الخميس، 9 أغسطس 2018

صراع الرهبان.. لمن تدق الأجراس؟ (1)

صراع الرهبان.. لمن تدق الأجراس؟ (1)

عبدالله الطحاوي
حتى لحظة دق هذه المقالة على الكيبورد، لم تكشف بعد أبعاد جريمة قتل الأسقف الأنبا أبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار الذي وجد غارقا في دمائه في إحدى بقع الدير ويبدو أنه ضرب على مؤخرة الرأس بآلة حادة تسببت في خروج جزء من "المخ" خارج الجمجمة، بحسب ما جاء في الصحافة.
  
لا يهمنا في هذا المقال أن نكشف من القاتل وليس هذا دورنا، لكن يمكن أن نقترب من أجواء الصراع الكبير الذي دار خلال النصف الثاني من القرن العشرين بين مدرستين مهمتين في الحياة الدينية المسيحية، أعني الصراع الشهير بين الأب متى المسكين الراهب، وتلميذه البابا شنودة حبر الكنيسة القبطية المصرية السابق، وقد كان الاسقف المغدور أحد تلامذة الأب متى ورئيس الدير الذي كان يقيم فيه، أي أن الجريمة وجهت لمدرسة الأب متى المسكين، وأنها دارت على المسرح الذي كان أحد معاقل المعارضة الكنسية الدينية لعقود.

اشتراكية الأب متى
تم استبعاد الأب متى المسكين من المنافسة على الكرسي البابوي عام 1971 بسبب اقتطاع حياة العزلة الاختيارية من حياة الرهبنة، حيث عاش الأب متى فترة من حياته في الصحراء بعيدا عن الدير وبالتالي لم يستوفِ شرط الرهبنة، ويقال بأنه تم استبعاده لأسباب تخص ميوله الاشتراكية الناصرية التي انقلب عليها الرئيس "السادات"؛ حيث فضَّل السادات اختيار رجل دين بالمعنى المهني والحرفي، لكن اتساع هوة الخلاف بين البابا شنودة والرئيس السادات حول بعض القضايا والسياسات، خاصة تمدد الظل الدعوي والخدمي للكنيسة وازدياد وتيرة الاضطرابات الطائفية بالإضافة إلى الموقف من تقنين الشريعة، واتفاقية السلام مع إسرائيل، قرب بين المسكين والسادات.
   
(الرئيس المصري السابق أنور السادات والبابا شنودة)
  
كان الأب متّى يكتب مقالات وأجرى مجموعة لقاءات صحفية حول هذه القضايا موضع الخلاف بين الكنيسة والدولة، برؤية معاكسه عمَّا طرحه البابا شنودة، وهنا لعبت السياسة دورها، وتم استدعاء أفكاره وكتاباته عن ضوابط الدور الديني والخدمي للكنيسة لتصدر من قبل الأجهزة الرسمية للإيحاء أن بجانب الخلاف السياسي مع الأنبا شنودة ظلالاً دينية وانحرافًا عن المسار يجب أن يُقوَّم، وتم التلويح بالأب "متَّى" لخلافة البابا بحسبانه الزعيم المعارض والمصحح الديني لعثرات الكنيسة. رفض الأب متى أن يخلف البابا وكانت إجابته للسادات: "بأن الشخص الذي سيتم تنصيبه بطركًا بهذه الطريقة هو شخص محروم من قبل أن يجلس على الكرسي" وذلك لأسباب تخص القانون الكنسي الذي يحدد أن خلو المنصب مرتبط إما بالجنون أو الفساد المالي أو الأخلاقي أو الهرطقة.

أذكر أنني حصلت على معلومة أثناء إعدادي فيلم البابا شنودة وهي أن الأب متى المسكين توسط لدى السادات لكيلا يحيل البابا شنودة إلى محكمة أمن الدولة العليا لمحاكمته، حيث أعدت النيابة مذكرة قضائية تخص علاقات البابا شنودة بالخارج وبأقباط المهجر واتهامه بالتأليب على الدولة وإشعال الفتنة الطائفية، وقيل: إن الأب متى هو من اقترح تشكيل لجنة خماسية لإدارة الكنيسة بدلا من البابا شنودة، واشترط ألا يكون "متَّى" نفسه من بينها، واستقبل الأنبا  شنودة تشكيل هذه اللجنة بسخرية قائلاً للأنبا صموئيل أحد أعضائها: "إن كرسي مار مرقص ليس دكة حتى يُجلس عليها السادات خمسة من الرهبان".

محاولات الصلح
حاول الأب متى عبر جولات مكوكية أن يقرب بين الأنبا شنودة والسادات إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل، وتسربت شائعات وأقوال تتهمه بالخيانة، وأنه كان وراء نفي البابا شنودة، وتزعم هذه المواقف المتشددة عدد من رموز الكنيسة لاسيما الأساقفة الذين اعتقلهم السادات عام 1981 وهم من أعضاء المجمع المقدس، وساعدت العلاقة الخاصة بين الأب متى والسادات على رواج تلك الأقوال والاتهامات، لا سيما أن النظام منح الدير الذي يقيم فيه الأب متَّى 200 فدان من أجل استزراعها.

ومما زاد سخونة القضية أن البابا شنودة كان من الذكاء الشديد بحيث مرَّر مطالبه الخاصة بالجماعة القبطية بجانب موقف سياسي تلاقى مع موقف الجماعة الوطنية الرافض للتطبيع وزيارة إسرائيل، في حين بدا أن ثمة ارتباكًا يحيط بموقف الأب  متى الذي أيد المشروع الاجتماعي والسياسي الناصري القائم على الاشتراكية، وعن دعوته للجهاد الفكري والجسدي ضد إسرائيل، لتعكس مواقفه المؤيدة للسادات شكًّا في وعيه السياسي، وعدم إدراك للحظة التاريخية، لا سيما أن نظام السادات كان معاكسًا لنظام عبد الناصر في توجهاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
     

  (البابا شنودة والأب متى المسكين)
  
والواضح أن موقف الأب "متَّى المسكين" يتسق مع أفكاره ورؤيته للدور الاجتماعي للكنيسة التي يحصرها داخل التوجيه الروحي فقط، وأن الكنيسة يجب ألا تقف موقف المنادي أو المؤيد للسلطان الزمني؛ حيث تحرك بصفته الراهب الناسك صاحب الشعبية والحظوة الذي لا تعنيه الحسابات السياسية ولا معادلات الصمت والكلام، فما كان يهمه هو اللاهوت والكنيسة لا التاريخ والسياسة.

تعتبر فترة العزلة الاختيارية بعد إبعاده عن البطريركية، ورفضه العودة إلى دير الأنبا صموئيل، والتوحد في وادي الريان من أخصب فترات حياته. وتعددت التفسيرات حول هذه العزلة؛ حيث رآها البعض أنها كانت من أجل مزيد من التنسك والتصوف، في حين رأى آخرون أنها تعكس تمردًا سلبيًّا على القرار البابوي والتكريس أكثر لتياره الذي بدا أنه ينمو سريعًا خارج الإدارة الرسمية في الكنيسة وسط قطاع كبير من الرهبان.

إلى الدير
انسحب الأب متى المسكين من العاصفة السياسية وعاد إلى دير الأنبا "أبو مقار" أقام فيه توسعة عمرانية وزراعية؛ فزاد من 7 أفدنة إلى 300 فدان مزروعة، ثم ألفي فدان.. وأنشأ مزرعة كبيرة للأبقار، وقد ساعدته الدولة كثيرا في ذلك. وفي الدير استأنف نشاطه في التأليف الذي تجاوز الـ 180 كتابًا و300 مقالة، منها شروحاته لأسفار العهد الجديد في 16 مجلدًا، كما ألَّف مجلدًا ضخمًا عن القديس أثناسيوس في حوالي 800 صفحة، ومجلدين عن الرهبنة في مصر في 800 صفحة، وبعض هذه الكتب تُرجم إلى لغات عديدة. وهو صاحب منهج خاص في تفسير الكتاب المقدس؛ حيث يقوم بإعادة ترجمة النص والتعرف على كاتبه، ثم يبدأ في الشرح والتفسير من خلال نصوص الأب الاباء.

ونظرًا للشعبية التي يتمتع بها الأب متى لم يستجب البابا شنودة للدعوات المطالبة بعقابه أو حرمانه، والتي انطلقت من المجمع المقدس الذي ظل بعض أعضائه يتحينون الفرصة لتصفية الحسابات بادِّعاء تجديفه في العقيدة، وإن لم يجرؤوا على مصادرة أي كتاب من كتبه. ولكن عندما أصدر أحد رهبان دير "أبو مقار" كتابًا يؤكد فيه الأصول الأرثوذكسية لكتابات الأب  "متَّى المسكين"، انبرى البابا شنودة للرد عليه في سلسلة من الكتابات؛ فضلاً عن تعليقه في بعض أشرطة الكاسيت على بعض أفكاره التي تقترب في رأيهم من الأفكار البروتستانتية، وأنه متأثر باللاهوت الغربي  ويتبني بعض الأساقفة مهمة تتبع أفكار الأب  المسكين، ومحاكمة الكهنة أو رجال الدين الذين يتبعون أو يروجون لأفكاره وقد وصفه بعض الأساقفة بأنه مبتدع، وهذا ما سوف نناقشه في المقال المقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق