الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

التفسير القدري للأحداث ..جهل في الدين وتغرير بالعقل


التفسير القدري للأحداث ..جهل في الدين وتغرير بالعقل

-معنى التفسير القدري
-خطورته على الدين والدنيا والعمل الإسلامي بشكل خاص

د محمد عياش الكبيسي

عرفت مسألة (الاحتجاج بالقدر) كمدخل من مداخل الزندقة في التاريخ الإسلامي في مسألتين خطيرتين:
الأولى: التنصل عن الالتزام بالأحكام التكليفية الشرعية بمحو إرادة الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، وإحالتها بالكامل إلى الإرادة الإلهية (السماوية). يقول ابن تيمية -رحمه الله-: (وأما المحتجون على القدر بإسقاط الأمر والنهي والوعد والوعيد، فهؤلاء يشبهون المشركين الذين قال الله فيهم: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم..) المجموع 8/453. 
إنه نوع من التبرير الساذج والمبتور، فهؤلاء لو اعتدى أحد عليهم لطالبوا بردّه والقصاص منه ولم يعتذروا له بالقدر، فكيف يحمّلون المخطئ في حقهم كامل المسؤولية ثم يعفون أنفسهم بالكامل عن أخطائهم وخطيئاتهم بحق الله احتجاجا بقدر الله؟
الثانية: هدم الأسباب والنواميس الكونية التي أودعها الله في هذا الكون بحجة التعلق برب الأسباب والتوكل عليه وحده! 
وهذا -كما يقول ابن تيمية-: إن كان المقصود به نفي الأسباب فهو نقص في العقل، فربط الأسباب بنتائجها أمر محسوس ومعلوم ببداهة العقول، فالجائع يفرق بين الخبز والتراب، والعطشان يفرق بين الماء والسراب، وإن كان إعراضا وترفعا عنها (توكلا على الله) فهو نقص في الدين، وهم بذلك بمنزلة من أكل السموم القاتلة وقال: أنا أشهد أن الله هو الذي أطعمني فلا يضرني!
اليوم هناك نزعة ظاهرة لدى بعض المتدينين وحتى من بعض العاملين للإسلام تجنح بهم نحو هذه الطريقة في التفكير وبدرجات مختلفة، أرسل أحدهم هذه العبارة على برنامج للتواصل الاجتماعي: (فقد خاب من تعلق بالأسباب، وأفلح من تعلق برب الأرباب، نسأل الله أن يرزقنا التوكل عليه سبحانه والتعلق به وحده، دون الأسباب..) فردّ عليه الثاني: (التفاتة قيمة، فقد أصبحت دراساتنا وتحليلاتنا للأمور مادّية وليست سماوية..)، وهذه عينة من عينات كثيرة تصادفنا في كل مكان، والدافع الإيماني فيها واضح، ولكن الإيمان المجرد هنا لا يكفي، فأغلب المجتهدين في البدعة لا ينقصهم الإيمان ولا النية الحسنة، وإنما ينقصهم العلم.
إن إقحام (القدر) في تحليل الأحداث السياسية ونحوها والتي تعصف بالأمة اليوم، يحمل فيما يحمل جملة من المخاطر والمجازفات الدينية والدنيوية، ومن ذلك:
أولا: ضياع المقاييس التي يمكن أن نتحاكم إليها، فالقدر غيب محض نتلقى آثاره ولا نعلم كنهه، والتفسير البشري للفعل الإلهي بلا وحي هو قول على الله بلا علم، وهو في الغالب يخضع لتصورات ونزعات شخصية بحسب الانتماء والولاء، فقد رأينا من يفسّر خسارة طالبان والقاعدة في أفغانستان بالتمحيص والابتلاء الذي هو دليل محبة الله لعبده، ويفسر خسارة الإخوان في مصر بالعقوبة الإلهية على تفرّدهم في الحكم وبعدهم عن تطبيق الشرع (إن تنصروا الله ينصركم)، ومنهم من يعكس القضية تماما!! وهناك من يقول: إن ما يتعرض له العراق إنما هو عقوبة إلهية على ما ينتشر فيه من الكفر والبدعة والظلم والفرقة، فيرد عليه آخر: بل العراق رمح الله في الأرض، ورمح الله لا يكسر، إنما هو الابتلاء والتمحيص!
ثانيا: قتل الرغبة في البحث العلمي والتحليل المنطقي، والاستغناء عنها ببعض المقولات الإيمانية العامة، وأذكر قبل أيام جمعنا مجلس عامر بالكفاءات العلمية المتنوعة، وكان النقاش يدور حول سرعة انهيار الجيش في الموصل، وما تبعه من أحداث وتداعيات، وإذا بأخ طبيب يعزو هذا كله إلى (دعاء مظلوم أو مظلومة في جوف الليل)، وهي لفتة إيمانية وروحية -لا شك- ولكنها لم تأت في مقام الموعظة والاعتبار، بل جاءت كتفسير يقابل التفسيرات الموضوعية أو (المادية)!
ثالثا: قتل روح المراجعة والتقويم الذاتي، فضلا عن قبوله من الآخرين، فقد شاع عند الكثيرين من العاملين للإسلام (علينا العمل، والنتائج على الله)، وهذه المقولة أشبه بسلاح ذي حدّين، فهي في حدّها الأول تعطي زخما جيدا للاستمرار بالعمل مهما توالت المحن والنكسات، وفي حدّها الثاني تعفي العاملين من مسؤوليتهم في مراجعة مناهجهم وأساليبهم، ولذلك تجد الخطأ الواحد يتكرر عندهم أكثر من مرة، وهذا ينطبق على أغلب الحركات والجماعات الإسلامية السياسية والجهادية والتربوية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها.
رابعا: اللجوء إلى التشكيك في النوايا، فمع كل حالة فشل لم تدرس أسبابها المادية بدقة، يلجأ البعض إلى إساءة الظن بنوايا العاملين، على طريقة (لو كانوا صادقين لاستجاب الله لهم) وهذه مقولة شائعة، وفيها قدر من سوء الظن المحرّم، وإشاعة الشكوك والاتهامات المتبادلة بلا بيّنة ولا دليل.
خامسا: الوصول إلى حالة من اليأس الداخلي والشعور باللاجدوى نتيجة للتصورات (الطوباوية) التي لا يمكن تحقيقها من مثل مقولة: إن الأمة لا تنتصر مع الذنوب، وهذه مقولة وعظية لا بأس بها لحث الناس على التوبة، لكنها حينما تتحول إلى معيار أو مؤشر حاد للنصر أو الهزيمة، فإننا أمام متاهة مفتوحة لا نهاية لها، فنحن نتكلم عن مليار ونصف من المسلمين، وفيهم من الفرق والمذاهب والتباين النظري والسلوكي ما لا يعلمه إلا الله، وإصلاح هؤلاء جميعا لتحقيق النصر يبدو أقرب إلى المستحيل.
سمعت لأحد الخطباء وهو يقرّع الأمة ويقول: هؤلاء الصحابة وهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتكبوا ذنبا واحدا في معركة أحد فكانت الهزيمة، فكيف بذنوبنا التي بلغت عنان السماء؟! لكن خطيبنا نسي أن الحجّاج الذي بلغ ظلمه عنان السماء قد نصره الله وفتح عليه من البلاد ما لم يفتح على غيره، بينما نجد أتقى الناس في زمانه وأورعهم عليا بن أبي طالب قد انشغل بالفتن الداخلية ولم يفتح الله على يديه شبرا واحدا، وكذلك الثلة المؤمنة في قصة أصحاب الأخدود الذين قضوا حرقا برجالهم ونسائهم وأطفالهم، مع أن القرآن امتدحهم ولم يذكر لهم ذنبا واحدا.
إن الله ينصر من يشاء ويذل من يشاء، ويبتلي من يشاء بما يشاء وكيفما يشاء، لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها، وقد تخفى اليوم لتظهر في الغد، وقد لا تظهر لنا أصلا، فنحن العباد مكلفون بفهم الأمر (الشرع) وتنفيذه، واللجوء إليه سبحانه رغبا ورهبا نستهديه ونستنصره تحقيقا لمعنى العبودية، أما الاحتجاج بالقدر ووضعه في أطر وقوانين محددة نحكم بها على الأشخاص والأحداث فهذا -لا شك- تجاوز على الدين وتغرير في العقل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق