خطأ مهني جسيم
فهمي هويدي
هل تشكّل المحكمة الدستورية حزبا سياسيا معارضا في مصر؟ هذا سؤال جاد لا هزل فيه، لم أكن لأجرؤ على طرحه قبل إصدار قرارها هذا الأسبوع الذي ألزمت فيه مجلس الشورى بالسماح لضباط وجنود الجيش والشرطة بالتصويت في الانتخابات بحجة إرساء قاعدة المساواة بين المواطنين.
وهو ما اعتبرته كلاما مباشرا وصريحا في السياسة، بعيدا كل البعد عن القانون.
ليس جديدا تسييس أحكام الدستورية، ذلك أنّنا تلقّينا أول رسالة بهذه المعنى في الحكم الذي أصدرته بحلّ البرلمان المنتخب، وتطوّعت بذلك دون أن يطلب منها الفصل في الموضوع الذي أحيل إليها من المحكمة الإدارية العليا، لكن الرائحة التي فاحت في العام الماضي وأثارت شكوك الكثيرين وحيرتهم، تحول الشك فيها إلى يقين هذا الأسبوع، لأن السياسة في القرار الأخير كانت مباشرة، ودخلت علينا من الباب الواسع، ذلك أنّ حجة المساواة بين المواطنين وعدم التمييز بينهم التي استندت إليها المحكمة في قرارها تصدم أي دارس مبتدئ للقانون وتثير دهشته، إذ إنّ القاعدة المتعارف عليها بين القانونيين والتي قررتها أحكام محكمتي النقض والدستورية، أنّ تلك المساواة ليست مطلقة، ولكنها تتوافر في حالة واحدة هي تلك التي تتساوى فيها المراكز القانونية بين مختلف الأطراف، ففي الضريبة التصاعدية مثلا لا يستطيع صاحب الملايين أن يطلب مساواته في قيمة الضريبة التي يدفعها بموظف الحكومة الذي يتقاضى مئات معدودة من الجنيهات، لأن لكل منهما وضعه القانوني الخاص، وفي مصر فإنّ الشرطة والجيش يتولون تأمين الانتخابات، وليس مفهوما كيف يمكن أن يقوموا بتلك المهمة بينما هم يشاركون فى التصويت.
ثم إنّ هناك سؤالا يثار حول ما إذا كان الإلزام الذي دعا إليه قرار المحكمة الدستورية يسري على حق الشرطة والجيش في التصويت فقط أم أنّ ذلك يعطيهم الحق في الترشح أيضا عملا بالمفهوم المسطح والمبتسر لفكرة المساواة الذي تبنّته المحكمة، وفي هذه الحالة فإنّ الحظر المفروض على ترشح القضاة وانضمامهم إلى الأحزاب السياسية يجب أن يسقط أيضا.
الأمر الذي يزجّ بالجميع في أتون الصراع السياسي ويهدد حياد واستقلال المؤسسات الوطنية في البلد.
إنّ قضاة المحكمة قرؤوا المادة 55 من الدستور التي اعتبرت أنّ مشاركة المواطن في الحياة العامة واجب وطني وقررت حق كل مواطن في الانتخاب والترشيح، لكنهم أغمضوا أعينهم عمّا قررته ديباجة الدستور التي تشكّل مفتاح القراءة الصحيحة له، إذ نصّ البند الثامن من الديباجة على أنّ «قواتنا المسلحة مؤسسة وطنية محترفة محايدة لا تتدخل في الشأن السياسي».
والعبارة واضحة وحاسمة في أنّ القوات المسلحة محظور عليها ليس فقط التصويت أو الترشح للانتخابات، ولكن الحظر يتجاوز تلك الحدود بمراحل، يشمل كل ما له علاقة بالشأن السياسي على إطلاقه.
حين تقرأ المحكمة المادة 55 من الدستور وتتجاهل نص ديباجته، فإنّ ذلك يفتح الباب لتساؤلات كثيرة تشكك في براءة الدوافع التي أدّت إلى ذلك، وإذا قاومنا تلك الفكرة وافترضنا حسن النيّة فيما جرى فإنّنا لا نستطيع أن نصف موقف المحكمة الدستورية بأقل من أنّه بمثابة خطأ مهني جسيم يسيء إلى المحكمة قبل أيّ طرف آخر، ذلك أنّه يعيب المحكمة أن تقرأ نصا في الدستور وتتجاهل ديباجته، ويشينها أن تكون قد استوعبت النصين وتعمّدت تجاهل أحدهما كي تحقق غرضا ما.
يضاعف من حيرتنا وشكوكنا أنّ المحكمة الدستورية حين تلقّت مشروع قانون الانتخابات في المرة الأولى فإنّها أبدت عليه خمس أو ست ملاحظات، لم يكن من بينها حكاية الإلزام بالسماح لجنود الشرطة والجيش بالتصويت، إلاّ أنّ المجلس حين أعاد النظر في المشروع وبعث به إلى المحكمة مرة ثانية، فإنّها ضاعفت من ملاحظاتها؛ صار عددها ١٢، وأثارت موضوع العسكريين وتصويتهم، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل: لماذا سكتت المحكمة في المرة الأولى ثم فجّرت الموضوع في المرة الثانية؟
نحاول الإجابة عن السؤال غدا بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق