الثلاثاء، 24 نوفمبر 2015

«الحضارة» في مواجهة «الهمجية» مرة أخرى!


«الحضارة» في مواجهة «الهمجية» مرة أخرى!

أحمد بن راشد بن سعيد


لم تخرج الاستجابة الخطابية للهجمات التي ضربت العاصمة الفرنسية، باريس، في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) عن السياق الغربي المهيمن والمألوف، إذ جرى وضعها في إطار الحضارة مقابل الهمجية، وهو التأطير نفسه الذي تسيّد الاستجابة لهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)2001 على الولايات المتحدة.
الرئيس الفرنسي، فرانسوا أولاند، وصف الهجمات «بعمل شنيع وهمجي» مؤكداً أن بلاده تخوض حرباً ضد «جبناء»، وليس في الأمر «صدام حضارات».
وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قال إن المعركة ضد تنظيم الدولة (داعش) «معركة بين الحضارة والهمجية؛ بين الحضارة والفاشية القروسطية والمعاصرة في الوقت عينه».
وزارة الخارجية اليونانية قال إن «الهجمات المميتة الجبانة الإرهابية...هجمات على كل العالم المتحضر، وعلى الديموقراطية نفسها».
الرئيس الروسي، فلاديمير بوتن، بعث برقية عزاء إلى الرئيس أولاند جاء فيها: «هذه المأساة برهان آخر على الطبيعة الهمجية للإرهاب، التي تشكّل تحدّياً للحضارة الإنسانية».
مفردات تشبه بشكل لافت مفردات لخطاب الذي أعقب هجمات 11/9، إذ صرّح الرئيس الأميركي آنذاك، جورج بوش، أن «مجموعة من الهمج» أعلنت الحرب على أميركا التي ستشن «كفاحاً ضد الهمجيين»، و»لا بد أن تكسب الحرب ضد سلوك همجي». 
وفي خطاب ألقاه في منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي بمدينة شنغهاي الصينية (20 تشرين الأول/أكتوبر 2001) قال بوش مكرّساً ثنائية «الحضارة» و «الهمجية»: «هذا الصراع قتالٌ لإنقاذ العالم المتحضر، ولا يوجد مكانٌ يبتهج الناس المتحضرون فيه بقتل الأطفال والتسبب في وجود اليتامى» (كل مفردات «الهمجية» في هذا المقال هي ترجمة لكلمة «بربرية» barbarism؛ نظراً إلى أن هذا هو المراد باستخدامها، وللابتعاد عن دلالاتها الخاطئة لتي تنسب الوحشية إلى جنس البربر أو الأمازيغ).
بعد 9/11 (في عام 2002)، نشرت مرينا لورنتي، أستاذة اللغة الإسبانية بجامعة لورنس الأميركية، مقالة تناولت فيها ثنائية «الحضارة» و «الهمجية» متسائلة: كيف يجلب مفهوم «الحضارة» إلى الذهن مفهوم «الهمجية»؟ وما المقصود «بالحضارة» و»الهمجية» في سياق 9/11؟ وكيف يعمل التضاد بين «الحضارة» و»الهمجية» بهذه الدرجة من التأثير؟ لا بد في البدء، بحسب لورنتي، من النظر إلى التركيب الثنائي للغة؛ إذ يوجد غالباً ضدٌ لكل اسم ونعت وظرف وفعل، وينطوي هذا التضاد في العادة على انتقاص مصطلح وتفضيل آخر. التباين بين المصطلحين حقيقي؛ إذ يفتقر أحدهما إلى شيء يُجسّده الضد. إن أضداداً مثل رجل/امرأة، خير/شر، بدائي/عصري، وغرب/شرق، هي أمثلة مشهورة على الطريقة التي يعمل بها هذا النظام الثنائي.

في حال الحضارة (الغربية)/الهمجية (الشرقية)، فإن المصطلح الأخير، هو المُنتَقص. كيف أصبحت «الهمجية» اللفظ المُنتَقص؟ تجيب لورنتي إنها «قصة الطريقة التي أصبحت فيها الأمم القوية (الغرب) تمارس سيطرتها الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية على بقية أنحاء العالم». 
اللغة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ والسياسة. إنها قصة طويلة وقديمة قِدَمَ التركيب الثنائي نفسه للغة. بيد أنها أيضاً قصة بُنى اجتماعية وقُوى ينبغي نقض بنيانها وتفكيكها. يستحيل التخلص من النظام الثنائي؛ بحسب لورنتي، لأنه يحدّد الطريقة التي تُفهم بها كلمة بالنظر إلى علاقتها مع كلمات أخرى؛ إنه نظام الأضداد. ما لا يفعله هذا النظام هو انتقاص مصطلح في مقابل ضده؛ وذلك عمل الإيديولوجية المهيمنة في زمان ومكان محدَّدَيْن.

يتداعى إلى الذهن، من خلال استعمال ثنائية «الحضارة» و «الهمجية»، أن سلوك «الإرهابيين» أو الهمج الجُدد» تُوجّهه، بصورة يتعذر ضبطها، الغرائزُ الشرسةُ ذاتها، التي سيطرت على أسوأ «الهمج» القدماء، بمن فيهم أتيلا الهون، وجنكيز خان.

منذ اللحظة التي صنّفت فيها إدارة الرئيس بوش مقترفي هجمات 9/11 بأنهم «همج»، جرى ربطهم ربطاً مباشراً بأساطير أعداء سبَق وجودهم وجود الولايات المتحدة ذاتها، وتداعت إلى الذهن صور جيوش قبائل رُحَّل ممتطية صهوات الخيل لفتح أوروبا في القرن الخامس عشر.
اتساقاً مع هذا الخطاب، تضيف لورنتي، فإن «الرجال الذين هاجموا برجي مركز التجارة العالمي والبنتاغون هم «أتيلا وجنكيز خان» ما بعد الحداثة، مستخدمين خيولهم الطائرة لتدمير الرمزين – أحدهما اقتصادي والآخر عسكري – اللذين يشكلان قاعدة العالم المتحضر الراهن».
تشير ثنائية «الحضارة» و «الهمجية» إلى انقسام مصطنع بين «الحضارة الديمقراطية (الغربية)» وبين «الحضارة الشمولية (الشرقية)»؛ الأولى تُجسّد الحرية والرخاء والاستقرار، والثانية تشير إلى القمع والفقر والاستبداد.

 إدوارد سعيد تناول في كتابه «الاستشراق» هذه الثنائية بالقول إن الإنسان الغربي، يمثّل ما يكون عليه، ما دام هناك في الجانب الآخر من الأرض شخص شرقي. الغرب موجود لأن الشرق موجود؛ لا يمكن أن يبقى أحدهما من دون الآخر؛ نظراً لأن السمة التي تميّز كلاً منهما هي أن أحدهما ليس الآخر.
هذا التقسيم قديم ويتجدّد كلما حدث اشتباك بين «الطرفين». إذا كان العرب والمسلمون، على سبيل المثال، «همجاً»، فإن الغربيين تلقائياً يصبحون «متحضرين». 
الأوروبي يتصدّر الحضارة عندما يكون الشرقي نقيضها. هجمات 11/9، تفجيرات لندن، هجوم شارلي أيبدو، هجمات باريس، كلها شواهد على «همجية» من عصور سحيقة تريد تدمير الديموقراطية و «طريقة الحياة»--رؤية تشكّل امتداداً للإرث الاستشراقي الذي منع الغرب من معرفة أكثر نضجاً وعدلاً للشرق، والخلاصة، كما يشير سعيد، أن الغرب بسبب هيمنته وكولونياليته أراد توثيق الشرق، فانتهى إلى توثيق نفسه.
إن أصل لفظ «الغرب» مرتبط بوجود الشرق، كما تقول مرينا لورنتي، أستاذة اللغة الإسبانية بجامعة لورنس، فكلاهما يعطي معناه الخاص به للآخر، لأنهما يشكّلان تركيبة ثنائية. 

«الغرب» هو كل ما ليس «شرقاً»، والعكس صحيح. و»الشرق» هو المصطلح المنقوصة قيمته في هذه الثنائية.
ثمة أساطير تُنسب حصراً إلى الغرب، كالموضوعية وتغليب العقلانية على العاطفة.
 الأسلحة النووية يجب أن تكون في أيد غربية (أو على الأقل غير عربية أو مسلمة)، فهي لن تكون مأمونة بسبب وقوعها في «الأيدي الخطأ».
جرائم العنف التي يرتكبها غربيون (وبيض تحديداً) لا تُوصف عادة بالهمجية؛ كجريمة تيموثي ميكفي مفجّر مدينة أكلاهوما، ربما بسبب انتمائه إلى الجزء «المتحضر» من العالم.
 حتمٌ على الغرب إذن، كما تقول لورنتي، أن يُعرّي وهم الوجود المفترض لشرق يمثل الهمجية مقابل غرب متناغم، مُوحّد، وقوي، لاسيما أن الغرب مصطلح تجريدي، فلا يوجد «كيان حقيقي (مثل دولة قومية) تقيم فيه قوة الغرب بالفعل. هناك، بدلاً من ذلك، شبكة من الحكومات والشركات العابرة للحدود، والمؤسسات المالية التي تقرّر المستقبل الاقتصادي لعالمنا، وهناك دولة بوليسية عسكرية سجَّانه تحكم فوق رؤوسنا».
الصراع الحقيقي ، ليس بين «الحضارة» «والهمجية»، ولكن بين نُخَبٍ قوية وبين الذين لا حول لهم ولا طول من شعوب العالم. إن الهجمات التي تتعرض لها دول غربية ليست ناتجة من فقر المهاجمين أو عن «أصوليتهم»، بل عن «عجزهم النابع من المهانة؛ الفشل في أن يصبحوا مفهومين، وعدم قدرتهم على إسماع أصواتهم»، هذا هو التحدي الحقيقي الذي يجب أن يواجهه العالم «المتحضر» بحسب لورانتي.
ختمت لورانتي مقالتها النقدية للسياسة الأميركية بعد 11/9 بهذه الكلمات: «منذ زمن ونحن (في الولايات المتحدة) بلا ديموقراطية. كما أننا لم نمتلك حرية حقيقية أيضاً، ولكننا نعرف الآن. لقد وضع 11 أيلول (سبتمبر) الحقيقة الجلية أمام أعيننا على الشاشة في غرف جلوسنا؛ لأنه عندما انهار البرجان، انهارت أيضاً خدعة الديمقراطية. هذا هو نداؤنا «المتحضر». لنبدأ في استرجاع صوتنا الديمقراطي في مجلس الشيوخ وفي الكونغرس، ولنسْمَعْ الأصوات «الهمجية» للمحكوم عليهم باللعنة، مستهلّين أخيراً حواراً يكون فيه مواطنو النُّخَب الأقوياء المتحضرون من أرجاء العالم كافة محاورين صامتين، ويُعبّر المواطنون المتحضرون المغلوبون على أمرهم من كل بلد في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، عن أنفسهم بحرية، وعلى نطاق واسع».
من 11/9 وحتى 13/11 لا يبدو أن المشهد اختلف كثيراً.
• @LoveLiberty

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق