انتحار حزب النور
كما كان متوقعًا من قبل؛ أعلن حزب النور السلفي عن نيته التصويت بنعم على وثيقة لجنة الخمسين التي شكلها قادة الانقلاب العسكري، وذلك على لسان متحدثه الإعلامي "نادر بكار"، ودعوة جموع المصريين للتصويت بنعم على الوثيقة الانقلابية، وذلك على الرغم من انتفاء كل المبررات التي ساقها الحزب من قبل لتسوغ له مشاركته في هذه اللجنة اللقيطة التي شكلت بليل، ووضعت وثيقتها سرًّا، فلا مواد للهوية بقيت، ولا مواد تكريس العلمانية منعت، ولا مكاسب على الحقيقة جنيت، بل إن من المثير حقًّا أن الحزب قد دعا المصريين إلى الموافقة على الدستور، على الرغم من وجود مواد ستقصي هذا الحزب من الحياة السياسية بالكلية، بعد أن حظر تأسيس الأحزاب على أساس أو مرجعية إسلامية، والأنكى والأدمى من ذلك؛ وجود مواد في الدستور ستحاصر العمل الدعوي والخيري والعلمي للدعوة السلفية وغيرها، بدعوى مكافحة الإرهاب، أي أن الحزب من حيث درى أم لم يدر قد كتب شهادة وفاته بيديه، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا؛ فلماذا أقدم الحزب على هذه الخطوة الانتحارية؟
مشهد السيسي وهو يلقي بيان الانقلاب الأول بعد عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي يعبر عن الإعداد الدقيق للصورة التي تم الإعداد لها مسبقًا بعناية فائقة، حيث يجلس ممثلو الأطياف والتيارات السياسية على يمين ويسار السيسي لاستكمال المشهد المسرحي بكل أركانه، عسكر ومدنيون وقضاة وإسلاميون وليبراليون، كل هؤلاء كان حضورهم لازمًا لإضفاء الشعبية والشمولية على مشهد الانقلاب، وإظهار مدى التوافق على عزل الرئيس، إنها حجر الزاوية لبناء القوام الجديد بعيدًا عن النزعات الثورية التي تقض مضاجع من ينتوي البقاء في السلطة لأطول مدة ممكنة. وما أن انتهى مشهد المقدمة في مسرحية الانقلاب حتى عادت القوى السياسية المشاركة فيه، كل إلى مقعده ليمارس دوره المرسوم له بدقة، حيث اتضح من رصيد التجربة أن السلفية المعاصرة بنسختها السياسية ممثلة في حزب النور هي الخيار الأفضل لدى السلطة الجديدة؛ لإضفاء المذاق الإسلامي والنكهة الدينية على طبخة الانقلاب.
فلماذا راهن الانقلابيون على حزب النور تحديدًا؟
السلفية على نصاعتها العقدية، ودفاعها المجيد ضد أي انتهاك لعقيدة السلف الصالح والذي لا ينكر فضله إلا جاحد، لا تملك إرثًا تاريخيًّا وحركيًّا على الصعيد السياسي والشأن العام، فالموروث الثقافي السلفي في هذه المناطق يشوبه كثير من الضبابية والتخبط، في ظل أبجديات خطاب سلفي عريق في الفرار من المناصب، والإنكار على من يشارك في الولايات العامة، وترك الدخول على الأمراء والسلاطين، والزهد في المشاركات السياسية والعامة، خطاب يدعو للزهد في الحياة والترفع عن زينتها والازدراء للعمران والتوسع المدني، خطاب يجعل الأصل في الأمور الورع، مما جعل دائرة الحركة السلفية ضيقة انتقائية ذات معايير ومواصفات حازمة لشكل الحياة العامة والخاصة.
وليس في التاريخ ثمة تجربة حكم وفق المنظور السلفي، نستطيع أن نصفها بأنها تجربة تطبيقية مقنعة، ولا حزمة رؤى متينة وواضحة في الشأن السياسي، وهي مرتبكة في موقفها من السياسة ومحاذرة إلى درجة الضياع والشتات، فهي تأمر أتباعها بالدعوة والجهاد في سبيل الله والصبر على الأذى والمكاره في سبيل إقامة شعيرة مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنها في نفس الوقت تنهى أتباعها عن الخروج على الحاكم مهما كان ضلاله وفسقه وربما كفره خشية الفتنة. كما أنها تتوارى عند أي مشهد تصادمي بحجة عدم تكافؤ القوى، والحفاظ على الكيان الدعوي وحقن الدماء.
فالسلفية المعاصرة غير ناضجة سياسيًّا، وهي في غالب أطروحاتها التاريخية والراهنة تعاني ضعفًا وهشاشة في المحتوى، ومعظم إنتاجها العلمي في باب السياسة عبارة عن رسائل ومحاضرات متناثرة، تلقى في المناسبات من أجل تكريس مفهوم الانعزال السياسي، مما جعل السلفية لا تستطيع أن تقدم إجابات شافية أو رؤى كاملة عن كثير من قضايا الشأن العام، ولا تطرح تصورًا شاملًا عن كيفية التعامل مع مشاكل البلاد وملفاتها الثقيلة، ويزيد الأمر تعقيدًا عند تناول مفردة الديمقراطية التي تتنافس عليها التيارات السياسية عامة لإثبات انسجامهم مع الفكرة وقبولهم بخياراتها الفلسفية والإجرائية.
السلفية دخلت عالم السياسة على عجل، فعلى الرغم من الموقف السلبي من ثورة 25 يناير، إلا إن الدعوة السلفية قد سارعت عقب الإطاحة بمبارك بأيام قليلة بالإعلان عن نيتها تأسيس حزب سياسي والمشاركة بقوة في الحياة السياسية على الرغم من القطيعة التامة مع هذا المجال منذ نشأة الدعوة السلفية المصرية، لذلك كان من الطبيعي أن يأتي حزب النور - الذراع السياسية للدعوة السلفية - فطيرًا طري العود، يسهل السيطرة عليه واستخدامه وحرف مساراته، وهو ما ظهر جليًّا في المواقف المتناقضة التي اتخذها الحزب منذ نشأته، فهو يلح على الإخوان في ترشيح خيرت الشاطر، وفي الانتخابات يساند أبا الفتوح، وفي جولة الإعادة أعلن تأييده لمرسي، وقبل إعلان الفائز كان يجلس في السر مع المرشح الخاسر أحمد شفيق ويرتب الأوضاع معه، وفي لجنة كتابة دستور 2012 نافح منافحة مجيدة من أجل إقرار مواد رأى فيها تأسيسًا لهوية المجتمع، ودفاعًا عن شريعته، وخاصة المادة 219 التي كانت سببًا مباشرًا لانسحاب القوى العلمانية والليبرالية والكنيسة وغيرها من القوى التي وجدت في تلك المادة ضالتها من أجل تفجير اللجنة وإحباط مشروع كتابة الدستور، ولما شارك في لجنة الخمسين تنازل عن كل مواد الهوية بما فيها المادة 219 التي قال عنها قبل المشاركة: "دونها الرقاب"، وبمنتهى الفجاجة حاول تبرير مواقفه المتناقضة بالعثور على حكم دستوري يفسر كلمة مبادئ الشريعة بأحكامها، كأن أحكام الدستورية قرآن لا يستطيع القائمون على الدستورية الآن وهم من غلاة العلمانيين أن يصدروا أحكامًا دستورية جديدة يغيرون بها ما أصدروه من قبل. وإذا بهم يطالبون الرئيس بعزل النائب العام القديم، وإصدار قانون لعزل الفلول سياسيًّا، وبعد ذلك يطالبونه بعزل النائب الجديد وإرجاع القديم، ويطالبونه بإدماج الفلول وإعادة إلى الحياة السياسية. وهكذا سار حزب النور على غير هدى، قرارات تتصادم مع ثوابت السلفية التاريخية والعقدية، وأبدى الحزب الفطير برجماتية غير مسبقة في التعاطي مع المشهد الانقلابي وتداعياته لمستويات لم يصل إليها أي من القوى السياسية المشاركة في مسرحية 3 يوليو.
وحزب النور على قاعدته الشعبية العريضة، إلا إن مواقفه المتناقضة والمتغيرة بحدية عجيبة قد أدت لحدوث انشقاقات داخلية عديدة بداية من انشطار الحزب لحزبين بسبب هيمنة وسيطرة جناح برهامي على قرارات الحزب وتجاهل قيادته الرسمية، ثم كان الانقسام الثاني بعد تحالف الحزب سياسيًّا مع جبهة الإنقاذ، وأخيرًا الانقسام الحادث الانقلاب بين (الطبقة المتصرفة) التي جلست في مقعد خلف السيسي وبين قطاع ليس بالقليل من القاعدة الشعبية مالت مع الإخوان في مغالبتهم للانقلابيين وتمسكهم بشرعيتهم الانتخابية.
الغطاء السلفي للسلطة الجديدة أو سلطة الانقلاب يوفر المناخ الهادئ لطبختهم التقليدية ويزيح همَّ النفس الثوري عن سماء مصر الملبدة بالارتهانات الخارجية والاستقطابات الداخلية، وحزب النور السلفي ببرجماتيته الفائقة يبعد عن السلطة الجديدة أحزاب الاستقواء الإسلامي بخطابهم المزعج وإمكاناتهم الحشدية وخياراتهم المربكة وبرنامجهم السياسي. لذلك كان حزب النور هو الخيار المفضل في مشهد 3 يوليو وما بعده.
ولكن الذي لا يعلمه مصرفو حزب النور في هذه المرحلة أن سلطة الانقلاب لم تغتر بقاعدة الحزب الشعبية، ولا تراهن أبدًا على إمكاناتهم الحشدية ولا برامجهم السياسية، ولا تحسب حسابًا لحزب ضعيف البنية، محدود الإمكانات، نادر الإمكانات، فهي سلطة تغلب وقهر كما وصفها منظر الحزب "برهامي"، وبالتالي لا تحتاج إلى كل هذه الأدوات السياسية في شيء، إنما كان الاحتياج وقتيًّا لإخراج مسرحية الانقلاب، واستكمالًا لديكورات مشهد الافتتاحية، ومن ثم ففي القريب العاجل لن يكون هناك حاجة لمثل هذا النوع من شركاء الانقلاب. ولعل فاتحة هذا الإقصاء الناعم لحزب النور السلفي من الحياة السياسية قد بدأ بالفعل مع إقرار مواد في الدستور الجديد تحظر تأسيس الأحزاب على أساس ديني، كما تحد بشكل كبير من أنشطة الدعوة للحركات الإسلامية ومنها السلفية تحت دعوى مكافحة الإرهاب، وهذا يعني أنه مع تمرير هذا الدستور كما هو متوقع، فلن يكون ثمة حزب سياسي ولا كيان دعوي.
فلماذا إذًا شارك حزب النور في هذا الانقلاب حتى النهاية وشرب من حرامه حتى الثمالة؟
ولماذا خالف الإسلاميين جميعًا في هذا المشهد الحاسم والمفصلي في تاريخ البلاد؟
وهل يعقل أن يشارك الحزب في كتابة دستور؛ مواده تقصيه وتخرجه من الحياة السياسية برمتها، وليس تقصيه سياسيًّا فحسب ولكن تقصيه أيضًا دعويًّا؟ ثم بعد ذلك يدعو المصريين للتصويت عليه بـ"نعم". فإذا لم يكن ذلك انتحارًا، فما هو إذًا معنى الانتحار؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق