الخميس، 16 أغسطس 2018

صراع الرهبان.. لمن تقرع الأجراس؟ (2)


صراع الرهبان.. لمن تقرع الأجراس؟ (2)


عبدالله الطحاوي
في 28 سبتمبر 1981 قال الأب متى المسكين في حديث لمجلة "تايم" الأمريكية "البابا شنودة هو أفضل بطريرك متعلم في تاريخ الكنيسة، وأن رسامة البابا شنودة كانت بداية المشكلة؛ لقد حل العقل مكان الإلهام، والتخطيط مكان الصلاة". وقبل ذلك، في عام 1954، كتب الأستاذ نظير جيد، البابا شنودة فيما بعد، في مقدمة كتاب "حياة الصلاة" للأب متى المسكين "حاول إذن أن تقرأ هذا الكتاب لتحوله إلى جزء من حياتك"... وهذه الطبعة من الكتاب هي النسخة الوحيدة التي يراها البابا شنودة صالحة للقراءة، أما النسخ التالية فقد بعدت في رأيه عن روح التعاليم القويمة.


يوسف وأخوته
أما الأب متى المسكين فاسمه قبل الرهبنة "يوسف إسكندر"، وكانت سنة (1919)م هي أول موعد له مع الحياة مع ميلاد المواطَنَة المصرية دستورًا وفكرة. تخرج في كلية الصيدلة جامعة القاهرة عام (1944م)، وافتتح صيدلية في دمنهور بمحافظة البحيرة وكان ميسورًا، لكنه بعد فترة باع كل ما يملك من سيارة وفيلّا، وقرَّر أن يلتحق بحياة التبتل في دير الأنبا صموئيل بالصعيد؛ لأنه أفقر الأديرة وأبعدها عن العمران. والحقيقة أن ذهاب الأب متى إلى الأديرة كان شيئا لافتا في تاريخ الرهبنة، حيث افتتحت رحلته إلى البراراي حقبة الرهبان التكنوقراط؛ إذ بدأت الاديرة تستقبل المتعلمين خريجي الجامعات، وأشهرهم الأنبا "شنودة" والأنبا "غريغوريوس" أسقف البحث العلمي، والأنبا "صموئيل" أسقف الخدمات (قُتِل مع السادات في المنصة).

كان جيلا طموحا سعى نحو تحديث وتطوير الكنيسة والجماعة القبطية، وينتمي هذا الجيل في معظمه إلى شرائح الطبقة المتوسطة من سكان المدن.  وهو الجيل الذي أحدث تحولا في نمط الكهنوت القبطي ودور الكنيسة في حياة الأقباط. أشار البابا شنودة في أحاديث مختلفة إلى طبيعة رجال الدين المسيحي في النمط القديم؛ حيث كانوا أقل حظًّا في التعليم وفي التأثير، وكان الفكر الديني لديهم محصورًا في جوانبه النسكية الروحية. إذ كان معظم الرهبان في الماضي إما من الأميين أو خريجي الكتاتيب المسيحية.

في تلك الحقبة أيضا، كان يدير الشأن القبطي الصفوة المدنية المسيحية، أو وجهاء الأقباط الذين كانوا يتحكمون بالكنيسة ويمثلون المجتمع القبطي، في حين كان رجل الدين والكنيسة في أشد الحالات ضعفا، زد على ذلك نزوع تلك الصفوات إلى التغريب والنمط الحياتي الذي لا يتمثل القيم القبطية المحافظة. وإزاء هذا الوضع كان أمام الجيل الجديد من مدارس الأحد أحد خيارين: إما جذب هذه الصفوات تحت سلطة الكنيسة، أو أن تخلق الكنيسة صفواتها الدينية. وكان الخيار الثاني هو الأقرب.

تيار الأب متى المسكين يرى أن التربية الروحية هي الدور الرئيسي والوحيد للكنيسة، وأن أي أنشطة أخرى اجتماعية أو سياسية هي خروج على تقاليدها، وعلى الكنيسة ألاّ تكون سببًا في انعزال المواطن عمليًّا أو روحيًّا
والمتمعن في هذا التوجه نحو الحياة الروحية، يجد أن الأمر لم يكن مجرد تحولات فردية، بل كانت هناك فكرة ما دفعت إلى تلك التحركات الجماعية. فمعظم هؤلاء تخرجوا من "مدارس الأحد" التي أسسها "حبيب جرجس"؛ وهي مدارس ألحقت بالكنيسة في بدايات القرن العشرين، وكانت تستقطب الأطفال والشباب. وكان من أهدافها إحياء الايمان بالهوية الذاتية وربط الشباب بالكنيسة، وبقضاياها وبهموم المجتمع القبطي وعمقه التاريخي، وأن تعود الكنيسة لتكون هي مركز حياة الأقباط.

لكن إذا أدرنا عدسة التحليل قليلا، سنجد أن شريحة كبيرة من المجتمع المصري، في تلك الفترة، اتجهت لإعادة اكتشاف هويتها الدينية، وأن استعادة دور الدين ظهر على المستوى الإسلامي تواكبا مع سطوعه على المستوى المسيحي. ولم تكن مصادفة أن بدأ بالتوالي ظهور كثير من الكيانات الدينية ذات الطابع الحركي: إسلامية أو مسيحية. نذكر جمعيات الشبان المسيحيين، وكذلك جمعية الشبان المسلمين، ثم جماعة الإخوان المسلمين. وهناك عاملان ساعدا على نمو هذه الحالة، الأولى: موجة التغريب الشديد التي مست الحياة الاجتماعية المصرية، والثانية: حركة التبشير داخل الجماعة المسيحية القبطية لصالح البروتستاتنت، خصوصا المرسلين الغربيين الذين كانوا يوفرون الخدمات الجيدة والتعليم الممتاز. ومن يراجع كتابات الإسلاميين في تلك الفترة، وكذلك آراء الكثير من أعضاء مدارس الأحد، يجد الكثير من الكتابات التي تحذر من هذين العاملين.

والملاحظ أن الوعي نحو الدين بدأ يبرز أيضا حتى عند كثير من المثقفين والتيارات اللبيرالية المتغربة في الثلاثينيات والأربعينيات، أمثال: العقاد وهيكل باشا وطه حسين وغيرهم، وكانت هذه الموجة تشتد مع نهاية الحرب العالمية الثانية. والمتابع الجيد لدورات التدين في مصر يلاحظ وجود موجتين من الاتجاه إلى الدين في القرن العشرين: موجة الأربعينيات ثم موجة السبعينيات.


المسيحية نظام شامل
في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات كان حسن البنا يطالب، عبر مجلة الإخوان المسلمين، بإصلاح الفرد والأسرة والمجتمع، وتقديم الإسلام كنظام شامل في السياسة والاقتصاد والاجتماع. وسيدهش المتابع كثيرا عندما يجد أن الصحفي نظير جيد (البابا شنودة) يكتب في افتتاحية العدد الأول من مجلة "مدارس الأحد" هذه الفقرات: "أجل فقد اعتزمنا أن تكون مدارس الأحد، صدى لصوت الله الرهيب، لإصلاح الفرد، والأسرة، والمجتمع، ليجد هؤلاء جميعا غذاءهم الروحي، والاجتماعي، والأدبي، والعلمي والصحي". وتشخص الافتتاحية سر الفشل العام الذي تمر به الكنيسة وسببه "إبعاد الله سبحانه عن كل ما يعمل في سبيل الإصلاح".

ثم يحدد منهج العمل بقوله:" بيد أنه لكي ننجح، ولكي يكون لكل ما نعمل فائدة، لابد أن يتدخل الله في كل شيء، بل ويكون الله كل شيء، في العلم، في الاجتماع، في الأدب، في الصحة، في المدرسة، في الزواج، في البنين، في الأسرة، في المال، في المعاملة، في الإدارة، في التشريع، في اختيار رجال الدين ورجال الدنيا". ويقول أيضا: "الجهل كل الجهل أن نفصل بين الدين والدنيا، فلا فائدة من دين يقف بعيدا عن أمور حياتنا العامة والخاصة".

مدرسة البابا شنودة فترى أن الكنيسة مسؤولة عن تقديم الأجوبة الشاملة اجتماعيا وثقافيا، وأن العلاقة بين الكنيسة والدولة تتشكل على أرضية الندية                             والضغط والطلبات                                                                                                                      

 كان محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب" يرى أن البابا شنودة يقدم الكنيسة مؤسسة شاملة مكلَّفة بأن تقدم حلولاً لكل المشاكل، وأجوبة لكل الأسئلة المتصلة بالدين والدنيا. والحقيقة أن التشابه الملاحظ بين حضور الدين عند التيارات الإسلامية وعند مدارس الأحد، لاسيما تيار البابا شنودة، هو أمر طبيعي جدا ومتوائم منذ القديم، وقرار الكنيسة القبطية أن تكون شرقية، وأن تكون مصرية، هو قرار متصل بإيمان المصري بدور الدين في الحياة من قديم الأزل.

ومعروف أن عمق المسيحية المصرية كان في طيبة أو صعيد مصر، حيث امتزجت هناك بالروح الثقافية المصرية، كما يقول جمال حمدان. وهي نفس الروح التي أخرجت الرهبنة إلى العالم مع الأنبا انطونيوس، لتكمل مع الجناح السكندري اللاهوتي جسم الطائر الأرثوذكسي، ومن طيبة أيضا تم منح التصوف الإسلامي فكرة المحبة الإلهية على يد الصعيدي ذي النون المصري.

ولكن مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، بحكم موقعها، تأثرت كثيرا بالموجات الفلسفية الغربية التي كانت مكتبتها العظمى مسرحها الكبير، والمتابع للجدل الديني الذي يدور داخل الكنيسة حول طبيعة الاتحاد والشراكة مع المسيح، يجد أنه في أصوله شقاق بين تأويلين لمدرسة الإسكندرية: تيار طيبة، وتيار الفلسفة الروحية. فريق البابا شنودة، وجماعة الأب متى. أما تيار الفلسفة الروحية فيرى أن الكنيسة بعدت عن القاعدة المعرفية واليونانية الأولى، وتأثرت بالبيئة العربية والإسلامية ثقافيا، بينما يُتهم تيار الأب متى من قبل مدرسة طيبة بأنه متغرب متأثر بالفلسفة الغربية.


طبيعة الخلاف السياسي
أما إذا أُخذ الخلاف في اتجاه السياسة، فسيتضح أن مركز الخلاف كان حول دور الكنيسة في حياة الأقباط؛ فتيار الأب متى المسكين يرى أن التربية الروحية هي الدور الرئيسي والوحيد للكنيسة، وأن أي أنشطة أخرى اجتماعية أو سياسية هي خروج على تقاليدها، وعلى الكنيسة ألاّ تكون سببًا في انعزال المواطن عمليًّا أو روحيًّا، فالكنيسة لا تعادي نظامًا سياسيًّا ولا تمالئه.

أما مدرسة البابا شنودة فترى أن الكنيسة مسؤولة عن تقديم الأجوبة الشاملة اجتماعيا وثقافيا، وأن العلاقة بين الكنيسة والدولة تتشكل على أرضية الندية والضغط والطلبات، أو بمعنى آخر، أن تكون الكنيسة وسيطًا بين الدولة والمواطن القبطي، وهو ما يمثله التيار المهيمن على الكنيسة الآن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق