الاثنين، 16 ديسمبر 2013

المسلمون والصدام الحضاري المفروض

المسلمون والصدام الحضاري المفروض



أ. د. عبدالحليم عويس 


قامت الحضارة الأوروبية على قواعد من أهمها إبادة الآخر بدعوى الصدام الحضاري، فإما هو وإما أنا، وإما أن أملك الأرض أنا أو يبقى فيها هو، ولا مكان للتعايش بيننا!!

وما جرى ويجري في فلسطين هو مجرد نموذج مكرور ومستمر من نماذج هذه القاعدة المضطردة في التاريخ الأوروبي والأمريكي!!

حقيقة إنه لمن الظواهر الجديرة بالدراسة عادة (إبادة الشعوب) التي تتسم بها الحضارة الأوروبية، وبينما تحرص هذه الحضارة على أن تكون في داخل حدودها إنسانية ديمقراطية، نراها بواسطة نفس الأشخاص تتحول خارج حدودها إلى وحش كاسر لا يعترف بحق إنساني، ولا بأبجديات الحياة الأساسية لمن يتعامل معهم خارج حدوده من البشر.

 ويعد موقف الحضارة الأوروبية من الظاهرة الاستعمارية من أقوى الأدلة على ذلك فالحضارة الأوروبية لم تحاول قط أن تأخذ بيد الشعوب المستعمرة إلى المدنية والعلم، بل حرصت على إبقاء المستعمَرين (بفتح الميم) على حالتهم لتستطيع تسخيرهم في الأعمال الشاقة بأقل الأجور، ومع التجاوز الشديد للحد الأدنى من الحقوق الإنسانية، كما أن موقف هذه الحضارة من (ظاهرة الرق)، حين سمحت لنفسها بخطف الملايين الآمنين من بلادهم (نحو 35 مليونًا) وتمزيق شملهم العائلي، وإطعامهم كؤوس الذل والهوان والسخرة من أجل تحقيق تقدمها الصناعي، هذا الموقف واحد من الظواهر التي تؤكد هذه الحقيقة (اللاإنسانية) و(العنصرية) و(المادية الجافة) في الحضارة الأوروبية.

ومع نهاية القرن التاسع الهجري (897هـ) الخامس عشر الميلادي (1492م) وسقوط غرناطة آخر القلاع الإسبانية الإسلامية (الأندلس)، بدأت حركة استئصال للمسلمين الأندلسيين واليهود عُرِفت بمحاكم التفتيش، واستمرت لأكثر من نصف قرن لدرجة استئصالها لكل المسلمين في إسبانيا، ضاربة بكل المواثيق عُرض الحائط!!

ومن زاوية أخرى نجح الإسبان في القضاء على شعبين من شعوب الهنود الحمر، فقد أفنى القائد (فرناندو كورتيز) شعب (الأزتيك) المكسيكي، وأرسل نائبه (ألفورادو) فاستولى على (غواتيمالا) وقضى على شعبها، كما أفنى القائد (بيزارو) شعب (الأنكا) الذي كان يقطن أرض (البيرو) بأمريكا الجنوبية.

وفي المغرب العربي وجدنا فرنسا تبيد مليون ونصف مليون شهيد في الجزائر في ثماني سنوات، وثمانية ملايين في مائة وثلاثين سنة.

أما تجربة إيطاليا في ليبيا، فهي آية من آيات الوحشية التي قل نظيرها في التاريخ.

وأما ما فعلته روسيا في مسلمي آسيا الوسطى الذين خضعوا لها في العهدين القيصري والشيوعي من قتل وتشريد للعائلة الواحدة، وتهجير إجباري إلى سيبريا، وإبادة لشعوب كاملة، فهو كذلك صفحة سوداء تحتاج إلى مجلدات وإلى عشرات الأقلام والروايات الدامية التي تدين الحضارة الكنسية اللادينية الأوروأمريكية.

إن صدام الحضارات ليس وليد (هنتنجتون) ولا (مكسيم رودنسون) وإنما هو وليد الصهيونية والفكر التوراتي العنصري الدموي!!

وما يجري في فلسطين اليوم مجرد حلقة في سلسلة طويلة مستمرة!!

وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين كان الإنسان الأوروبي ينظر إلى خريطة العالم ليحدد المواقع التي يظن أنها تحتاج إليه، أو التي يحتاج هو إليها ليسلبها موادها الخام، أو ليأخذ (بشرها الخام) عبيدًا وعمالاً في إقطاعيَّاته ومصانعه، أو ليرسل إليها ابتداءً قوافل التنصير لتمهد له الأرض، فتعلِّم الناس فِقدان الولاء، وتقدم لهم القبول بالفكرة العنصرية التي تحقق هيمنة الإنسان الأبيض.

 أما الإنسان غير الأبيض فعليه أن يطمع في ملكوت السماء، وأن يزهد في هذه الأرض أو ييئَس من حقه فيها؛ لأنها ملك للإنسان الأبيض وحده، وعليه أيضًا أن يؤمن بأنه كذلك خلق عبدًا أو شبه عبد، ولا داعي لمناطحة رجل الأقدار: الإنسان الأوروبي الأبيض ‍!!

 وفي الكنيسة يمكن أن تتحقق له السكينة والاستسلام، وتقدم له كل البدائل التي تخدره وتقنعه بقبول الأمر الواقع.

وخلال القرن العشرين حدث تطور خطير في الوعي الإنساني، فلم يعد الإنسان الأوروبي قادرًا على أن يتعامل مع خريطة الأرض هذا التعامل الاستعلائي التبشيري الاستعماري الذي كان يتعامل به في القرنيين السابقين.

ولهذا جاءت فكرة (العولمة) أسلوبًا آخر يصل به الإنسان الأوروبي (ذو الخلفية الاحتلالية) إلى تحقيق أغراضه بالأساليب القديمة نفسها، بل بما هو أسوأ منها، ففي تخطيطه أن يعود إلى امتلاك خريطة العالم من جديد بتفريغها من مضامين الاستقلال الصحيح، وبالقضاء على أربعة أخماس العالم عن طريق آلياته العالمية كصندوق النقد، ومؤسسة الجات، ومجلس الأمن.

لقد فشل التبشير والاستعمار وملكوت السماء، فلتبدأ مرحلة التبشير بالعولمة والعلمانية وملكوت الأرض الوهمي!!

وفي تصورنا - بصرف النظر عن الدين والأخلاق اللذين لا يؤمن بهما المشروع الحضاري الأوروبي - أن الإنسان الأوروبي من حقه أن يحدد مصالحه بالطريقة التي يراها مناسبة؛ (مع إدانتنا لمنهجه المستبعد للدين والأخلاق والمنظور الإنساني).

 لكن المشكلة - في الحقيقة - ليست في هذا الاستعمار المنسجم مع مصالحه، والذي جاء يومًا رافعًا راية (الاستعمار والتبشير)، ثم جاءنا أخيرًا رافعًا راية (العولمة والعلمانية) ليحقق أهدافه نفسها.

نعم المشكلة ليست في الاستعمار ومصالحه، وإنما تكمن المشكلة في جوهرها في العرب والمسلمين، إنها ليست مجرد مشكلة، وإنما هي مأزق حضاري خطير.

ففي مواجهة (الاستعمار والتبشير) خلال القرون السابقة، كانت هناك مبررات نفسية جماعية لمواجهة المحتل، وكان الإسلام يغذي هذه المبررات ويعطيها وقودها، ويجعل مواجهة (الاحتلال وتوابعه) فرض عين وفرض كفاية، وكانت الروح ومعها التاريخ برصيده الحضاري الإسلامي الرائع يتحركان لمقاومة الاحتلال والتنصير.

 أما في المرحلة الأخيرة (مرحلة العولمة والعلمانية) فقد كان الاستعمار ذكيًّا، حين أعد العدة للقضاء على مبررات المقاومة ووقودها المتمثل في الروح القرآنية، وفي فروض الكفاية والعين الإسلامية، بل إنه عمد إلى تشويه كل من يرفعون شعار الاحتماء براية الإسلام، فوسمهم بالأصوليين والتطرف مستغلاًّ كذلك قطاعًا من المنافقين المتعاونين معه، ومستغلاًّ أيضًا أخطاء بعض الصغار العاطلين، أو بعض العملاء الذين يستأجرهم في تشويه الإسلام، ويدفعهم دفعًا إلى التطرف تحقيقًا لأهدافه.

 ومعنى ذلك أن الأمة في حالة انشطار، وأن أكثر طاقتها ستبدد في مواجهة الذين يحاربون إسلامها ولغة قرآنها من داخلها، ويفرضون - حتى في شوارع البلاد العربية - الأسماء الأجنبية، ويروجون للغات الأجنبية على حساب اللغة العربية، حتى في البلاد التي دفعت ملايين الشهداء من أجل القرآن ولغة القرآن، كما أنهم يحاربون صور الالتزام بالإسلام وصور الانتماء له مهما كانت مشبعة بالتسامح والعقلانية وأخلاقية الوسائل ونزاهة الوسائل ونزاهة الغايات!!

 إن هذا هو المأزق الحقيقي.
وإذا كان الاستعمار والتبشير قد فشِلا في الجولة الأولى لوجود مبررات الجهاد والمقاومة لدى الأمة بكل شرائحها، باستثناء قليل من الخونة المحدودين.

 فهل ينجح الاستعمار اليوم (بعولمته وعلمانيَّته) في تحقيق ما عجز بالأمس عنه بفضل من يروجون لمبادئه في بعض بلاد العروبة والإسلام.

ومن البديهي أن المستقبل بيد الله، لكن الأمة الإسلامية في مأزق خطير، وهي في حاجة ماسة إلى الإيمان بأن الإسلام هو الحق وبأنه سبحانه غالب على أمره، وبالتالي تبيع الأمة نفسها لله، وترفع من جديد راية مقاومة الاحتلال الحضاري كما رفعها آباؤهم في وجه الاحتلال العسكري.



*الدكتور عبد الحليم عويس مؤرخ ومفكر إسلامي معروف، ولد في قرية سندسيس مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في 12 يوليو عام 1943، وتوفي في يوم الجمعة 9 ديسمبر عام 2011.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق