الثلاثاء، 2 ديسمبر 2025

الخطاب العالمي حول الأسرة بين الوحي والفكر الوضعي

 الخطاب العالمي حول الأسرة بين الوحي والفكر الوضعي

د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي

راجعت وكتبت في داخل الطائرة أثناء رحلتي الطويلة نحو أمريكا ومن قطر الشقيق

١- في بيوتنا لغتان، لغة ذكوريّة طاغية، ولغة أنثوية مستعلية، فالرجال يريدون مملكة خاصة بهم، تتحول المرأة ومن معها من الأطفال إلي رعايا، والمرأة ترغب مملكة يتحول فيها الرجل إلي تابع لا رأي له، فهو يتمسك في رأيه لفهم استقي منه النصوص الشرعية، فهو يري بأن المرأة ضعيفة خلقت لتكمل الرجل لا لتستقل، وهي تتمسك في رأيها لأنها تستند فيما تذهب إليه من الاتفاقيات الدولية، ومن مشروعات الجمعيات الداعمة للأنثوية.

في رأيي المتواضع، وفيما استفدت من قراءتي للوحي، ومن حكم الزمان، أن الرأيين علي خطأ، والصواب بينهما، فليس البيت مملكة مبنية علي الاستبداد، وإنما علي الشوري والتراضي، ذلك لأنه بني علي عقد، ولا تبني العقود علي الإكراه، بل ولا يستمر البيت إلا بالشوري، وحتي في لحظة فسخ العقد فلا استبداد فيه، بل النص يؤكد بأن الحياة الزوجية مبنية علي المعروف، والطلاق علي الإحسان (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان).

في قديم الزمان، كانت بيوتنا مبنية علي طغيان الذكور، وفي زماننا هذا انتقل الطغيان من عالم الذكورة إلي عالم الأنوثة، فكن علي حذر من الفكرتين معا، فنحن ندعو إلي عالم إنساني مكون من الجنسين معا، فلا الرجل يطغي علي المرأة باسم القوامة، ولا المرأة تطغي علي الرجل باسم التطور، فالإنسانية كالطائر لها جناحان، فلا يمكن أن تحلق الإنسانية في سماء السعادة إلا بالجناحين معا، وكم كان القرآن عظيما حين قرر بأن القاعدة في العلاقة الزوجية مبنية علي التبادل في المعروف (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة)، وكم كان كذلك حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما رائعا في فهمه للآية حين تزين لزوجته فسأله الناس عن سر هذا فقال: أتزين لامرأتي كما تتزين لي، وقرأ الآية.

٢- في بيوتنا صراع لأجل العبث، وقيل كتجربة، الرجل والمرأة ليسا في سلام، ولا في حرب، بل هما في توتر دائم كعلاقة القط بالفئران : (NIN iyo NAKTi colna maha nabadna maha)

كيف هذا يتناغم مع قوله تعالي (وجعل بينكم مودة ورحمة)؟ بل ومع قوله تعالي من قبل (لتسكنوا إليها)، وقوله تعالي (ليسكن إليها)، فالسكن النفسي يعني التوافق النفسي والاجتماعي، ولا تكون العلاقة بحال من الأحوال متناغمة مع التوتر الدائم، ولهذا فلا معنى لنظرية الصراع التي تبنتها المدرسة الغربية في قراءتها الأنثوية الأخيرة، ولا يوجد ما يشهد للتجربة الشعبية التي تؤكد بأن المرأة نقيضة الرجل في كل شيء، بل الرجل من المرأة، والمرأة من الرجل، وهذا ما أكدته الأبحاث العلمية حيث أن الإنسان مكون من كروموسومات تبلغ (٤٦) منها ( ٢٣) تأتي من الرجل، و(٢٣) تأتي من المرأة، ففي كل رجل فيه جزء من المرأة، وفي داخل كل امرأة جزء من الرجل، وما أصدق قول الله تعالي 

(بعضكم من بعض).

الأصل في خلق الرجل والمرأة التشابه، وليس التناقض، ولكن ليس تشابها مطلقا في جميع المستويات، بل هناك اختلافات بيولوجية، وسيكولوجية، اقتضتها طبيعة ووظيفة كل واحد منهما في الحياة، أليس الزمن واحدا، ولكن في داخل الزمن اختلافات اقتضتها الطبيعة، فهناك ليل، وإلي جانبه نهار، ولكل واحد منهما وظيفة (وجعلنا الليل لباسا. وجعلنا النهار معاشا) ولأجل أن يؤدى كل زمن دوره المنوط به كانت الإرادة الربانية حكيمة (والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى)، فالليل له وظيفة، وكذلك النهار، ومع ذلك بينهما تشابه، وكذلك الرجل والمرأة (وما خلق الذكر والأنثى. إن سعيكم لشتى).

نلاحظ في خلق الذكر والأنثي تشابها واختلافا، فالتشابه هو الأصل، والاختلاف هو الاستثناء، والشريعة جعلت الخطاب الصادرة منها واحدا لهما مراعاة لهذا التشابه، وهناك استثناءات للمرأة مراعاة للاستثناء الموجود في الخلق، ولهذا فلا ذكوريّة في الدين، ولا أنثوية في الخطاب الإسلامي، بل هو خطاب إنساني عام (يا أيها الناس)، (يا أيها الذين آمنوا).

لماذا خلق الله المرأة مختلفة عن الرجل في بعض الشيء؟ ولماذا قال تعالي (وليس الذكر كالأنثى)؟ ربما فهم البعض من الآية فهما مغلوطا قد يؤدى إلى تضخيم دور الرجل، وتهوين دور المرأة، ومن هنا يبدأ الصراع، فترفض المرأة المتعلمة هذا الفهم، وليس الدين، ويحاول بعض الرجال الدفاع عن هذا الفهم ظنا منهم ان ذلك هو الدين، والآية وإن لم تكن حكما عاما من الله، وإنما هي حكاية منه لقول امرأة عمران التي نذرت ما في بطنها محررا، فلما وضعت أنثى قالت رب إني وضعتها أنثى، وليس الذكر كالأنثى، ولهذا فالقول محكي وليس تقريرا من الله، ومع ذلك فهو يشير إلي معني هام، وهو أن المرأة لها طبيعة تختلف عن طبيعة الرجل في بعض الوجوه للتكامل لا للصراع، ذلك لأن المرأة شقيقة الرجل، فلا حياة سعيدة وناجحة إلا بهما، وتقتضي الضرورة أن يفهم الطرفان مواقع التشابه، ومجالات الاختلاف.

٣- في زماننا صارت الأسرة مشكلة اجتماعية لأول مرة في التاريخ البشري، فقد صار للأسرة تعاريف كثيرة، فهناك أسرة من معيل واحد، وهناك أسرة من شخصين متماثلين، وهناك أسرة بعقد ديني، وفي بعض البلدان أسرة بعقد مدني، ولدي بعض الشعوب أسرة بعقد مزدوج ( ديني – مدني )، وتوجد في الغرب اليوم أسرة بلا عقد، تجربة جنسية مفتوحة بين شخصين تشبه الأسرة في العيش المشترك ولكنها تتم بلا عقد، ووصف الزواج الفطري بالتقليدي والكلاسيكي، والأنواع الأخرى بالحديثة والمتطورة، يا له من عالم مخيف.

الأسرة باتت مشكلة اجتماعية عالمية في هذه الأيام، ووراء كل ذلك منظمات نسوانية عالمية، ومقررات سياسية، ومؤتمرات كونية، 

والسؤال: إلى أين تسير السفينة البشرية؟ 

وماذا بعد؟ وهل من مشروع ينقذ البشرية من الهلاك المحقق؟ 

وأين موقع المسلمون في هذا التدافع الحضاري؟ وما نوعية الخطاب القرآني والنبوي المطلوب في هذه المرحلة الحرجة؟

ما الذي تغير من المعادلة؟

 هل هذه نتيجة طبيعية للتطور الذي حصل للبشرية حين انفصل العلم عن الأخلاق والدين؟ 

وكيف تحولت الخلية الأولي للإنسانية إلي ظاهرة غريبة تحتاج إلي فهم وتفسير؟

لقد انتقلت الإنسانية كما يقول المفكر المصري الموسوعي عبد الوهاب المسيري من العلاقات التراحمية إلي العلاقات التعاقديّة، فالأوليى كانت مبنية علي الدين والإنسانية، بينما الثانية مبنية على الرؤية المادية، ومن هنا بدأت الإنسانية رحلتها المخيفة نحو المجهول، فربما سيظهر في زمن ليس ببعيد كائن إنساني في مظهره، ومجهول في محتواه، ولهذا فإن الحضارة الإنسانية في خطر، (فلا حضارة بلا أسرة متماسكة، ولا أسرة متماسكة بلا قيم روحية وفكرية، ولا قيم روحية بلا مرجعية عليا للأمة)، وصدق الفيلسوف التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي حين أعلن أن البشرية بحاجة إلي ثورة روحية، فالموت الحقيقي للبشرية لن يكون عبر قنبلة نووية فقط، بل قد يكون عبر الثورة الجنسية، ولهذا تصبح الثورة الروحية ضرورة إنسانية، (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا).

نحن ندعو إلي علاقات مركبة، فالبساطة تتطلب علاقات تراحمية وفطرية، ولكن الحداثة والتطور يحتمان علينا إقامة علاقات تعاقدية، ولكن ليس من النوع الغربي القاتل، الخاوي من كل معني إنساني، ولكنه من النوع الروحي الذي يقوم علي أداء الواجب وطلب الحق، وعلي العفو والإحسان، ولهذا صار من الضرورة دمج العلاقات التراحمية بالتعاقدية.

إن البشرية في زماننا بحاجة إلي الدين الصحيح المبني علي المفهوم الوسطي الصحيح الناتج من كتاب الله، ومن سنة المصطفي عليه الصلاة والسلام، فلا حل لمشكلات الإنسان إلا من خلال ثورة روحية تعيد الإنسانية إلي الإنسان، وهذا لا يمكن إلا لدين يستوعب الحداثة والإنسان معا، فلا يوجد دين بهذا المستوي حسب الخبراء والفلاسفة أمثال محمد أسد، ومريم جميلة، وجارودي، وغيرهم إلا الإسلام.

٤- في زماننا يزداد الخوف من الآخر، ويهرب الإنسان نحو الذات، فلا يجد موئلا آمنا إلا في بيته، فالشارع مكهرب جنسيا، والإعلام بات بلا رسالة، وخاصة المرئي والتقني منه، فهو يمثل الثقافة التي تحولت إلي السخافة، غناء من النوع الفاحش باسم الفن، وهنا فقط وفي زماننا قتل الإبداع الفني، 

كيف نفهم أن يصبح الفن كله غناء؟ 

وكيف نفهم كما يقول العلامة القرضاوي أن يصبح الغناء كله حبا؟ 

وكيف نهضم أن يصبح الحب كله حول المرأة؟ وكيف نقبل من إعلامنا المرئي أن يجعل المرأة وقضيتها كلها جسدا؟

أين الفن الذي يمجد الله، والفن الذي يدافع عن الحرية والكرامة؟

 أين الفن الرفيع الذي يحمل هم الناس كل الناس؟

 أين الفن الإنساني الذي يلتقي مع الدين في بحثه عن المجهول، وليس المعلوم؟

 أين أدب فكتور هيجو؟

 وأين أدب احمد باكثير؟ 

وأين أدب وفن محمد إقبال؟

 اين مسرحيات تولستوي؟

 وأين المسرحيات التي كانت تمثل في مسارح القرن الأفريقي في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين؟

 ولماذا الفن يصارع الدين؟ ويقتل الإبداع؟ ويجعل الحياة عبثا لا معنى لها؟

إن الفنان الأصيل يمثل نفسه، ويحمل رسالة القلم، والريشة، ولا يمثل الجمهور ورغباته، فهذا ليس فنانا، وإنما يقال عنه ممثل، وله في الحياة دور الإلهاء ليس إلا، أما الفنان الحقيقي ينطلق من ذاته إلي موضوعه، ومن الموضوع إلي الذات عبر رحلة عميقة المعني باحثا عن المعني، ولهذا يبحث الناس السعادة والمعني من الفن، وبالتالي يصبح الفنان آنئذ أحد صناع الحياة.

في زماننا، يخاف الناس من المسجد، لأن الأنظمة البالية أبدت تخوفها من الخطاب الإسلامي الوسطي المعتدل، فلم يظهر في المسجد إلا خطابا رسميا يمجد النظام الدكتاتوري، وخطابا داعشيا مخيفا، فهرب الناس من المسجد، وكم وصلتني من رسالة تؤكد لي بأن المصلين في القرن الأفريقي لا يذهبون إلي الجمعة إلا قبل الصلاة بقليل، وهذا دليل علي أن الناس وجهوا وجهتهم غير المسجد، فبعض المساجد لا تعيش في عصرها، بينما البعض تصنع الإرهاب والخوف، فهذا زمن الخوف من الآخر، فلا أمن إلا في المنزل، وأغلب المساجد جميلة في مظهرها، فقيرة في محتواها، ويعيش الناس فيها في زمن آخر غير زمنهم.

في زماننا، لا أمن أيضا في المنزل، ليس الوالد هو الموجه الوحيد فيه، الإعلام بأنواعه صار هو الموجه الحقيقي للأجيال الجديدة، فالجيل الجديد مشغول بشكل خاص بالإعلام الإلكتروني، وما أدراك ما الإعلام الإلكتروني؟

إنه صانع العقل الحديث، وملهم الأجيال الجديدة، وأعظم مرب في العصر الحديث، فالبيت ليس مكانا آمنا تربويا، فقد تحول إلى ساحة عالمية تتصارع فيها الأفكار، فالحركات الفاسدة إنسانيا تجند الناس من خلاله، والغزو الثقافي يسمم العقول من داخله، فكم صار عصرنا مخيفا!!

في زماننا، نحتاج جيلا ذكيا من الدعاة، لهم حضور استثنائي في كل المجالات، في المنبر، وفي الاعلام، وفي الفن، يحاربون الفكر بالفكر، ويواجهون الحجة بالحجة، ولهم صولات وجولات في التفنن في إيصال الفكرة إلي الآخر بكل سهولة وإتقان.

انتهي عصر الخطاب الفائض (الخطاب لأجل الخطاب)، فنحن بحاجة إلي خطاب علمي محكم، وليس إلي كلام صار في الآونة الأخيرة خطابا فائضا لا يحمل في طياته مشروعا ولا رسالة، فهو من باب قل كلمتك فامش.

في زماننا انتشرت الثقافة السنتويدشية، وهي ثقافة في عمومها سطحية، جمال في الشكل، وفراغ في المحتوى، وتفنن في الطرح، وهزالة في البناء، ولهذا صار أغلب الناس يحبون الخطاب الفائض المنزوع منه الدسم، ورأينا خطاب بعض الدعاة متأثرا بحالة الساحة، وهو منكر يجب أن نرفع ضده سلاحنا، وسلاحنا هو العلم والمعرفة، فهيا أيها الجيل الصاعد للتغيير الإيجابي، فقد آن أوانكم، فلا تنتظروا من الجيل السابق أن يعطيكم الفرصة كاملة، لأنه كما فشل في توريث الفكرة إليكم سيفشل في الحوار معكم، فهو جيل حقق بعض النجاح، ولكنه تعثر في فهم المعطيات والمتغيرات، وله اهتماماته الخاصة، ولكم زمانكم واهتماماتكم، فخذوا منهم العبرة، ولا تقفوا عند محطتهم، 

(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق