للأحجار... أرواح
يحكى أن الأمير أحمد بن طولون كان جاداً لا يعبث، وحين شرع في بناء مسجده الشهير بالقاهرة ودون شعور منه بدأ يلف ورقة كانت بيده حول أصبعه ثم انتبه وكره أن يحفظ عليه أدنى غفلة فالقى بالورقة الملفوفة إليهم وقال:
اجعلوا مئذنة مسجدي على هيئة هذا المخروط!
القصة لا تكفي لتفسير شكل المئذنة الجميلة البسيطة المجاورة للجامع الطولوني بالقاهرة والموصولة به عبر جدران خارجية، حيث يؤكد المؤرخون أن الأمير كان مقيماً بسامراء بالعراق وربما ولد بها، ومئذنته وإن كانت فريدة في مصر فهي تحكي المئذنة الملتوية بسامراء إلى حد كبير، وارتفاعها أكثر من أربعين متراً، وفي أعلاها وضع شكل هندسي يشبه السفينة الصغيرة يوضع فيها القمح لإطعام الطيور!
القاهرة مدينة الألف مئذنة وأكثر وهي تحكي حال مصر كلها، والمآذن تسمى الصوامع خاصة إن كانت مربعة، وتسمى المنارات تكريساً للمهمة الجوهرية لها، فهي تبث نداءً علوياً روحانياً يقاوم سطوة المادة ويهدئ ضجيج الحياة وصخبها ويدعو للاتصال بالملأ الأعلى، ومواجهة تحديات العيش بالصبر والسكينة، وكأنها بشموخها تحث السائرين على طلب المدد السماوي كلما ضاقت بهم دروب الأرض.
مدهش أن تنبثق الحياة من الحجارة الصماء عبر صوت المؤذن الجميل المنساب وكما يقول نزار:
وللمآذن كالأشجار أرواح!
ولطيف أن ترتسم النصوص القرآنية على قممها الذاهبة في الفضاء بينما يكتب اسم بانيها وتاريخ تشييدها في مربعها الأدنى.
المؤذن الأول "بلال" كان ندي الصوت واختير ليرقى أعلى بناء ويلقي الأذان وهو إجراء يتضمن الحرب على العنصرية ضد اللون أو الجنس وتذكير الناس كلما سمعوا صوت المنادي أو رأوا بناء المنارة الباسق أن الإسلام جاء ليعلن تساوي الناس أمام العدالة!
أصوات مؤذني القاهرة العذبة كانت من أكثر ما يشد السواح حتى من غير المسلمين فيحكونه لغيرهم أو يخلدونه في لوحات جمالية رائعة كما فعل المستشرق الفرنسي (جان ليون جيروم) في لوحته البديعة المتداولة، وأذان كبار القراء كالشيخ عبد الباسط والشيخ محمد رفعت مازال يشجي النفوس ويهز المشاعر.
مآذن القاهرة تضاهي نجوم السماء في علوها وفي كثرتها، ولعل أول مئذنة كانت في جامع عمرو بن العاص في العهد الأموي، ثم أصبح لكل دولة طراز معماري يمكن التعرف عليه ويتطور من الفاطميين إلى الأيوبيين والمماليك والعثمانيين، وتذهب الدول وتبقى المآذن شاهدة على سنة التحول والتغيير والتداول!
لن يكون صعباً على من يطوف بأحياء القاهرة أن يتذوق جمال الإبداع وروعته وأن يستلهم التوأمة بين المادة والروح والإنسان والكون والأرض والسماء، وربما لمح الهلال فوق المنارة وهو رمز يمثل التقويم الإسلامي المرتبط برؤية الهلال، وكان الناس يتراءون هلال رمضان والعيد من فوق المآذن.
لم تكن المآذن ولا الأهلة موجودة في المساجد الأولى في مكة والمدينة أو البصرة والكوفة ولكنها استحدثت لتحقيق وظيفة المؤذن والمسجد وصارت شعاراً إسلامياً تاريخياً حتى إن سويسرا لما منعت بناء المآذن أثارت ضجة كبيرة مع أنها بلد غير إسلامي.
(مآذن القاهرة) مؤلف جميل احتفت فيه نيويورك ولندن بهذه المعالم المعمارية عبر كتاب في ٣٥٠ صفحة ومئات الرسوم والصور الملونة والمعلومات القيمة التي أعدتها ( دوريس أبو سيف) العاشقة للفنون الإسلامية وأستاذ العمارة والفن الإسلامي بجامعة لندن، وقد استعرض الكتاب أنماط العمارات في الفترات الإسلامية المتعاقبة وتنوعها وغزارتها وثراءها بحيث استحق أن يكون وثيقة تاريخية.
في القاهرة كما في استامبول تنتصب مآذن نحيلة كالحراب أو كأقلام الرصاص ربما كانت تعبيراً عن حركة التوسع والبأس في ذلك الظرف التاريخي الحافل بالصراع العسكري ولذا وصفها الأديب علي باكثير بقوله:
وكم باالاستانة من معانٍ
أثارت في حناياي الشجونا..
ومن ينظر مآذنها يجدها
رماحاً في صدور المعتدينا
ويظل السمت الغالب لمآذن القاهرة مختلفاً عن هذا المعمار معبراً عن الخشوع والضراعة والابتهال والمناجاة والسلام. صوت مآذن القاهرة يقول لأهل مصر حي على الصلاة المؤمنة المتبتلة، ويذكرهم بحي على الجهاد إذا دعا داعي الذود عن الحمى وحفظ الذمار والديار، ويرغبهم في جهاد إحياء النفوس بالعطاء وتقاسم الأرواح (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)
إنه النداء الأجمل ينشر في أجواز الفضاء عبق التفاؤل والأمل..
بقي لمن لم يزر مدينة القاهرة أن يتصفح (جوجل) ويشاهد صور المآذن ليدرك طرفاً مما أدركه المتجولون في أزقتها وشوارعها وحواريها المنقوعة بألق التاريخ!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق