السبت، 17 مايو 2014

أحداث ليبيا ونظرية عش النمل


أحداث ليبيا ونظرية عش النمل



لا شيء يحدث في إقليم الثورات العربية خبط عشواء ؛ حقيقة لابد من تقريرها واستيعابها جيدا من أجل فهم مجريات الأمور في هذا الإقليم الذي كان شاهدا على أروع حراك شعبي في العصر الحديث، فالغرب بجميع مؤسساته السياسية والأمنية والإستخباراتية قد تجاوز سكرة الحدث ، وبدأ منذ فترة في فكرة التخلص منه ، فلم تكن مآلات ثورات الربيع العربي بالتي ترضي أصحاب الهيمنة الطويلة والسيطرة التاريخية على مقاليد الأمور في المنطقة ، ولم تكن ترضي قوى الاستبداد وأضلاع التآمر على العالم الإسلامي ، ومن ثم كان العمل على إيجاد أمثل الصيغ والمخططات لإعادة تموضع الحالة العربية لما قبل ثورات الربيع العربي ، وكان الانقلاب العسكري المصري أفضل السيناريوهات لاحتواء المسار الديمقراطي الذي جاء بالتيار الإسلامي في مصر وتونس وليبيا .


الحالة المصرية لها خصوصية كبيرة من حيث طبيعة الشعب المصري الذي يميل بطبعه لقبول الاستبداد والظلم ، لطول ألفته وعهده بالظالمين ، حتى صار الوعي الجمعي المصري مصابا بداء إستوكهولم ، وبالتالي كان من السهل خداع شعب هذا حاله ، وإيهامه بأن الانقلاب العسكري ثورة شعبية !! . وأيضا الجيش المصري ليس له نظير في جيوش المنطقة فهو الجيش الوحيد الذي يتحكم في إمبراطورية اقتصادية ضخمة تمثل 60% من الاقتصاد المصري ، كما أنه الجيش الوحيد المرتبط باتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني .

هذه الخصوصية المصرية شعبا وجيشا جعلت من العسير تكرار النموذج المصري في الحالة الليبية ، فالأوضاع الداخلية ، والتركبية السكانية ، والهشاشة المؤسسية ، والطبيعة القبلية ، والتوزيعة الجغرافية ، والتشكيلة الثورية ، والعصابة الفلولية ، كل هذه الأمور تجعل من العسير استنساخ التجربة المصرية الفريدة . فالوضع الليبي شديد التعقيد ، وأعقد ما فيه حسابات القوة ، فخريطة السلاح بكافة أنواعه منتشرة بطول البلاد وعرضها ، حتى أصبح للسلاح كلمة الفصل في حسم الخلافات الداخلية، وفرض الإرادة السياسية ، لذلك كان التعامل مع الشأن الليبي يحتاج لأساليب أخرى غير الخداع المخابراتي الذي تم في مصر .

ليبيا يسيطر على أجزاء واسعة منها المليشيات العسكرية التي تشكلت كأذرع ثورية في مواجهة كتائب ومرتزقة القذافي ، وكان من الطبيعي بعد نجاح الثورة ومقتل القذافي أن تحل هذه المليشيات أو يتم استيعابها في المكون الوطني الجديد للجيش الليبي ، ولكن كثرة المؤامرات الداخلية والخارجية ، والانفلات الأمني الكبير الحادث بسبب فشل الإدارة الليبية الجديدة في هيكلة الأجهزة الأمنية ، وإيجاد الصيغة الملائمة لمرحلة ما بعد القذافي ، فضلا عن الصراع الناشب بين القوى العلمانية المدعومة من الغرب ، والقوى الإسلامية صاحبة اليد العليا في إنهاء حكم القذافي ، كل هذه الأمور جعلت القوى الإسلامية متوجسة من مسألة إعادة هيكلة الجيش الليبي ، وتصر على الاحتفاظ بأسلحتها وتشكيلاتها القتالية ، خوفا من تكرار نموذج السيسي المصري . كل هذه المحاذير جعلت الغرب وحلفاؤه الجدد في المنطقة يفكرون في صيغة جديدة للقضاء على الثورة الليبية كما حدث مع شقيقتها المصرية . وكان أسلوب جس النبض والاستدراج بنظرية عش النمل الشهيرة
تأسست نظرية (عش النمل) الأمنية على فكرة أن النمل عندما تزداد قوة انتشاره في البيت، في الزوايا وتحت المناضد وخلف الأبواب يصبح من العسير ملاحقته والقضاء عليه، إلا إذا وجدت عش النمل فعندها يكون القضاء عليه سهلاً للغاية وفي متناول يدك. وإذا لم تجد عش النمل ، اصنع العش بنفسك وانتظر النمل.استخدمت الولايات المتحدة النظرية عدة مرات في مواجهة تنظيم القاعدة في إطار حربها الافتراضية على الإرهاب،لأن التنظيم كان منتشراً في البلدان وغير مركزي ويستحيل تتبعه فقد كان الخيار الأمثل أن يتم بناء العش في أفغانستان تارة وفي الشيشان تارة وفي اليمن تارة وفي الصومال تارة ، وأخيرا في سوريا ، وما زالت أمريكا تحاول تطبيق هذا الأسلوب ، وهي الآن تحاول تطبيقه في ليبيا ، لتتعرف به على مكامن القوة الحقيقية للمليشيات الإسلامية في شرق ليبيا والتي أصبحت مصدر تهديد وإزعاج لحفنة المتآمرين غربا وشرقا .

خليفة حفتر عميل أمريكي بامتياز يعرفه الشعب الليبي أكثر من غيره بعد تآمره مع الأمريكان أثناء حرب ليبيا مع تشاد سنة 1987 ، وتعمده الانهزام أمام قوات حسين حبري ، ثم لجؤه إلى أمريكا وإقامته لأكثر من عشرين سنة في ولاية فرجينيا على بعد 5 كيلو مترات فقط من مبني المخابرات الأمريكية في لانجي ، وتحضير أمريكا له ولرجاله الذين لجئوا معه لأمريكا ، من أجل تشكيل جيش عسكري لمحاربة نظام القذافي.وفي 14 مارس /آذار 2011، عاد حفتر إلى بنغازي آتياً من مصر، بتوجيه مباشر من أمريكا لاحتواء الحراك الثوري والتحكم في دفته ، وتولى قيادة جيش الثوار الذي كان بحاجة إلى قائد ميداني، ولكنه لم يستطع تحمل عبء القيادة وتسبب في العديد من الهزائم التي منيت بها قوات المعارضة أمام كتائب القذافي، حيث خسر الثوار بضعة معارك على الجبهة الشرقية. فانسحب خليفة حفتر من الأضواء ، في انتظار دور جديد يسند إليه وقت اللزوم ، وهكذا حال العملاء الأوفياء .

حاولت امريكا الدفع بحفتر في صدارة المشهد السياسي ، أو إسناد قيادة الجيش الليبي إليه ، لمواجهة النفوذ المتنامي للمليشيات الإسلامية خاصة السلفية منها بعد معركة تحرير طرابلس ، ولكنها فشلت في ذلك ، وقتل سفيرها في بني غازي شر قتلة ، فانسحب وهي تضمر يوما للانتقام ، وفجأة يظهر حفتر للعلن عبر فضائية العربية المشبوهة في 14 فبراير الماضي في أول استفزاز واستدراج للقوى الإسلامية كي تظهر قوتها وإمكاناتها الفعلية ، حيث أعلن حفتر عن انقلابه العسكري الاستعراضي ، فلم يستجب له أحد ، ولكن حقق أولى ثمراته بخروج عدة كتائب مدرعة لحماية المجلس النيابي ومكاتب الحكومة من محاولة الهجوم عليه ، وبدأت النظرية في العمل ، وبدأ النمل في الخروج من عشه التجمع فعلا ـ وفق النظرة الأمريكية ـ

واستمر حفتر يتحرك بحرية طيلة ثلاثة شهور يجمّع فلول نظام القذافي ويشتري ولاءات القبائل في الشرق والجنوب والوسط من أجل التحضير لهجوم جديد على شرق ليبيا خاصة درنة والمناطق الحدودية مع مصر بحجة مواجهة الجماعات الإرهابية التي تقف حجر عثرة في وجه تأسيس جيش ليبي قوي ، وبالفعل حصل حفتر على ولاءات قبائل عبيدات والمرابطين والبراعصة والحاسة والفوائد والشواعر في الشرق ، وقبائل التبو في الجنوب ، أما الغرب حيث معظم فلول القذافي فقد حصل على دعم قبائل ورفلة والمقارحة والقذاذفة وأولاد سليمان والحسون ، ولكنه فشل في الحصول على دعم أهم منطقتين بني غازي ومصراتة . كما نجح حفتر في الحصول على ولاء فلول جيش القذافي الذين مازالوا في الخدمة وأبرزهم قائد القوات الجوية .

حفتر أعلن عن عملية " الكرامة " لتطهير ليبيا من الارهابيين بزعمه وشنت قواته مدعومة بطائرات قيل أنها مصرية وقد نفت الحكومة المصرية ذلك رغم إعلان تأييدها لهذه العمليات القتالية ، قامت القوات الموالية لحفتر بالهجوم على مناطق يسيطر عليها المليشيات الإسلامية صباح يوم الجمعة ، مما أدى لوقوع عشرات القتلى والجرحي من الجانبين ، بدوره ذكر رئيس أركان الجيش الليبي عبد السلام جاد الله العبيدي أن قوات صغيرة تضم بعض العسكريين تابعة لـ" حفتر" دخلت إلى مدينة بنغازي، نافيا سيطرتها على أي مقرات في المدينة. كما وصف العبيدي، في خبر نقلته وكالة الأنباء الليبية الرسمية، تحرك "حفتر" بأنه انقلاب، ومحاولة للسيطرة على الشرعية، مشيرا إلى أنه صدرت تعليمات كتابية للقوات العسكرية، ولمن وصفهم بالثوار، للتصدي لأي قوات تحاول الانقلاب على الشرعية. في حين أعلنت بعض قوات حرس الحدود ولاءها لحفتر .

وبالتزامن مع هجوم القوات الموالية لحفتر وبقايا نظام القذافي على بني غازي ، قامت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون) بنقل حوالي 200 جندي من مشاة البحرية إلى صقلية من قاعدتهم في إسبانيا بسبب بواعث قلق بشأن الاضطرابات في شمال أفريقيا مما يعزز قدرة الولايات المتحدة في الرد على أي أزمة.ورفضت الوزارة تحديد ما إذا كانت تلك الخطوة تركز على دولة معينة لكن اثنين من المسؤولين تحدثا شريطة عدم الكشف عن اسميهما قالا إن بواعث القلق الأميركية تتركز بشكل مباشر على ليبيا حيث رفضت جماعات مسلحة وإسلاميون نزع أسلحتهم بعد الاطاحة بنظام معمر القذافي عام 2011.

فالأحداث بدأت تتسارع وتيرتها بقوة في ليبيا ، وبدأت خيوط المؤامرة تتكشف شيئا فشيئا ، فهجوم حفتر بالأمس لم يكن بالقوة الكافية لتحقيق مراده وتم دحر معظم قواته وإعادتها لمواقعها الأولى ، ولكنه كشف عن كثير مما كان يريد الأمريكان كشفه ، وربما تعاد الكرة مرة أخرى خلال أيام ، فالهدف الحقيقي هو إخراج كل ما لدى الثوار الإسلاميين من قوة ، وفتح بؤرة صراع جديدة في هذه البلاد ، ليس من أجل الانقلاب على الثورة كما يظن البعض ، ولكن من أجل إعادة الاحتلال وفتح المجال للتدخل الخارجي الذي ربما يأتي من أقرب جيران ليبيا ، ولو حدث ذلك فقل على كافة المتورطين و المنطقة بأسرها السلام .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق