" بعد ألف يوم من المقاطعة، وقفات في أصل المعركة "
محمد إلهامي
دخلت الحملة المباركة -حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية- ألفيتها الثانية بعد أن جاوزت ألف يوم، ما انبعث لها إلا عوام المسلمين وبعض المستقلين من علمائهم ودعاتهم، وطفقوا يحافظون عليها طوال هذه المدة بغير دعم من نظام أو دولة أو حكومة أو حتى مؤسسة دينية رسمية!
بل على العكس، أوحت هذه الحملة إلى بعض أهل العلم والمشيخة أن يُحَوِّلوا هم مجهودها إلى نظام ومؤسسة، فمن رحم هذه الحملة الشعبية العفوية، وُلِدت فكرة "الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام ﷺ" بعد تمام العام من انطلاق الحملة، وهذه الهيئة العالمية قد صارت لها فعاليات ونشاطات، منها هذه المجلة التي بين يديك، مجلة "أنصار النبي ﷺ"، ومنها "أكاديمية أنصار النبي ﷺ"، ومنها مؤسسة البراق لدعوة الناطقين بغير اللغة العربية، فضلاً عن العديد من الأنشطة الأخرى.
والآن وقد جاوزت هذه الحملة ألف يوم، ودخلت في ألفيتها الثانية نحتاج أن نتوقف عند بعض دورس وأمور، نتذكر بها أصل المعركة وسياقها.
يبدو السؤال الأهم والأول قائماً: لماذا يبغض هؤلاء النبي ﷺ ولماذا يعادونه؟ ثم لماذا هم يعادونه بينما أتباعه اليوم ضعفاء مغلوبون وقد سيطر هؤلاء الأعداء على أرضهم ومواردهم بل صاغوا لهم حتى ثقافة الإعلام ومناهج التعليم وألزموهم بأنظمتهم الاقتصادية وأنماطهم الاجتماعية؟!
ثم يأتي السؤال الثاني المكافئ لهذا الأول: ولماذا تبدو هذه الأمة المغلوبة المستضعفة بعد طول الزمن ومع فارق القوة غير مستسلمة ولا قابلة بهذا الغالب؟! لقد كان الفصل الأول في معركة المقاطعة الحالية هو ذلك الفتى الشيشاني الذي انبعث ليقتل المدرس الفرنسي الذي أساء إلى النبي ﷺ، مع أنه في بلد العداء ومجرّدًا من كل قوة، لقد قام فعلياً بعملية استشهادية قُتِل على إثرها.. في هذا الفتى تُختصر قصة الأمة التي تُقاوم بلا أي حساب لميزان القوى، وتكافح وتناطح من ليست لها بهم قوة، ولا تتراجع عن ذلك، كلما هلك قوم خرج آخرون!
(1)
من بديع ما أخرجته العقول البشرية، هذه الكلمة النورانية للإمام ابن القيم، وهو يقول: المعاصي على ثلاثة أنواع: شهوات وشبهات وشرك، فمن أسرف على نفسه في الشهوات وقع في الشبهات، ومن أسرف على نفسه في الشبهات وقع في الشرك. ا.هـ
إنه ما من إنسان يُتبع نفسَه شهواتِها حتى يصل إلى حدٍّ يتشكك فيه في الدين نفسه، فإن الذي تعوّد على تلبية شهواته لا يرى في الدين إلا قيْدًا عليه، ويظل يتسرب إليه التشكك في أحكام الدين، حتى يروق له أن ينبذ الدين على الجملة، فينتقل بهذا من الشهوة إلى الشبهة إلى الشرك. وهو في رحلته هذه لا يبغض شيئاً في هذه الدنيا أكثر من حَمَلة الدين، أولئك الذين تكون مجرد رؤيتهم نوعاً من تنغيص الحياة عليه!
وهذا الإنسان في رحلته من الشهوة إلى الشرك يُنتج لنفسه الأفكار والمبررات والنظريات التي تجعل عمله هذا هو العمل الصحيح المقبول، وهو التصرف الطبيعي البديهي، بل هو التصرف الحضاري الراقي، فمن طبيعة الإنسان ألا يجمع في نفسه التناقض والتعاكس والتشاكس بين أفكاره وأعماله، فإن لم تنسجم أعماله مع قناعاته، لا بد أن تتغير قناعاته لتنسجم مع أعماله.
وفي كتابه المهم "الاغتيال الاقتصادي للأمم"، كشف جون بيركنز أن هؤلاء الرجال المهيمنين على سياسات العالم، لم يعودوا يسعون وراء اللذة والمصلحة فحسب، مع أنهم يملكون أنهار الأموال ويتحكمون في مقدرات الأمم، ولكنهم فوق ذلك طَوَّروا عقائد تجعل أعمالهم هذه هي الحق الوحيد، يقول: "بدأت أفهم أن معظم هؤلاء الرجال (قادة العالم وصانعي السياسة) يعتقدون أنهم يفعلون الصواب. كانوا مقتنعين مثل تشارلي أن الشيوعية والإرهاب قوى شريرة أكثر من اقتناعهم بردود الأفعال المتوقعة إزاء القرارات التي اتخذوها هم وأسلافهم، وأن عليهم واجباً نحو بلادهم ونحو أولادهم ونحو الله حتى يهدي العالم للاقتناع بمذهب الرأسمالية. وهم كذلك متشبثون بمبدأ البقاء للأصلح، وبدلاً من الشعور بالامتنان والاستمتاع بالثروات الطائلة والتحول إلى طبقة متميزة وعدم المعاناة من النشأة في أكواخ من الكرتون -يعملون على ضمان توريث هذه الثروات لذريتهم".
وقد استطاعت الحضارة الغربية المعاصرة كسر سائر الأديان والحضارات، حتى القلاع الحضارية الشرقية مثل روسيا والصين واليابان والهند، قد اكتُسحت حضارياً، حتى صارت مدنها وعمرانها وأزياؤها ونظمها الاقتصادية نسخة من الحضارة الغربية، وصار الصراع بين هذه المراكز وبين الغرب صراعًا على حدود القوى والنفوذ والسيادة، لا صراعًا في أصل التصور لقضايا الإنسان وعلاقته بغيره وبالكون من حوله.
إن القيم الكبرى مثل حب الدنيا واتباع الشهوات واضطهاد الضعفاء والسعي إلى العلو في الأرض قد تواطأ عليها هؤلاء جميعاً، ويلتمسون إلى تحقيقها ذات الوسائل التي اخترعتها وأنتجتها الحضارة الغربية الغالبة. وما بقي في هذه المراكز الحضارية من رواسب شرقية أو صوفية أو فلسفية أو روحانية إنما ينزوي في المعابد والجبال والبرامج الروحية التي يمارسها الناس لإطفاء أشواقهم الروحية في وقت الراحة والإجازة، الذي تمنحهم إياه الآلة المادية الجبارة التي تدير حياتهم وتسيطر عليها.
لم يبقَ في العالم الآن من يُقَدِّم البديل الحضاري، ويهاجم أصل المبادئ التي أسست عليها الحضارة الغربية سوى الإسلام، فالإسلام يقف كصخرة عظيمة كأداء أمام انتشار القيم الأساسية لطغاة العصر، فالله وحده هو صاحب السيادة لا البشر، وهو الذي له حق التشريع ليس الذي غلب من البشر، وهو مصدر المعرفة والقيم لا من كتب الدستور أو سيطر على الإعلام والتعليم ومنافذ الثقافة، وحب الدنيا –في الإسلام- هو رأس كل خطيئة، واتباع الشهوات هو علامة انحلال وفساد وليست علامة حرية ورقي، والتكاثر في البنيان والأموال ليس دليلاً على الصواب بل قد يكون دليلاً على الطغيان، وانفراد الإنسان بالتشريع وبأن يكون مصدر القيم والمعرفة هو شرك بالله وكفر به وجحد له! وهذا العالم ليس نهاية المطاف ولا هو آخر السبيل.
ومع ما فيه المسلمون من الهزيمة والاستضعاف فإن مبادئهم الدينية والروحية لم تكتفِ أبداً ولم تستسلم لأن تكون في الزوايا والتكايا والخلوات والجبال، بل سرعان ما تتحول إلى برامج عملية سياسية واقتصادية واجتماعية تكافح وتناضل في واقع الحياة، وضد هذه الآلة الغربية. وعلى نحو ما يقول علي عزت بيجوفيتش: "ما من حركة إسلامية صادقة مع نفسها ودينها إلا وهي حركة سياسية"!
إن الأخطر من هذه العقائد والأفكار "الخطيرة"، كما يراها الطغاة والمستكبرون الذين يمتصون أموال الشعوب ودماءها، أن هذه العقائد تبعث رجالها ليغيروا الحياة لا ليتكيفوا معها، وهي تلهبهم وتحفزهم على العمل مهما كانت موازين القوى، ولذلك لم ينقطع سيل من "الاستشهاديين" الذين يخوضون المعركة مهما كانت خسارتهم حتمية! وكيف يمكن الوقوف أمام رجل يرى في موته حياة أخرى سعيدة في جنات النعيم؟!
إذا حاولتَ أن تتلبس عقلَ طاغية جبار، وتتقمص روحه ونفسه، فستجد نفسك في لحظة واحدة أمام عداوة مباشرة مع هذا الشخص الذي كان أصل هذا كله: مع محمد ﷺ.. نعم، هذا هو الرجل الذي أخرج هذه الكتائب المتتالية من المقاوِمين، أولئك الذين يتجددون ولا يموتون، يعملون ولا يفترون، وقد تصلبت رؤوسهم وانطوت قلوبهم على دين صلب لا يتزحزح ولا يتشقّقّ!
إن محمداً ﷺ لا يزال يؤرق كل من يريد استعباد الناس وظلمهم، وكل من يريد التربح بالضغط على غرائزهم وإثارة شهواتهم، وكل من يريد سحب هذه الإنسانية من الكرامة التي وهبها الله إياها إلى الانحطاط المادي الذي يريده لها الشيطان وأتباعه.
(2)
لهذا كانت المعركة ضارية منذ لحظتها الأولى، منذ بُعِث محمد ﷺ نبيًّا، فإذا بأصحاب المصالح والشهوات والمنتفعين من استعباد الناس ينقلبون عليه في الحال، وبعدما كان "الصادق الأمين" جعلوه كاذباً وكاهناً وساحراً ومجنوناً!
إن التعريف بالنبي ﷺ من واجبات المسلمين، ونعم، يوجد كثيرٌ من الناس يعادون النبي لأنهم لا يعرفونه فهم يجهلون حقيقته وشمائله، ولكن يجب أن نعرف في ذات الوقت أن أعرف الناس بالنبي ﷺ كذبوه لما ناقضتْ رسالتُه مصالحهم ومطامعهم وشهواتهم، فلا نتوقع -والحال هكذا- أن تكون مجرد معرفة النبي مفضية إلى اتباعه والإيمان به، لن يفعل هذا إلا أسوياء الناس وخيرهم ممن تعلو مبادئه على مصالحه، ويغلب ضميره على غرائزه.
ولهذا، فمثلما كان المسلمون –منذ عصر النبوة- مكلفين بإبلاغ الإسلام وتعريف الناس بنبيهم ﷺ، كانوا مكلفين كذلك بالدفاع عنه ونصرته وتأديب من يسيئ إليه ويعاديه، وكان لنا في صفوتنا الأولى من الصحابة الأسوة والمثل، فهذا عبدالله بن عبدالله بن أبي ابن سلول، قال للنبي ﷺ: "إن كنتَ آمرًا بقتل أبي، فمُرْني أنا بذلك، فما عرفت العرب أبرَّ بأبيه مني".
إن المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الفرنسية والهندية والسويدية، وغيرها، هي لا شكّ عمل عظيم، وقد يدخل في باب الجهاد، لا سيما لمن لا يملك سوى ذلك.. وهي عملٌ يُحيي الأمة وينبهها إلى عظمة نبيها وقدره وواجبها نحوه، كما ينبهها إلى عداوة المنحطين له وبغضهم إياه. وكل هذا مفيدٌ بل جليل الفائدة لأمة يُقصف وعيها ليل نهار، ويُراد لها أن تغفل وتضل.
ومهما كانت نتائج المقاطعة على هذه الدول، فالمعنى الأهم منها هو أن الأمة لا تزال حية، ولا يزال الذي يريد أن يبيع منتجاته عندها محتاجاً إلى أن يحترم مقدساتها.
ولكن هذا كله يجب ألا ينسينا الحقيقة القائمة، وهي أن المقاطعة الاقتصادية وحدها هو فِعْل أمة مهزومة مستضعفة، فالواقع أن هذه المقاطعة لم تشارك فيها حتى حكومات الأنظمة والبلدان "الإسلامية"، بل إن بعض هذه الأنظمة والحكومات عَاكَسَ رغبة الأمة، فذهب يعقد الصفقات المليارية مع فرنسا! ويجدد علاقات الود مع الهند! فما أبلغ هذا المشهد الذي يتجسد فيه قول الله تعالى ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ [آل عمران: 28]، وقوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: 138، 139].
وإذا أردنا حقاً أن نمتلك الأدوات الفعالة للدفاع عن نبينا ﷺ ونصرته، فلن نجد حلًّا إلا أن نتحرر ونقوى، ولن يكون هذا إلا إذا امتلكنا إرادتنا وصارت أنظمتنا وحكوماتنا من اختيارنا، نُنَصِّبُها بقرارنا وأمرنا، فحينئذ يحكمنا من هو مِنَّا، هذا الذي هو مِنَّا هو الذي ينتقض لا شعورياً إذا أسيئ للنبي ﷺ، وهو الذي يبحث قدر طاقته عما يفعل في الردِّ على ذلك.
وفيما قبل هذا التحرر، سيظل كل جهد في نصرة النبي ﷺ مشكوراً، بداية من تغريدة ينشرها محب على شبكة التواصل يُعرِّف بها من لا يعرف، وانتهاء بتضحية الفتى الشيشاني بنفسه ليتهدد به وبأمثاله كل من يفكر في الإساءة! والله أعلم بكل امرئ وطاقته وقدرته، وعلى ذلك يحاسبه، ورسول الله ﷺ سيلقانا يوم القيامة وهو يعرف ماذا بذل كل منا لنصرته، فلن تنفع التغريدة ولا المقاطعة لمن قدر على أقوى منها.
لقد أنزل الله كلاما شديدًا فيمن يتخلى عن النبي ﷺ أو يتولى عنه أو يتكاسل أن يجاهد معه، وهذا الكلام الشديد جديرٌ بأن نُعَلِّقه في بيوتنا وعلى هواتفنا لنتأمله صبحاً وعشيا، كي لا ننسى ولا نغفل أننا في معركة حقيقية، قائدنا فيها محمد ﷺ، قال تعالى:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 20 - 24].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق