الأحد، 8 ديسمبر 2013

الزفاف – قصة قصيرة


الزفاف – قصة قصيرة
alt

بقلم د. أحمد مراد


كنت أنطلق مسرعة قبل أن تلتهمني عيون تلك الوحوش الرابضة على مشارف العمارة الشاهقة التي أقطن بها .. ولجت بابها وأغلقته خلفي اليكترونيا بذلك الجهاز الحديث الذي تشاركنا فيه مع بقية السكان كي يصبح مزلاجا قويا وأداة تنبيه صارخة عند محاولة الإقتحام

.. وأخيرا تنهدت بعمق .. يمكنني أن أسترد أنفاسي المسلوبة بعد أن تجاوزت حقل الألغام المنتشر أمامنا ..

منذ أن قدمت تلك الخراف الضالة لتشوه صورة الحي الجميل الهاديء الذي كنت أستمتع بالإقامة فيه ونحن نعيش في جحيم حقيقي لا فكاك منه ..

الأمور السياسية التي أكرهها ولا تشغل بالي تبدوا مضطربة بقوة وجلستهم هذه التي يسمونها إعتصاما لأجل الشرعية لا يبدوا بارقة أمل في انتهائها ..

كم أكره تجار الدين هؤلاء ما علاقة مسجد رابعة العدوية بألاعيب السياسة هذه ؟!

ها هو رمضان قد أوشك على الإنتهاء ولم أشعر بلذته ولا جماله ..

رغم عدم تحجبي إلا أن صلاة التراويح في مسجد رابعة كل عام أشعر بها كنهر أغتسل به لينقي روحي من كل الشوائب التي قد تكون علقت بي طوال العام

أنا لا أكذب ولا أخون ولا أغش وأصلي وأصوم .. وأرى الحجاب دوره يأتي بعد الزواج الذي لم أحظى به حتى الآن .. وبالتالي متصالحة مع نفسي جدا ولا أرى بي خطيئة

ها هي تراويح هذا العام قد تبخرت مني ولم يعد هناك أملا فيها ..

أصبح جدولي هو العمل صباحا والنوم بعد الظهر ومساعدة أمي عصرا وبعد الإفطار يأتي دور التسلية المحببة لي بكل تلك الأعمال الدرامية الضحمة التي تغص بها قنوات التلفاز الكثيفة .. وعند الثانية عشر مساءً تكون تلك الألعاب النارية المقيتة قد هدأت ويمكنني النوم بعدها .. لحسن حظنا كان بيتي متفرعا في مدخل جانبي صغير متفرع من شارع يوسف عباس وبالتالي صراخهم وعويلهم الدائم فوق المنصة لم يكن يصلنا .. وإلا كنت ذهبت لتفجير نفسي بها للخلاص منهم ..

ولكن أكثر ما يغيظني هو أخي محمود وتعاطفه معهم ..

منذ متى يا محمود وأنت تهتم بالسياسة وكيف تعرفت بهؤلاء المسوخ ؟

رأيت سخطك في بداية تجمعهم وضجرك منهم معي .. ولكن فضولك الذي دفعك للنزول والتفرج عليهم جذبك من ألعاب الحاسوب التي لا تفارقها

أصبح وقت الظهيرة مسموحا لي باستخدام ذلك الحاسوب لأني أعود فلا أجدك رابضا أمامه كعادتك .. وحين عودتك متعرقا من الخارج تذهب للاستحمام وتجلس صامتا واجما في ركن الغرفة بمنتهى الأدب حتى أتملل من جلستي وأقوم لأجدك تحتل جلستك شاردا لثوان ثم بمجرد ظهور الأجسام والأشكال المكونة للعبتك المفضلة تلمع عيناك وتسترد حيويتهما وتعود بشخصيتك التي أعرفها ..

وتغيبك الليلي ازداد .. أخشى أن يتم تجنيدك معهم لإختراق هذا المبنى لأغراضهم التي حتما لن تكون نظيفة ..

ولكن موقف منتصف الليل هو ما جعلني لا ألتزم الصمت جراء هذا ..

بعد نومي في تمام الثانية عشر على إثر تناول سحوري كما تعودت في هذا التوقيت .. وقرابة الثالثة فجرا تفتحت عيناي محدقة في فراغ الغرفة هادئة الإضاءة وقد طار منهما النوم بشكل عجيب .. موجه انتباه غير عادية انتابتني .. حاولت التقلب مغمضة ومستدعية النوم ولذته .. ولكن جفاف حلقي ناداني بوجوب تلبيته بالإرتواء قليلا ببعض الماء

قمت متمهلة نحو الثلاجة بالصالة لأنهل بعضا من مائها البارد .. ولكن طرق سمعي صوتا خافتا بالمطبخ يجاهد صاحبه ألا يعلوا ..

عقدت حاجباي مرهفة سمعي وخطوت نحو المطبخ بهدوء وحذر ..

فإذا بمن فيه يضيء مصباحا يدويا بزاوية تجعل الإضاءة للداخل فقط ولا تسطع خارجة .. جفلت والرعب قد دب في أوصالي ..

هذا حتما لص أو أحد عتاة المجرمين الذين تعج بهم المنطقة من كل صوب الآن

كبلني العجز عن كيفية التصرف السليم

ولكن قبل أن يخطو تفكيري لأي اتجاه

إذا بالمصباح ينطفيء ويخرج أمامي جسد متوسط محاط بالظلمة من كل صوب

فصرخت وكدت أن أفقد الوعي رعبا وصرخ صاحب الجسد فزعا كذلك وإذا به محمود أخي وقد سقط من يده إبريق الشاي الذي كان يحمله واخذ يتقافز ألما من أثر الرذاذ الذي ناله

لقد كان يعد لهم الشاي الذي يريدونه في وقت السحور الذي يسبق الفجر دوما على حسب تعودهم ..

لقد خطا محمود خطوات واسعة في مراحل التجنيد لديهم .. كانت صرختي وحدها كفيلة بايقاظ خمس عمارات ولم أنطق بعدها .. تكفل والدي ووالدتي بالبقية وتم منعه من الخروج تماما لأي غرض مهما كانت أهميته ..

في اليوم التالي وبعد عودتي من عملي وجدت محمود يذرع حجرته ذهابا وإيابا كأسد جريح وحبيس .. وعندما رآني نظر نحوي بعتاب وغيظ ولم ينطق ..

فلم اعيره انتباها وجلست على الحاسوب استطلع بريدي الإليكتروني وأتجول بين مواقع التسوق والتجميل .. ولكن لم يستطع هو المقاومة وبدأ الحديث قائلا :

- هل من الممكن أن أطلب منك طلبا خاصا ؟

ابتسمت وأنا أنظر نحوه بظفر قائلة :

- تفضل !

قال بلهفة :

- عند كشك الزهور الذي يقع أمام ناصيتنا هناك خيمة بها طفل صغير يعاني من الإسهال وأمه قعيدة وتنتظر زوجها الذي لم يعد منذ يومين وترفض طلب المعونة من أحد هل يمكنك فقط الذهاب ومنحها العشرون جنيها هذه لتشتري له علاجا وحافظات ؟

لست أدري لم انكسرت بسرعة ورق قلبي بعنف لهذه السيدة

أراها مجرمة ما الذي جاء بها هنا مع طفلها ولماذا رماها زوجها وكيف علم محمود بهذه التفاصيل طالما أنها ترفض المعونة ؟!

ولكن الألم الذي اعتصر قلبي جعلني أتجاوز كل ذلك وأنا أسأله :

- ما اسمها وما شكل هذه الخيمة ؟

لأول مرة أرى السعادة تحتل أركان محمود بهذه القوة وتعجبت لها ولا أنكر أني سعدت لنبل مشاعره هذه حتى لو كانت لمن لا يستحق

حاول منحي العشرون جنيها التي ادخرها من مصروفه فرددت يده وتناولت منه التفاصيل فقط ..

ولأول مرة منذ أن ضجت منطقتنا بهذا السوق الهمجي أسير بينهم واخترق زحامهم فقد كنت أتجنبهم في ذهابي وإيابي ..

كانت الحرارة تلفح وجهي وقبل أن أتأفف منها اذا برذاذ بارد منعش يصطدم بوجهي على إثر اندفاع الماء من رشاش مائي يحمله شاب وسيم على ظهره وينطلق ليرطب حرارة الجو على وجوه ورؤوس الحضور ..

وكانت دهشتي عندما وجدت أحدهم يناديه قائلا :

- امنحنا القليل هنا يا دكتور !!!

هو طبيب أو حاصل على درجة علمية عليا .. ينطلق هكذا بمنتهى البساطة والتواضع وبوسامته وبسمته الرقيقة الحالمة هذه .. أسرني بالفعل حتى أني أخذت أتطلع إليه وكأن الرذاذ الذي أنعش وجهي قد جذبني إليه ..

ولكن انطلق في مهمته العجيبة التي لم أتوقعها ..

خطوت خطوات للأمام وإذا بسيارة ربع نقل تحمل خزاني مياة تقف والرجال يسعون نحوها ليملئون آنيتهم بالماء محتفظين به بالخيام حتي يحين موعد الفطور دققت لأري كم ينال صاحبها مقابل كل وعاء يملئه .. ولكن وجدته يمنح الماء مرفقا ببسمة لا تقل رقة وجمالا عن بسمة الدكتور الذي سبقه وهو يقول لهم لا تنسونا من دعائكم عند الفطور وعندما يجد فتاة أو امرأة تقف على استحياء ينادي أحد الواقفين مطالبا إياه بأن يفسح ويقول لها تفضلي ويقدمها على الجميع دون أن يستطلع ملامحها

كانت تلك الصدمة الثانية

ما هذا الرقي ؟

خطوات أخرى قليلة وإذا بنداء عجيب يطرق سمعي

شخص يقف على صخرة جانبية ويهتف قائلا :

من يريد مهاتفة أهله مجانا معي رصيد كبير

توقعت أن يكون أمامه زحام كثيف .. ولكن .. الكل ينظر له بابتسامة موحدة أتعجيب كيف يقتسمونها بهذه الدقة .. ويقولون له

- جزاكم الله خيرا

كنت على وشك التفكير في التمويل الخارجي ولكن ردود الفعل والتصرفات هذه تنزع مني أي انحراف في الظن قبل أن يلوح في الأفق

العجيب أني رغم الزحام الشديد لم يصطدم بي طرف ثوب أحدهم أثناء سيري

ولم أجد عينا واحدة جريئة تطالع عيناي أكثر من جزء بسيط من الثانية وإنما أعين تنكسر استحياءً لتمسح تفاصيل الأرض أو تنطلق مسرعة إلى جانب آخر متفادية إياي

هززت رأسي وأنا أتوقف قليلا قبل دخول الخيمة التي وصلت لها بسهولة كما وصفها لي محمود وأنا أتسائل أين أنا ؟؟ ولكن تركت التساؤلات جانبا خارج الخيمة وأنا أنادي قائلة :

- أم حمزة هل يمكنني الدخول ؟

جاوبني صوتها الهاديء بالسماح لي .. رفعت طرف الخيمة متوقعة كوما من المخلفات والروائح الكريهة ولكن عانق أنفي رائحة المسك ووجدت خيمة بسيطة مرتبة ونظيفة ورطبة بأفضل ما يكون والسيدة التي كنت أظنها حتما ستحمل كآبة الدنيا وسوف تثقل كاهلي ببعضها إذا بها مبتسمة متوردة تحمل طفلها بسعادة كأنما هي في نزهة جبلية مستمتعة بما هي فيه

قلت لها بأني أخت محمود فلم ينقطع دعائها له وعندما هممت بمنحها النقود لتعالج ولدها

ردت يدي قائلة :

- بارك الله فيك .. لقد جاء زوجي والحمد لله حصلت على كل شيء

وقبل أن أنطق مدت يدها لتخرج لفافة من أحد جوانب الخيمة وتمنحني إياها قائلة :

- أستحلفك بالله أن تأخذي هذه الفطيرة .. إنها معدة بالسمن البلدي وفي فرن ريفي أصيل وسيعجبك طعمها جدا .. افطري بها أنت وأسرتك ولا تنسينا من دعائك

لن أذكر محاولة تملصي من هذا العرض الذي كنت أتوق له بالفعل ولكن فشلت وعدت محملة بها .. وكنت أظن بأني أنا التي ذاهبة لمساعدتها

عدت وقدماي مثقلتان بالحركة وأنا غائبة عن الوجود ..

ما هذا وما الذي يجري ؟

كيف اجتمعت كل تلك الأطياف بهذه التوافق المدهش ؟!

وكيف تسموا مشاعرهم وأخلاقهم لهذه الدرجة ؟ !

دخلت البيت بروح جديدة غير التي خرجت بها

ولأول مرة أخرج لشرفتي أطالع وأحاول معرفة التفاصيل .. فلربما كان ما واجهني الجزء الأبيض ويختفي السواد بجوانب أخرى

ولكن ..

كانت التفاصيل كلها مدهشة بالفعل .. إنها يوتوبيا

وكانت المفارقة في هذه الليلة عندما تفتحت عيناي بنفس الانتباه السالف في الليلة السابقة ولكن كان ذلك في تمام الثانية صباحا ..

حاولت مصارعة النوم ولكنه أبى ..

كنت مختنقة بجو غرفتي المغلق والخانق رغم وجود المكيف بها .. ففكرت أن أخرج للشرفة طلبا لبعض النسمات الطبيعية اللطيفة وكذلك لأرى ماذا يفعل هؤلاء القوم في هذه التوقيت

فتحت باب الشرفة بهدوء شديد ودلفت إليها وانطلقت ببصري لأري مشهدا عجيبا

عشرون فردا يقفون بانتظام دقيق وأمامهم شاب ملتح يقرأ القرآن بصوت ملائكي رخيم لم يطرق أذني مثيلا له من قبل ..

كان استغراقهم في صلاة الليل مع نهنهات البعض والخشوع البادي عليهم آسرا

جلست على الكرسي حتى لا أظهر لهم وأنا أرهف السمع مستمتعة بذلك الصوت السماوي

وإذا بالآيات تمس شغاف قلبي

شعرت كأنما كان هذا الشاب يخاطبني بتلك الآيات

ارتعدت وقد أخذتني الآيات لتحلق بي في دنيا أخرى

كنت أستشعر بأنها إنما تتنزل الآن من السماء ولي انا فقط وتخاطبني وحدي

ولأول مرة تنالني دموع الخوف والرهبة ..

انتهت الصلاة وطرق مسامعي أصواتهم المرحة وهم يتقاسمون طعام السحور

كيف انتقلوا بهذه السرعة من العيون الباكية إلى الشفاه الباسمة ؟!

ولم أتمالك نفسي من الابتسام وأنا أذهب مندفعة بقوة خفية إلى المطبخ لأعد لهم إنائين أحدهم يحمل شايا يعجز أي مخلوق عن منافستي في جودة إعداده والآخر بالقهوة ذات الرائحة النفاذة والقوية

وطرقت باب محمود بهدوء وطلبت منه هامسة أن يذهب ليمنحهم إياه

إنطلق مسرعا قاتلا دهشته بصمته ..

وعاد بعد قليل بهما فارغين ومعهما وريقة صغيرة مكتوب عليها بخط يتألق بأناقته الرائعة جملة تقول : ( جزاكم الله خيرا .. ونأسف للإزعاج )

كانت هذه العبارة القصيرة أروع عندي من ألف رسالة غرامية

لست أدري لماذا شعرت بأنها من ذلك الشاب ذو الصوت الذهبي الرخيم

استحييت أن أسأل محمود عن صاحبها وأخذتها ودسستها في علبة الحلي الخاصة بي .. وعند الصباح خرجت ولكن باحساس جديد منعش جدا ..لم يعكر صفوه إلا أني لأول مرة أستشعر بأني أسير عارية وذلك بكشفي لشعري .. لم أسير أكثر من خمس خطوات وعدت مسرعة وذهبت لأمي طالبة منها أحد أغطية رأسها لأستخدمه وعدت آخر اليوم ومعي بعض الأغطية الجديدة والمتنوعة التي تتفق مع ملابسي التي هي محتشمة غالبا ولا تكشف أو تجسدني .. وأصبحت رحلتي الليلية مع الصوت القرآني الذي يترنم أسفل عمارتنا كل ليلة زادا ورحلة روحية لا غناء لي عنها .. وكنت أكافئهم بما أعده من مشروبات وأحيانا بعض الأطعمة الخاصة التي كنت أتفنن في إعدادها متمنية أن يعجب مذاقها تلميذ جبريل هذا

كنت أتمنى أن يرسل لي برسائل شكر مكتوبة كل يوم ولكن لم تتكرر

لست أدري كيف أصبحت أسيرة لهذا الجمع وكيف احتلني ذلك الشاب الذي لم أعرف اسمه بعد ..

وعلى عكس طباعي كنت أستحي بشدة أن أسأل محمود عنه ..

كنت أشعر بأن مجرد سؤالي ولو عن أي شيء بعيد سوف يفضحني ويعري كل مشاعري المتوقدة بداخلي ..

جاء العيد وأرسلت لهم بعض الحلوي وانا متعجبة كيف يتحملون المغيب عن أهليهم حتى في العيد وأين أعمالهم ومشاغلهم .. ولكن محمود أخبرني بأنهم كلهم مهندسين وأطباء ومدرسين !! ويرون ذلك تضحية في سبيل قضية يؤمنون بها

لم أحاول شغل نفسي بهذه القضية ولا أريد .. إنما أسرني هذا القدر من الفداء الذي يتسع له قلوبهم لأي قضية كانت ؟

من هذا الذي يضحي بأعماله وأمواله لأجل هدف يراه سامٍ من وجهة نظره حتى لو كانت رؤيتي له غير ذلك ؟

لم أكن متابعة لوسائل الإعلام

ولم أدري بأن هذا الصباح هو الصباح الدامي الذي مت بعده

قمت في تمام السادسة والنصف ظنا مني بأن هناك متسع من الوقت لأستعد للذهاب إلى عملي .. ولكن وجدت البيت مكفهر وأبي يحكم غلق غرفة محمود بالمفتاح ومحمود يطرق الباب من الداخل بعنف لم يكن أبدا أحد ردود أفعاله مع أبي من قبل ..

سألتهم والدهشة تتملكني :

- ماذا هناك ؟

فقال أبي بصرامة

- ادخلي غرفتك وأحكمي غلقها جيدا

هززت رأسي باسمة وقائلة :

- ماذا حدث يا أبي ؟

فقال والقلق يرسم ملامحه بشكل جديد :

- الجيش والشرطة بالخارج وسيقتلون كل من تطوله يدهم

خنجر مشتعل اخترق قلبي وانتفضت بقوة وقد اتسعت عيناي حتى كادتا أن تفرا من جمجمتي وأنا أقول له :

- ماذا ؟

ولكن جاوبني صوت الانفجارات هذه المرة بصدق ما يقول .. لا أنكر بأن الخوف قد تملكني وقد ارتميت على صدر أبي طالبة منه الحماية ولكن ضربات قلبه المتسارعة أخبرتني بأنه يصارع الخوف ربما أكثر مني

دخلت غرفتي وقد نسيت أمر عملي .. وداهمني سؤال عنيف :

- أين الشباب الآن ؟ .. وأين حبيبي ؟ ..

نعم حبيبي فعند حدوث البركان تتطاير معه حمم قلبي الدفينة ولا يهمني التصريح بما قاتلت لكبته وكتمانه ..تفكيري فيه خفف عني الكثير وكأنما إقتسام الخوف عليه مع خوفي على نفسي قد آنسني ..

سيكون ضربا من الجنون ان أذهب للشرفة الآن

ولكن من خلال خصاص شباكي يمكنني لمح مدخل العمارة فقط مع متر واحد من الداخل

جاهدت للوصول لأعلي كي أصل لزاوية تكشف لي أكثر ..

ولكن وجدت المدخل فارغا .. فرحت عندما ظننت بأنهم قد فروا

ولم أجد بد من فتح التلفاز هذه المرة لمعرفة تفاصيل ما يحدث على بعد أمتار مني

وفوجئت بحرب متكاملة تدور رحاها على مرمى بصرنا الذي نخشى عليه

كان صوت الطلقات والانفجارات يأتي من بعيد

ولكن عند الظهيرة اقتربت الأصوات جدا منا

حتى شعرت بها أحيانا ترتطم بجدارنا ..

ذهبت للمرة الثانية أستطلع الأمر عبر خصاص نافذتي ..

وكان توقيتي مدهشا ..

فقد رأيته .. نعم هو بلباسه الذي لم يتغير بقميصه الرصاصي المخطط طوليا وبنطاله الأزرق وحذائه الرياضي وغطاء رأسه الأخضر والذي كان يعكس مقدمته للخلف حين الصلاة

ولكن كان يرتدي كمامة تخفي ثلثي وجهه ..

انطلق داخلا نحو عمارتنا مسرعا لا أدري الى أين والأبواب مغلقة بإحكام

ولكن صرخت فزعا عندما وجدت خلفة جسد شيطاني متشح بالسواد من رأسه حتى أخمص قدميه يدخل خلفه متمهلا ويحمل سلاحا ضخما شاهرا إياه للأمام

وبعد ثانيتين فقط سمعت صوت طلقة واحدة وظهر ذلك المسخ الجهنمي خارجا بنفس تمهله منطلقا لا أدري إلى أين

كان المشهد لا يحتاج إلى تفسير ..

لست أدري أين ذهب عقلي ولا كيف طار مني فؤادي

فقد انطلقت بجنون خارج غرفتي مجتازة الصالة في لمح البصر وخرجت من الشقة قبل أن يفهم أحدا ماذا يحدث .. وتجاهلت المصعد تماما وأنفاسي تكاد أن تفارقني هلعا وفزعا

وفتحت باب العمارة لأجده بنفس الموضع الذي لم أمّل من رؤيته فيه كل ليلة مناجيا السماء

بنفس المكان الذي كان يؤم فيه رفاقه

وقد اخترقت رأسه رصاصة أطارت ثلث جمجمته ولكن تركت وجهه سليما بعد أن وقع عنه القناع

بالطبع لم أكن أنا حينما مددت يداي ممسكة بما تبقى من رأسه بين كفي ناظرة لوجهه العجيب الذي رغم الدماء التي يتشح بها إلا انه كان منيرا وضاءً .. ولمحت شبح ابتسامة على شفتيه كأنما كان يناجيني بها ..

وهنا فقدت الوعي ولا أدري ما حدث بعدها .. ولكن قالو بأن أبي هو من سحبني بسرعة للداخل .. وعندما أفقت كنت قد غادرت ونسيت حاسة النطق حتى حل المساء

ولم يتأخر عني حبيبي .. فما إن روادني النعاس .. حتى أطل علي بوجهه وقد ازداد نورا

ولم يقل لي سوى كلمة واحدة :

- أنتظرك

كانت هي كل قصائد الحب التي أرجوها وأصبوا إليها

بعد أن خفت الصدمة سألت :

- محمود من كتب ورقة الشكر التي جئت بها أول ليلة ؟

فقال لي بأنه كان المهندس أنس إمام المصلين أسفل العمارة

نعم يا حبيبي لقد خُطت قصة حبنا في اللوح المحفوظ

ولهذا ومن يومها .. أترقب وأنتظر كل المسيرات

وأكدا أن أطير فرحا حينما أسمع صوت الرصاص كأنما هي طبول ودفوف الفرح تدق معلنة لي موعد زفافي الذي تأخر عني وأترقبه

فأنا أثق بوعدك .. وأعلم بأنك تنتظرني

وانا مصرة على اللحاق بك

تمت بحمد الله

الصحراء الغربية

7-12-2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق