الأربعاء، 1 أغسطس 2018

هل الحركات الإسلامية تدعم النظام الدولي أم تقاومه؟! (2)

هل الحركات الإسلامية تدعم النظام الدولي أم تقاومه؟! (2)

محمد جلال القصاص
باحث دكتوراة علوم سياسية
في المقال السابق عبرت عن قلقٍ تجاه العلاقة بين الحركات الجهادية والنظام الدولي، وصغت هذا القلق في سؤالٍ يبحث عن طبيعة العلاقة بينهما: هل هي علاقة صراعية -كما تبدو- أم تعاونية؟!، وفي إطار توضيح سبب السؤال عرضت عددًا من مشاهد الجهاد ضد النظام الدولي في أفغانستان، والبوسنة، والشيشان، وغيرهم. وكيف أنها اشتركت في الظهور المفاجئ والدعم من قبل بعض الأنظمة ثم الاختفاء المفاجئ؛ وحاولت تفسير هذه المشاهد بما تبين منه أن العلاقة بين الطرفين تعاونية وإن لم يقصد الجهاديون، ووقفت عند تحليل مشهد غزو أفغانستان أكتوبر 2011.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وفي إطار تمدد الغرب المنتصر في الحرب الباردة شرقًا يسعى الغربيون لحصار الصين (الخطر المتوقع)، وفي هذا السياق يبحثون عن موطئ قدم (قواعد عسكرية) في دول الجوار الصيني وقد استطاعوا ذلك من خلال الحرب على أفغانستان، فكانت طالبان وكانت القاعدة وما أقدمت عليه في سبتمبر 2001 مبررًا قويًا لوضع الغرب قواعده العسكرية على أبواب الصين، كخطوةٍ أخرى في محاصرة الصين واستعدادًا للحرب معها على أرض غيره من جيرانها؛ وكلما أراد زيادة قواته على حدود الصين تحدث عمليات نوعية للطالبان، أو يتحدث عن تهديد لقواته بعد عمليات الطالبان ومن ثم يحشد مزيدًا من العتاد والجنود، وهذا يفسر بشكل صحيح الحديث عن وجود تهديد من طالبان للأمريكان وحلفائهم.

واستنطق الغرب بعد الحادي عشر من سبتمبر 2011 خبراءه، فكانت الوصية تدمير حواضر المسلمين والقضاء على قدراتهم الكامنة كما فعل التتار من قبل، ليخرج المسلمون من ركب الحضارة كما أخرجهم التتار من قبل، وهذا ما قاله برنارد لويس في كتابه (ما الخطأ؟)؛ والحقيقة يوجد سببان آخران لم يذكرهما برنارد لويس لخروج المسلمين من ركب الحضارة، هما: انشغال المسلمين ببعضهم إلى حد القتال (الصفويين، والمماليك والعثمانيين)، وتدمير القاعدة المعرفية الإسلامية والتي هي أساس أي بناء مجتمعي وسلطوي، فالمجتمع والسلطة ترجمة لقواعد كلية.
الفكر الاستراتيجي غائب عن المناهج الدراسية في العالم العربي بشكل كبير، ولا توجد مقررات تدرسه كثقافة عامة أو كتدريس أكاديمي، ويكاد يكون محتقرًا في الدراسات الأمنية
والغرب الآن يمتلك قوة، وكلمته مجتمعة، والقواعد المعرفية الإسلامية تم تخريبها؛ بل وتم إنشاء قواعد جديدة غربية تدعي الانتساب للإسلام فالناس الآن ينتسبون للهوية الوطنية الغربية العلمانية لا للدين كما قد كان. والمسلمون يقتتلون فيما بينهم، ولم يبق إلى تخريب العمران كي لا تفيد الحركات الإسلامية المقاومة للغرب من هذه القوة الكامنة وكي يتم إعادة (البناء) مرة ثانية على قواعد الغرب. ولأن الأمريكان أمة الاستراتيجية اتجهوا إلى الإفادة من المسلحين والطامحين سياسيًا والراغبين في الحرية والكرامة، فخربوا العراق والشام واليمن وليبيا بدعوى التصدي للإرهاب فكأن المقاومين تعاونوا مع أعدائهم وكانوا أداة لتنفيذ مخطط عدوهم! والسؤال: كيف تحول الخصم الشرس إلى أداة هدم في يد عدوه الذي يقاتله؟!

يمكننا النظر من خلال مستويين:
الأول: ويعنى بالنظر للحالة الجهادية نفسها والمحيط الذي تتحرك فيه -وتشاركها الصحوة الإسلامية كلها في هذا الملحظ- وخلاصة هذا المستوى من النظر أن الجهاديين تعلقوا بفكرة لم يتأملوها جيدًا، ومن تأمل منهم تراجع عن العمل المسلح إلى التربية والاقتراب من صفوف المجتمع بالدعوة أو العمل الخيري ونبذ العمل المسلح أيده من حيث المبدأ أم رفضه؛ ثم انخرطوا في الفعل ودخلوا في حالة ذهنية.. تصوروا أنهم جند الله وأوليائه وأنهم مستحقون للنصر -مع أنهم يقتتلون فيما بينهم-، وأن ما يتعرضون له من هزائم خطوات على طريق النصر (التمحيص وتنقية الصف).

ثم تضخمت الصورة في حسهم فظنوا أنهم هم الأمة لا أنهم جزء منها يقوم بأحد واجبات الأمة ضد عدوها؛ وبطريقة انتقائية استدعوا من النصوص الشرعية ما يدعم مذهبهم في التفكير والفعل، وساعدهم على ذلك حالة الهوان التي يعاني منها الجميع وما يحدث من انتشاء حين يقتل ويهان الظالم ولو أنه يعود فينتقم بأضعاف ما فعل به. وفي ذات الوقت تدخلت عوامل أخرى خارجية أفادت من الظاهرة لتحقيق مصالح خاصة؛ فالنظم الداخلية استخدمت هذه التيارات فزاعة في وجه الغرب وأداة لفرض القوانين الجائرة (كالطوارئ) على شعوبها، والنظم الإقليمية أفادت منهم في التدخل في شئون غيرهم.

الثاني: غياب الفكر الاستراتيجي، يصح بشكل كبير أن نعتبر غياب الفكر الاستراتيجي متغيرًا مستقلًا (عاملًا مؤثرًا) في حدوث هذه الظاهرة (توظيف الحركات الإسلامية من قبل خصومها)؛ ولمعرفة طبيعة العلاقة بين المتغير المستقل (غياب الفكر الاستراتيجي) والظاهرة محل الرصد والتحليل، علينا بيان المقصود بالفكر الاستراتيجي بشكلٍ مختصر على النحو التالي:

أي حدث له أربع مستويات:الأول: مستوى السياسات، وهي الاتجاهات العامة، أو الأهداف الكلية.
الثاني: مستوى الاستراتيجيات. ويتضح معناها بعد قليل.
الثالث: مستوى ورش العمل (التكتيكي/ الخطط قصيرة الأجل).
الرابع: مستوى التنفيذ (العمل).

بسبب غياب الفكر الاستراتيجي للحركات الجهادية فلقد وقعوا في مصائد عدوهم
                  فحققوا أهداف عدوهم أكثر مما حققوا أهدافهم هم                  

الاستراتيجية تستخدم الإمكانات المتاحة (المستوى الثالث والرابع) لتنفيذ الأهداف الكلية (المستوى الأول). ولا تظهر في النص. كخطة مدرب الكورة في استخدام قدرات لاعبيه من أجل تحقيق هدف كلي (النصر أو التعادل أو الخروج بأقل خسارة). وكخطة لاعب الشطرنج حين يستخدم امكانات القطع من أجل قتل ملك المنافس.

وهذه الأربعة تتواجد في كل شيء، فالتعليم- في أي مكان- له سياسات واستراتيجيات وتنفيذ. وقطاع الصحة له سياسات واستراتيجيات وتنفيذ، وقطاع الأمن.. كل شيء. ومع انتشار مصطلح الاستراتيجية إلا أنه يطلق على التنفيذ لا على معناه الحقيقي (رصد الإمكانات واستخدامها في تنفيذ الأهداف العليا) ويكاد يجتمع أهل التنمية البشرية على هذا الخطأ. كما أن الفكر الاستراتيجي غائب عن المناهج الدراسية في العالم العربي بشكل كبير، ولا توجد مقررات تدرسه كثقافة عامة أو كتدريس أكاديمي، ويكاد يكون محتقرًا في الدراسات الأمنية. بمعنى أن الحركات الإسلامية مصابة بالمرض المنتشر في بيئتها، وهو غياب الفكر السياسي والاستراتيجي.

وهذه بعض الأمثلة من واقع الحركات الإسلامية ككل التي تبين كيف أن غياب الفكر السياسي والاستراتيجي أوقعها في براثن عدوها فوظفها لتحقيق أهدافه هو:
1- تبني فكرة العمران (البنيان) كقيمة عليا والتراجع عن ترسيخ قيمة التوحيد (تعبيد الناس لله) كهدف كلي، والذي هو غاية خلق الإنسان، يقول الله تعالى ذكره: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)؛ فظهر الحديث عن أن الغاية من خلق الإنسان هي خلافة الله في الأرض من أجل تعميرها بالبنيان.. وبذلك سقطت حركة الإحياء الإسلامي في مصائد العلمانية فتبنت فكره مادية.. استهلاكية.. علمانية في جوهرها. وفي الإسلام التعمير ثمرة لاستقامة الإنسان على منهج الله وليس هدفًا أوليًا، كما أن البنيان يترجم قيم كلية راسخة في الأذهان وليس قيمة مجردة في نفسه.

إن استمر تغافل إنتاج نخبة واعية سياسيًا واستراتيجيًا فإن الحالة الإسلامية ستبقى في حسابات غيرها.. موظفة من قبل غيرها حتى وإن كانت تقاتله بالسلاح والرجال
2- تبنى صيغة الجماعة بدل الأمة، فتحولت حركة الإحياء الإسلامي إلى جزء داخل الأمة، ثم جزء داخل "الدولة"، ثم جزء داخل الظاهرة الدينية في الدولة (بعد أن زاحمها الرسميون، والصوفية وعامة المتدينين ممن لا ينتمون إلى الحركة الإسلامية)، فمن مصيدة إلى مصيدة.. بسبب غياب الفكر السياسي والفكر الاستراتيجي.

3- غياب الوعي بخطورة الدولة القومية وأدواتها الأمنية والإعلامية والقضائية والاقتصادية والتشريعية، وجعلهم يتوهمون القدرة على أسلمة الدولة القومية، بل راح الإسلاميون يطالبون الدولة القومية بتطبيق الشريعة الإسلامية!

4- ومن أخطر الأثار المترتبة على غياب الرؤية الكلية والاستراتيجية البعد عن امتلاك الأدوات المادية والمعرفية وحصر الحركات الإسلامية في البعد القيمي الأخلاقي. فالقيم كي تتحول لظواهر اجتماعية لا بد لها من نخبة وأبنية، ولا توجد نخب اجتماعية بالكثافة المطلوبة لتكوين ظواهر، ولا توجد أبنية اجتماعية إلا فيما تسمح به الدولة (كفالة الفقراء والمساكين وهي خدمة للدولة في الحقيقة)، وتركوا مناحي الحياة كلية (الاقتصاد والسياسة والاجتماع....) أو تواجدوا فيها كالعلمانيين، ولذا حين أتيحت لهم الفرصة وأمسكوا بزمام الدولة لم يستطيعوا فعل ما يجب.

5- والنموذج الذي معنا (الحركات الجهادية). فبسبب غياب الفكر الاستراتيجي وقعوا في مصائد عدوهم فحققوا أهداف عدوهم أكثر مما حققوا أهدافهم هم.
مآلات الظاهرة:
إن استمر تغافل إنتاج نخبة واعية سياسيًا واستراتيجيًا فإن الحالة الإسلامية ستبقى في حسابات غيرها.. موظفة من قبل غيرها حتى وإن كانت تقاتله بالسلاح والرجال. وانتاج نخبة يواجه تحديات أهمها:
* احتكار علم الاستراتيجية غربيًا.
* يحتاج التحرك لاكتساب هذه العلوم وتفعيلها مرونة فقهية تسمح بالدخول للمؤسسات العلمانية والانصات لعلمائهم والعكوف على علمهم وإعادة صياغته بما يتناسب مع حركة الإحياء الإسلامي.
وبعد: حولي سؤال ثائرٌ لابد من طرحه، وهو: هل ستبقى الحركات الإسلامية موظفة من قبل عدوها؟! أقدم إجابة في مقال قادم إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق