يفعله, لكننا كنا جميعا نفهم, وكان كل واحد منا يبحث خلف قرارات أي زميل في الوزارة عن السبب الحقيقي, الذي لا يعلمه الناس ونعلمه نحن.
ترامت إلينا الأخبار أن رئيس المخابرات راح يستدعي بعضنا, ولم تتسرب مما حدث بين المستدعين ورئيس المخابرات نأمة, انتثرت بذور الشك بيننا, ولم تعد عين وزير تلتقي بعين وزير, ورحنا نفسر كل تصريح وكل قرار في ضوء وضعنا الجديد, ورحنا بعد كل استدعاء نتوقع إقالة, لكن الاستدعاءات راحت تتوالي ولا جديد 

توقفنا في اجتماعات مجلس الوزراء عن بحث أي موضوع آخر.. قال وزير السلام أنه لا مناص من الحرب, فرد عليه وزير الحرب أننا لا نستطيع أن نحارب بعد أن تشتت جمعنا و أُهدِرت قوانا, ورحنا نتداول في الأمر, وانضم نصفنا إلي وزير السلام ونصفنا الآخر إلي وزير الحرب.
 تعالت أصواتنا فقال الساعون إلي السلام أن للحرب ويلاتها و أننا غير مستعدين لها, وأننا سنضيع الأمة إذا خضناها, و أن هذا كان سبب قرارنا الاستراتيجي بأن تكون حربنا الأخيرة آخر الحروب, ورد دعاة الحرب بأننا نخون الأمة الآن ونضيعها فعلا, بعد أن أصابنا الشلل وأصبحنا عاجزين عن اتخاذ أي قرار, وأن خوفنا من استفزاز الأعداء قد دفعنا إلي النكوص حتي علي ما يحتمل ألا يستفزهم, وأن ذلك كله يدفع بالأمة إلي وضع رهيب, تتحلل فيه وتنهار, وصرخ واحد منا في تشنج أنه إن كان علينا أن نموت علي كل حال فمن الأشرف لنا أن نموت في الحرب بالصواريخ والمواد الكيماوية وأسلحة الدمار الشامل, فذلك أشرف من أن نتعفن ونتحلل حتي الموت ونحن ساكنون ساكتون!!..
عند ذلك حدث شيء غريب رهيب, فقد اندفع أحد كبار رجال الأمن إلي قاعة الاجتماع دون استئذان ليقول لنا أن أجهزة الرصد والمتابعة قد التقطت أصواتنا علي شبكة الإنترنت وإن كان رجاله لم يستطيعوا تمييز ما نقول ..
نفض الاجتماع علي الفور دون كلمة, دون تعليق, ودون إكمال للنقاش عن السلام والحرب..
واصل رئيس المخابرات استدعاءاته لنا واحدا فواحدا..
كنت آخر من استدعاه.
كنت غارقا في التوتر فمجرد الاستدعاء دليل علي الاحتمال, والاحتمال مهانة, لم أستجب لملاطفاته وهو يرحب بي ويسألني عن الأحوال والصحة والأولاد, أعرف أساليب هؤلاء الناس مع المتهمين العاديين لكنني لم أعرف أبدا كيف يمكنهم التعامل مع وزير, علي التزام أقصي درجات الحرص إذن فأقل هفوة يمكن أن تضيعني, وما أحوج الملك الآن إلي كبش فداء, واجهت رقته المصطنعة بخشونة :
- فلندخل في الموضوع مباشرة.
فإذا به يواصل السؤال عن الصحة, فانفجرت غاضبا:
- لا شأن لك بصحتي فالموت أهون عندي من هذا الموقف أمامك.
لكنه قال في أسي :
- لكن الأمر في النهاية يتعلق بصحتك ..!!
نظرت إليه مشدوها فواصل :
- منذ أعوام كنت في الولايات المتحدة الأمريكية وأجريت بعض الفحوصات الطبية هناك ..
قاطعته قائلا في خشونة :
- تفاصيل هذا الفحص موجودة في ملفي الطبي لديكم ..
لكنه قال في تؤدة :
- لقد أخفيت عنا عملية صغيرة أجريتها في عيادة طبيب الذكورة الشهير..
شلني الرعب وأخرسني الخجل.
واصل هو قائلا :
- كنت تعاني بعض المشاكل .. زرع الطبيب لك عضوا صناعيا للذكورة..
انفجر الصمت حتي غطي دويه علي كل صوت آخر ..
أحسست صفيرا في أذني وغشاوة أمام عيني . .
قلت لنفسي أن للأذن البشرية مجالا لترددات الصوت لا تسمع فوقه أو دونه ومهما ارتفع ذلك الصوت فلا يمكن للأذن أن تسمعه مادامت تردداته خارج نطاق استقبالها, وأنني ولا شك قد أطلقت صرخة هائلة انصدع لها قلبي, لكنها صرخة لم تسمعها أُذن, لا تسمعها أذن, لن تسمعها أُذن..
قلت لنفسي أيضا أن للجلد البشري قدرة علي تمييز الحرارة في مدي محدود, تستطيع مثلا أن تقول أن هذا الشيء دافئ وأن الآخر ساخن أما الثالث فهو ساخن جدا, لكن, إذا ارتفعت الحرارة إلي ألف درجة, إلي مليون درجة, إلي مليار درجة, إذا ارتفعت إلي ذلك, أو إلي شئ منه, فإن الجلد يصبح أعمي, لأن لحظة الإدراك نفسها هي لحظة التلاشي..
هل كان رئيس المخابرات هو الذي يتكلم وهل كنت أنا الذي أسمع ?.
هل واصل الكلام مباشرة أم صمت مليون عام ثم استأنف حديثه ?.
هل كان هو الذي يقول :
- كانت مخابرات الأعداء تراقبك ونجحوا بطريقة معقدة واتفاقيات متشابكة في زرع جهاز إرسال لا يري في العضو الذي زرعوه لك 
خيم صمت مروع وتخايلت لعيني مشاهد الفضيحة والخراب .. ليست مجرد الإقالة ما تنتظرني, بل المحاكمة والفضيحة والخراب.. وانطلق الصوت داخلي يصرخ:
- خسرت كل شيء . خسر ت كل شيء.
هل قال ذلك ?.
هل كنت أنا الذي قلت له منذ قليل أن مجرد استدعائي أشد من الموت?.
الآن إذن, ماذا يمكن أن أقول? .
أطرقت طويلا وأنا لا أجرؤ علي مواجهته أو النظر إلي عينيه .. تساءلت أخيرا بصوت مهزوم :
- هل تلقي القبض علي الآن .
فوجئت به ينفجر ضاحكا, ثم يقول ببطيء مرّ :
- هل تذكر احتجاجك علي مراقبة الوزراء, حين قلت لك أن الأمر علي العكس تماما..
ثم راح يتمتم كأنما يحدث نفسه :
- ما يحرك الوزير في عمله ليس المثل الأعلي بل خوف الإقالة, وهو لا يثبت علي مقعده إلا إذا اهتزت فرائصه, ولا يستمر استقراره إلا باستمرار اهتزازه..
اعتصر قلبي تحت وطأة ضحكاته الصاخبة, وقلت لنفسي : عليك من الآن أن تحتمل كل إساءة, وأن تبتلع كل إهانة, وأن تصمت علي كل سخرية, لكنه واصل قائلا :
- شر البلية ما يضحك !.
قلت و أنا من الانسحاق في غاية :
- الموقف صعب فلا تطله علي .
واصل هو القول :
- ليت القبض عليك يحل المشكلة!!..
نظرت إليه وقد استبدت بي الدهشة بعد العذاب, فإذا به يقول :
- ربما تعلم أو لا تعلم أنك آخر وزير أقابله .
تطلعت إليه في يأس فقال :
- ما من وزير منهم إلا وهو مثلك !!.
لم أفهم في البداية ما يعنيه, كنت أغرق فلم آبه لغرق من بجواري..رأي هو ملامح عدم الفهم تلوح علي فأكد قوله :
- ما من وزير منهم إلا وهو مثلك !!..
هتفت به :
- ماذا تعني?..
أجاب :
- أعني ما أقول, كلهم, كل واحد منهم كان عاجزا مثلك, وكل واحد منهم عاني ما عانيته أنت, . وفي رحلة إلي أمريكا أو فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا أو حتي إسرائيل, ذهبوا إلي مراكز مختلفة للذكورة و أجريت لهم نفس عملية الزرع. وكلهم, واحدا واحدا, يحملون داخل عضوهم المزروع جهازا دقيقا للإرسال لا تراه عين !!.
ربد الشيطان داخلي, وكدت أنفجر أنا الآخر ضاحكا, لكن ملامحه المتجهمة كبحت جماحي, وانطلق هو يكاد يصرخ :
- ما من وزير إلا وهو مثلك !!.. وليت الأمر اقتصر علي ذلك, فما من وزير سابق إلا وهو مثلك, وما من مرشح للوزارة إلا وهو مثلك, الجميع, لم يتركوا أحدا, من كان وزيرا وكل من يمكن أن يكون..
رحت أنظر إليه مشدوها, وقد حدث لعقلي مثلما يمكن أن يحدث لجلدي لو تعرض لحريق تعدت درجته مليون درجة .
انفجر رئيس المخابرات كشحنة طال كبتها, أو كقنبلة نزعت عنها ذراع الأمان فارتطمت فانفجرت, كرصاصة انطلقت فلا يمكنك مهما بذلت أن تعيدها بعد انطلاقها, مهما بذلت, انفجر وانطلق حتي خيل إلي أنه لا أنا ولا هو ولا الملك نفسه ولا حتي أي قوة في الدنيا بقادرة علي إيقافه عن الكلام :
- إنني لم أكف عن التفكير في الأمر لحظة, لا أفكر في شئ آخر تقريبا, أكاد أُجن, ليس الأمر أمر وظيفتي, ولا عبء مسئوليتي, ولا حتي ما يمكن أن يحل بي من عقاب أو من مهانة, الأمر أبعد من هذا بكثير, لا أستطيع أن أشرحه لك, لأنني حتي لا أستطيع أن أشرحه لنفسي, ما لدي ليس سوي تساؤلات بلا أجوبة, كشريان ينزف بلا توقف, إن صفاء عقلي يغيم, وسرعة بديهتي تتحول إلي حيوان بائس يسير بسرعة السلحفاة في زمن نبحث فيه عما هو أسرع من الضوء, وعندما يعجز العقل فلابد أن تلجأ إلي وسائل أخري, الوعي ليس سيارة تتوقف عندما تفرغ شحنة بطاريتها..لا.. لا تتوقف السيارة عن الدوران وانتهي الأمر, سيارة الوعي لا تتوقف أبدا, أبدا, وهي إن لم تسر بالعقل والمنطق فلابد أن تسير بغيرهما, بالحدس, أو يقين القلب, أو الخرافة, لكننا قتلنا الحدس داخلنا, وليس الحدس سوي بوصلة الروح وموجه النفس وعين القلب, قتلناها في صراعاتنا اليومية بقصر نظر منقطع النظير, بعماء ليس له حد, قتلنا أنفسنا ونحن نظن أننا نحييها, ننقذها, بل وبلغت بنا الغشاوة أن ظننا أننا بذلك ننتصر, ياله من انتصار بائس, لقد كنا كالسكران الذي ينظر في المرآة فيري صورته فيظنها عدوا فيطلق عليها الرصاص, حتي هذا السكران أفضل حظا منا, فكل خسائره لوح زجاج يتهشم, أما نحن فقد كنا نطلق الرصاص علي أنفسنا, وكلما كانت الإصابة أدق كنا نطلق صرخات الانتصار الوحشية , دون أن نعي إلي أن دمنا هو الذي ينزف..
بدا أن الرجل قد فقد عقله, وأخذت أنظر إليه في ذهول, فإنه ليس مجرد رجل, إنه رئيس المخابرات, وإذا فقد عقله فقد فقدت الأمة كلها عقلها الذي به تفهم , وسمعها, وبصرها, ثم : ماذا يريد أن يقول?.. وما علاقة ذلك بما نحن فيه ?.
واصل الرجل حديثه :
-إنني لم أكتشف الأمر الآن, ولم أكتشفه باستجواب الوزراء, كما لم أكتشفه دفعة واحدة, لم يحدث ذلك, بل وُلِدَ في عقلي كما يولد الجنين, كما تعلق العلقة بالأحشاء, دون شعور أو وعي من الأم بذلك, ثم تبدأ الشكوك والإرهاصات, ثم ينفجر اليقين, لقد كنت أعلم منذ زمان طويل بأمر استغلالهم للأجهزة التعويضية بعد استغلالهم للتليفون المحمول وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة الإليكترونية الأخري كي تعمل كأجهزة إرسال تفشي كل أسرار مستخدميها, كنت أدرك الأمر من بدايته, لكنني كنت أظنه عمل مخابرات لا يستعمل إلا في أضيق نطاق, مع مسئول كبير هنا أو هناك, مسئول واحد, اثنين, ثلاثة علي الأكثر, علي الأقل كي يقللوا من فرصة اكتشاف سرِّهم وتدبيرهم, ولقد فطنت منذ البداية أن الأمر معكم هكذا, قلت لنفسي أن المشكلة تنبع من واحد أو اثنين منكم, وفي اليوم الأول عندما جعلتكم جميعا تمرون من خلال البوابة الإليكترونية كنت أتوقع أن أكتشف المصدر لينتهي الأمر, لكن الذهول أصابني عندما اكتشفت أن الإشارات تنبعث منكم جميعا, لم أصدق الجهاز, ولم أصدق نفسي, فسّرت الأمر بخلل في الجهاز, أو بأن الأعداء يبثون شوشرة معينة تجعل الجهاز يعطي إشارات إيجابية مع الجميع كي يشك كل واحد منا في أخيه, لذلك - بعد نهاية الاجتماع - أوكلت الأمر إلي أحد مساعدي, وكانت النتيجة مذهلة, كارثة, فكل من عرضناهم علي الجهاز, لا من الوزراء فقط, بل كل المسئولين الكبار, عندما جعلناهم يمرون دون أن يشعروا من خلال البوابة الإليكترونية, أعطوا نتائج إيجابية لوجود جهاز إرسال داخل أجسادهم, وكدنا نبلغ حد اليقين من خلل البوابة الإليكترونية, لكن ضابطا صغيرا في إدارة المخابرات اقترح اقتراحا وصمناه جميعا عندما سمعناه بالبلاهة والسفه, لكنه أصر علي موقفه فأحضر كيفما اتفق أناسا عاديين من الشارع, وكان المذهل أن النتيجة معهم جميعا كانت سلبية, ولم يطلق الجهاز أي إشارات, برح الخفاء إذن, وانطلقنا محمومين نمسك بالخيط, لم أكن أستطيع أن أطلب لقاء الملك لأقول له ما اكتشفته ببساطة, كان يجب أن أعد تقريرا وافيا شاملا, وأن أشفعه أيضا بقائمة مقترحة بالوزراء الجدد, تعلم أننا في المخابرات دائما نجهز قائمة بديلة للوزراء الحاليين, حيث نضع خمسة أشخاص يصلحون لكل وزارة, ونكتب كل شيء عنهم, نرصد عنهم كل ما حدث لهم منذ أن وُلِدوا, نكتب حتي عمرهم المتوقع وأمراضهم وكيف ومتي يُحتمل أن يموتوا, ولقد كان عليّ قبل أن أطلب لقاء الملك أن أراجع قوائمي, أن أصطنع محاولات لا عدد لها ولا حصر كي ألتقي بهم و أن أجعلهم يمرون من خلال البوابة الإليكترونية, وكانت الفاجعة, فجميعهم يرسلون إشارات, وازدادت الحمي, فاصطفيت من أثق بهم في جهاز المخابرات, واستعنت ببعض أساتذة الجامعة وأعضاء الحزب وبعض كبار المفكرين والصحفيين ليساعدونا في تكوين قوائم بديلة لتشكيل وزارة جديدة, أطلقنا علي هذه المجموعة اسم :"أهل الثقة ", وأخذنا المواثيق عليهم ألا يتطلع أحد منهم إلي منصب وزير, صارحناهم بالكارثة, وطلبنا منهم العون لاختيار وزارة لا يصدر من وزرائها إشارات يلتقطها العدو ليسيطر بها علينا, كدت أجن عندما كوّنا عشرات القوائم من مئات الأشخاص, وعند فحص هؤلاء الأشخاص اكتشفنا أن الإشارات تصدر منهم جميعا, بلا استثناء, كوّنا مجموعات أخري من آلاف الأشخاص, ولم تختلف النتيجة, وهنا جاء ذلك الضابط الصغير الذي اقترح أن نفحص الناس العاديين, جاء ليطلب لقائي علي انفراد, منعتني تجربتي السابقة معه من الاستهانة به, عندما انفردنا واجهني بكارثة جديدة لم تكن قد خطرت لي علي بال, فجميع من استعنّا بهم من " أهل الثقة" كانت تصدر عنهم إشارات, لقد تصرف الضابط بمبادرة منه وجعلهم يمرون من خلال البوابة الإليكترونية, و أُسقط في يدي, لأنني لا أستطيع أن أذهب للملك و أقول له أن عشرات الآلاف الذين يحتلون قمة المجتمع لا يصلحون للوزارة, هل كنت أستطيع أن أفعل ذلك ?!.
نظر إلي رئيس المخابرات وكأنه يلتمس العون مني, كأنما يرجو أن أُقرّه علي رأيه كي يزداد به يقينا, أنا من الغرقي فكيف أستطيع إنقاذك من الغرق?!.. التقط سيجارة وقداحة, أشعل القداحة وقبل أن يقربها من طرف سيجارته توقف فجأة, راح يحملق فيها بذهول من اكتشف أمرا واضحا لكنه غاب عنه العمر كله هتف :
- ليست هذه القداحة وحدها ما يمكن أن تحتوي جهاز إرسال!.. بل والسيجارة نفسها !!... وتلك الذبابة التعيسة الهائمة حولنا قد تكون ذبابة إليكترونية , أو حتي ذبابة طبيعية زرعوا فيها جهاز إرسال لا يُري..!!..
حرّك يده في يأس قاتل ثم أشعل السيجارة واستطرد مواصلا حديثه السابق في غضب يائس :
- هل كنت أستطيع الذهاب إلي الملك لأطلب منه أن يختار للوزارة الجديدة أناسا عاديين نلتقطهم له من الشوارع كي يصدر مرسومه الملكي الكريم بترسيمهم وزراء ?. أم كنت أذهب إليه لأطلب منه أن نعدم خمسين أو مائة ألف من الذين تصدر منهم الإشارات كما نعدم شحنة أغذية فاسدة لا تصلح للاستهلاك الآدمي?!.
فجأة نظر نحوي في ضيق صارخا :
- لماذا لا تجيب, لماذا لا تشير علي ?!..
كانت مشاعري قد استُنزِفت تماما إزاء الانفعالات الهائلة التي اصطخبت بداخلي ذلك اليوم فلم أحر جوابا. أخذ ينتظر مني ردا حتي يئس فواصل :
- لم تقتصر التساؤلات علي ذلك, فقد رحت أسائل نفسي : هل أصاب العجز الجنسي جميع وجوه المجتمع? ولماذا اقتصر علي صفوته ونخبه? لماذا أصاب المسئولين فقط? ثم : هل أصابهم فجأة أم رويدا رويدا? وكيف لم يُفلت منهم أحدا? هل ذلك طبيعي? هل يمكن تخيله أو تصديقه?.. أم أن الأمر أبعد من ذلك? و أنه نتيجة لمؤامرة كونية عن طريق الجينات أو الهندسة الوراثية أو الإشعاع أو حرب كيماوية لم يُعلن عنها? استدعيت أساتذة في علم النفس والاجتماع وطلبت منهم أن يضعوا لي تقريرا عن سلوك النخبة المجتمع, عن التغير الذي حدث فيه, وهل يمكن أن يكون ذلك قد حدث بصورة طبيعية, أم أن الأعداء قد دسوا عقارا ساما في أشياء يعرفون أن النخبة تستخدمها, وبهذه الطريقة أصاب الجميع العجز في نفس الوقت, فعرضوا عليهم الحل : زراعة عضو صناعي حل ينهي جميع المشاكل من جذورها, مشاكل النخبة مع نفسها ومشاكل الأعداء معنا, فلقد أدركوا ما سيحدث عندما يضغطون أقل ضغط أو يمارسون الابتزاز, كانوا يعرفون استحالة تنازل الرجل عن رجولته المفقودة بعد أن يستعيدها, وأنه في سبيل ذلك لا يتورع عن فعل مهما كانت درجته, عن خيانة مهما كانت فداحتها.
كنت قد بدأت أطفو من غَرَقِي و أتجاوز مشكلتي الذاتية إلي المشكلة العامة فهتفت :
- إن ذلك يهدد الأمن القومي..
فإذا به يصيح :
- يهدد?!! بل يسحقه سحقا, ها أنت ذا قد وصلت إلي ما وصلت أنا إليه كرئيس للمخابرات, لكن ما هو العلاج?.. كيف يمكنني أن أتصرف?. ليست مؤامرة عادية أو حتي خطيرة, بل هي انقلاب شامل في الوسائل ليست لدينا أي خبرات أو برامج لمواجهته, إنها مؤامرة علي الجنس البشري, علي التاريخ, علي الفكر, علي الدين الذي ساعدناهم في تنحيته, علي الله ..!!.
كنت أجلس أمامه مشدوها كما لو كنت أري فيلما سينمائيا من أفلام الخيال العلمي وقد تحول الخيال فيه إلي واقع. وصرخ هو :
- ليس لدينا حل علي الأقل هنا في جهاز المخابرات, الأمر يحتاج إلي وسائل أخري, وهي وسائل لا نملكها وليست لدينا أي فكرة عما يمكن أن تكون,, فهل يمكن أن أذهب إلي الملك لأقول له ذلك وكيف!!..
***
عندما انصرفت لم أكن أدري هل تركت الرجل يحادث نفسه أم أنني ودعته كما ينبغي لمن في مثل وضعنا, وداع وزير لوزير,
في الشارع دهمني الفضول فجأة, فكدت أعود إليه لأسأله :
- " هل تصدر الإشارات منك أنت أيضا " ?!..
***
في اجتماع مجلس الوزراء التالي, كانت أبصارنا زائغة وبلغت القلوب منا الحناجر, هل يحضر الملك الاجتماع أم أن رئيس الوزراء فقط هو الذي سيواصل توبيخنا وتقريعنا ..
***
عندما دخل رئيس الوزراء, لم يكن بصحبة الملك, لكنه تلي مرسوما من جلالته بالقبض علي رئيس المخابرات الخائن, بتهمة تدبير مؤامرة خسيسة لقلب نظام الحكم ..
انفرط عقدنا, وانهار وقارنا, وقمنا نتعانق ونتصايح مهللين كالأطفال, وراح كل منا يهنئ الآخر, بزوال دولة المخابرات.. وسيادة الديموقراطية والعولمة وقانون النظام العالمى الجديد..
***

تمت


* ق.ف. : تقويم اكتسح جميع التقويمات الأخري, رغم أن بعضها يوغل في الزمان بضعة آلاف عام, وهو التقويم الذي اتخذ من اكتشاف عقار الفياجرا بداية له, ومنذ ذلك الاكتشاف أصبح الناس يقولون سنة كذا قبل الفياجرا : ق.ف. أو سنة كذا بعدها : ب.ف ..!!..
لمحزن أن اكتشاف العقار السحري لن يحل مشكلة جيلنا, فقد كان يلزم تدمير العضو الطبيعي لزرع الصناعي, وقد كان ذلك يعني أنه لا أمل في جيلنا علي الإطلاق, الأمل في الأجيال القادمة..!!..


ملحوظة: نشرت هذه القصة في صحيفة الشعب المصرية منذ ما يقرب من عشرين عاما
تاريخ النشر: 2015-02-22

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق