السبت، 21 فبراير 2015

معضلة السيسي في ليبيا

معضلة السيسي في ليبيا


خليل العناني*



تمثل العملية الإرهابية التي قام بها الفرع الليبي لتنظيم داعش تجاه مواطنين مصريين أول تحدٍ حقيقي يواجه السياسة الخارجية المصرية خلال عقود. ولا تتعلق المسألة هنا فقط بقتل مواطنين مصريين أبرياء، بل، أيضاً، بحجم الغضب الداخلي بعد العملية، ومحاولة النظام الحالي امتصاص هذا الغضب، حتى لا يتفاقم، ويهدد شرعيته المتدهورة أصلاً.

رد الفعل المصري على العملية كان سريعاً وخاطفاً، وربما مفاجئاً لبعضهم داخلياً وخارجياً، من خلال توجيه ضربة عسكرية جوية على مدينة درنة في شرق ليبيا، أوقعت قتلى وجرحى من المسلحين والمدنيين.
وتعكس سرعة رد الفعل المصري على الجريمة الإرهابية عدة أمور.
أولها محاولة نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي امتصاص حالة الغضب في الشارع المصري، خصوصاً بعد الإدارة البائسة والفاشلة لأزمة اختطاف الرهائن المصريين، والتي امتدت نحو شهرين من دون أي تحرك جاد لإنقاذهم، سواء بالتفاوض، أو بالقيام بعملية استباقية لتحريرهم.
ثانيها، حرص السيسي على عدم خسارة تأييد الكنيسة المصرية له، والتي تعد أحد الركائز المهمة التي دعمت السيسي، ولا تزال، في مساره السياسي.
وثالثها محاولة نظام السيسي القفز إلى الأمام، والهروب من سلسلة المشكلات الداخلية التي طاردته طوال الفترة الماضية، وأدت إلى تدهور صورته وشعبيته (أزمة مقتل شيماء الصباغ، والعملية الإرهابية في العريش، وفضيحة التسريبات، وكارثة ضحايا استاد الدفاع الجوي).
ورابعها محاولة تحسين صورة النظام لاعباً إقليمياً مهماً، وإثبات كفاءته لدى داعميه الإقليميين، بما قد يساهم في استمرار الدعم، خصوصاً بعد التغيرات الأخيرة في منطقة الخليج.

ولعل ذلك ما يفسر حالة "الهياج" الإعلامي التي صاحبت العملية العسكرية، ووصلت إلى درجة من الأسطرة والتهويل، تثير الاشمئزاز، ذكّرتنا بدعاية النظام الناصري في الستينيات، وإن بشكل أكثر فجاجة وأقل مهنية وحرفية. فقد كان نظام السيسي في حاجة ماسة لأي غطاء خارجي، يرفع عنه بعض العبء الداخلي. وأعتقد أنه نجح، ولو مبدئيا، في تحقيق بعض من أهدافه، من خلال الضربة العسكرية الجوية في ليبيا.

وقد ظن السيسي، خطأ، أن بإمكانه استخدام الزخم الداخلي، من أجل الضغط خارجياً، ومحاولة استدعاء التدخل الدولي، من أجل تبرير ضرباته العسكرية في ليبيا.
لكنه لم يلتفت إلى حجم التعقيدات الإقليمية والدولية، وهو ما عكس قدراً واضحاً من الرعونة السياسية، والفشل في قراءة الواقع. 
فمن جهةٍ، لا يوجد اتفاق دولي حول كيفية التعامل مع الأزمة الليبية، المستمرة منذ أكثر من عامين.
حيث ترى فرنسا وإيطاليا أن التدخل أمر ضروري، لحماية مصالحهما الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية مع ليبيا،
 في حين ترى الولايات المتحدة وبريطانيا أن التدخل في ليبيا من شأنه تعقيد الأزمة على نحو أسوأ. 
ومن جهة ثانية، يدرك المجتمع الدولي أن الطريق الوحيدة لحل الأزمة الليبية هو من خلال الحوار، وإشراك كل القوى السياسية، من خلال المبادرة التي يقودها المبعوث الأممي، برنادينو ليون. ومن جهة ثالثة، يدرك المجتمع الدولي مغبة دعم طرف على حساب الطرف الآخر، وما قد يؤدي إليه من مشكلات قد تعقد الأزمة. 
ومن جهة أخيرة، لا يريد المجتمع الدولي القيام بمغامرة جديدة في ليبيا، خصوصاً في ظل تعثر العمليات العسكرية ضد تنظيم "داعش" في العراق وسورية، وعدم تحقيقها نتائج ملموسة، على الرغم من مرور ما يقرب من أربعة أشهر على انطلاقها.


لم يفطن الجنرال السيسي لكل هذه العوامل والتعقيدات، وهو ما جعله يتعاطى مع المسألة الليبية بقدر عالٍ من الرعونة والاندفاع.
لذا، كانت النتيجة الفشل الذريع في استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يدعم تدخله في ليبيا، أو يمنحه غطاء شرعيا.
ولا تنبع معضلة السيسي في ليبيا فقط من كونه يدعم طرفاً في مقابل طرف آخر، وإنما، أيضاً، لسوء إدراكه طبيعة الملف الليبي.
فالرجل يعتقد أن في وسعه استنساخ النموذج المصري في ليبيا، من خلال سيناريو الحسم العسكري والأمني.
وقد غاب عنه أن موازين القوى في ليبيا تكاد تكون متعادلة بين جميع الأطراف، ولا يمكن لأي طرف حسم المعركة لصالحه. كما غاب عنه، أيضاً، أن ليبيا أبعد ما تكون عن سيطرة فصيل واحد عليها، ليس فقط بسبب انتشار السلاح على نحو مرعب، وإنما أيضا بسبب الطبيعة الطبوغرافية والاستراتيجية المعقدة.

معضلة السيسي في ليبيا، الآن، باتت أكثر وضوحا، خصوصاً بعد فشله في ضمان تأييد دولي لعمليته العسكرية هناك. فمن جهة، ليس بمقدور الرجل الاستمرار في ضرباته المنفردة، وإلا اعتبرت انتهاكاً للسيادة الليبية وللقانون الدولي، ما قد يضعه في مواجهة مع القوى الدولية الرافضة هذه الضربات، خصوصاً مع تأثيرها السلبي على جلسات الحوار التي يديرها المبعوث الدولي. ومن جهة ثانية، أي تراجع عن هذه الضربات سوف يؤثر سلباً على صورته المتدهورة التي حاول ترميمها من خلال الضربات الجوية. بكلمات أخرى، أصبح الرجل محصوراً بين خيارين، أحلاهما مرّ. فإما أن يستمر في الضربات والتورط أكثر في المستنقع الليبي، وما يعنيه ذلك من تشتيت واستنزاف قد يصعب إيقافه، أو أن يتراجع، وبالتالي، تتفاقم أزمته الداخلية، ويخسر التأييد الشعبي الذي كان يراهن عليه بعد الأزمة.


* أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. 

عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، 

وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق