الأربعاء، 28 مايو 2014

استحقاقات الفشل الرئاسي


استحقاقات الفشل الرئاسي


لم يكن أشد المراقبين تشاؤما يتوقع أن يكون المشهد الانتخابي الذي اجتهد صانعو الانقلاب وداعموه ومروجوه بكل ما يمتلكون من أدوات الهيمنة والسيطرة والإملاء في الإعداد له وإخراجه منذ قرابة السنة ، لم يكونوا متوقعين أن يخرج هذا المشهد بهذا السوء والضعف غير المسبوق في الحياة السياسية المصرية بعد ثورة 25 يناير . 
فقد خاضت مصر تسعة استحقاقات انتخابية ، سبعة منهم في ظل الثورة ، واثنان في ظل الانقلاب ، وخلال هذه الاستحقاقات كلها لم يكن منها استحقاق واحد بمثل هذا الضعف والإقبال منقطع الجماهير ، لذلك لم يكن مستغربا هذه اللطمية الإعلامية التي قام بها إعلاميو الانقلاب والقوى السياسية والنخب العلمانية المؤيدة للانقلاب ، فقد كانت الصدمة قوية ، مما حدا بكثير منهم لتوجيه شتائم بذيئة على الهواء مباشرة بحق الشعب المصري الذي طالما تغنوا بإرادته وعزيمته وقدرته على التغيير، ولسان حالهم أين ملايين 30 يونيه ؟ وأين ملايين التفويض؟ ورغم كل المغريات والعقوبات والتهديدات التي بذلها صانعو الانقلاب من أجل حث الناس على المشاركة ، جاءت هذه الانتخابات لتسجل المعدل الأدنى في المشاركة الشعبية خلال الثلاث سنوات ماضية ، مقتربة بذلك من نفس المعدلات الانتخابية أيام المخلوع مبارك . وبعيدا عن صخب الإعلام وعويله وتضليله ، يبقى أن لهذا المشهد الانتخابي الفاشل العديد من الاستحقاقات السياسية بالغة الأهمية .

أولى هذه الاستحقاقات ، ضرورة إعادة النظر في الخطاب السياسي الموجه للشعب .فلا يخلو الخطاب السياسي لأي مسئول سياسي في البلاد العربية أو غيرها من كلمة “شعب” والتي تأتي غالباً في إطار تفخيمي؛ فكلهم من دون استثناء يريدون مصلحة الشعب، العظيم طبعاً!. ولكن على أرض الواقع تكون صورة الشعب مغايرة تماما . ففي ثقافة الأنظمة العربية الاستبدادية، أنظمة الوراثة والحكم الأبوي والعائلة المقدسة، ينحصر عندها مفهوم الشعب بالتبعية لهذه العائلة وحزبها الحاكم، وكل من يخرج عن بوتقة الحزب لا ينتمي للشعب وسيتعرض حتماً لحملات شتم وتخوين وإقصاء وربما قمع وتنكيل كما حدث بعد الانقلاب .وللأسف بعد الثورة لم يختلف الخطاب كثيرا ولا أبرئ قوى الثورة أيضا من هذه الآفة في خطابهم السياسي ولكن بصورة مغايرة قادت لنفس النتيجة ، فلم يكن خطابهم السياسي الموجه للشعب بالصورة التي تحتوي هذا الشعب وتعبر عن طموحاته وآماله بعيدا عن الحسابات الحزبية الضيقة .وأي خطاب يتوجه إلى الشعب، أي شعب، ويهمل رغبات وتطلعات هذا الشعب هو خطاب مشوه فاقد للشرعية . فالخطاب السياسي تُحركه خلفية أيديولوجية محكومة ببنيتها الفكرية. وإذا لم تكن هذا الأيديولوجية معبرة عن طموحات الشعب وهويته وثقافته فلابد أن يحصل فصام نكد بين الخطاب والمخاطب .لذا من يدّعي الحرص على حق الشعوب، عليه أن يكون حريصاً بالدرجة الأولى على إزالة مسببات التباينات في المجتمعات البشرية.ومن المستحيل أن يتم هذا الأمر إلاّ برؤية سياسية تعلي من مصلحة الشعوب ورغباته وحاجاته الأساسية أولا ،مع الانحياز التام للطبقات المهمشة لتحصيل حقوقها، هذا الانحياز يُترجم سياسياً من خلال وضع آليات عملية لتحصيل هذه الحقوق من ناهبّي الثروات ومتسلّقي الثورات الذين لا ينتمون إلى أي شعب أو عرق أو وطن أو دين؛ منطق المنفعة الشخصية هو محركهم وإلههم الواحد .

والفراغ السياسي الكبير الذي تعامل به السيسي مع الشعب المصري خلال حملته الانتخابية بحيث لا برنامج ، ولا تعهدات ، ولا أمال ، ولا طموحات ، ولا حقوق ، بحيث أصبحت كلمة " مفيش " هي أكثر الكلمات التي تترد على لسان السيسي ، كانت نتيجته سريعة وعاجلة في الصندوق الانتخابي ، في رد شعبي قاس على التعالي والازدراء الذي عومل به هذا الشعب . وما حدث في السباق الانتخابي أكد بما لا يدع مجالا للشك أن " الشعب " هو الرقم الأهم والأكثر تأثيرا وحسما في أي صراع سياسي ، وأن " الشعب " هو الجهة الوحيدة القادرة على فرض التغيير وتحريك المياه الراكدة .

ثاني هذه الاستحقاقات ، إظهار القوة الفعلية والتنظيمية الكبرى لجماعة الإخوان المسلمين ، وقدراتها الفائقة في الحشد والترتيب والإعداد ، بحيث أصبح من المستحيل ، وأكرر من المستحيل إقامة حياة سياسية لائقة ومقبولة دوليا وإقليميا ومحليا دون وجود جماعة الإخوان ، فعلى الرغم من مقتل أكثر من ثلاثة آلاف عضو من الجماعة ، واعتقال أكثر من عشرين ألفا من قياداتها وكوادرها وأعضائها الحركيين والتنظيميين ، وفرار من تبقى من القيادات إلى الخارج ، على الرغم من ذلك كله إلا إن الجماعة مازالت الرقم الأهم والأكثر تأثيرا وفعالية في الحياة السياسية المصرية . وهذا الأمر سيفرض بدوره على النظام الجديد ضرورة التفاوض مع هذه الجماعة التي تدعم موقفها كثيرا بالفشل الانتخابي الحادث في اليومين الماضيين ، ومحاولة الوصول لصيغ توافقية لتجاوز أزمات العام الماضي وطي ملفاته المعقدة ، وإن كان معظم المحللين والمراقبين يرون صعوبة إنجاز مثل هذه المصالحة لوصول العلاقة بين الطرفين إلى نقطة الكسر في معادلة صفرية بدأت فيها مؤشرات القوة تتأرجح من طرف لآخر ، بعد شهور من استطالة طرف على الآخر .

ثالث هذه الاستحقاقات ، عودة الروح الثورية ، بعدما ظن كثيرون أنها قد انتهت وماتت من شدة وقع القمع الأمني الرهيب الذي مورس بحق معارضي الانقلاب . فلقد كان تخلي الاخوان عن الصف الثوري وايثارهم للعمل الحزبي والسياسي من أهم أسباب وقوع الانقلاب وتدهور شعبية التيار الإسلامي في الشارع المصري . فالروح الثورية قد سكنت جيلا من شباب مصر فأنتجت جيلا ثائرا لم يستسلم لضغوط الواقع ، هذا الجيل أصر على مواجهة آلة القمع الجهنمية لدولة الانقلاب ،أصر على مواجهة الدولة العميقة بكل مؤسساتها وأركانها وزواياها، ومؤسسة العسكر بكل تشكيلاتها ، وقوات الأمن بكل أذرعها، ومراكز الفساد بكل امتداداتها ، ووسائل الإعلام الموجه بكل أكاذيبها وضلالاتها القبيحة ، دولة المخابرات بكل جواسيسها وأعينها ونفوذها وسلطتها، الخليج بكل ملياراته ، وفتاوى الشيوخ المدجنين ، وفقه التغلب والتنازل ،كل الدماء والرصاص والمداهمات والقتل والتفجيرات والاعتقالات وأنواع التعذيب ، كل ذلك كله لم ينل من عزيمة هذا الجيل الثائر بروح الصمود الوثابة المتدفقة عنده على هزيمة الانقلاب بكل داعميه ومموليه ومروجيه ومثقفيه ونخبه وشيوخه ، وقبل ذلك كله هزيمة نظرية الاستبداد الأشهر " الرضا بالأمر الواقع " .

رابع هذه الاستحقاقات ، عودة الوعي مرة أخرى ، وإدراك طبيعة المرحلة وحساسية اللحظة ، هذا الوعي الذي غاب منذ انخداع جماهير 25 يناير بمسرحية رحيل مبارك وسقوط نظامه وانحياز العسكر للثورة ، وعودتهم السريعة إلى البيوت وتخليهم عن مطالب الثورة الكبرى والأساسية والاشتغال بالمطالب الفئوية الضيقة ، ما حدث اليومين الماضيين لا يقارن حتى بأيام الثورة الأولى، ببساطة ومن دون مقارنات وتعقيدات، لأن الوعي هنا غير الوعي هناك، ولأن المخطط بالأمس المسايرة ثم الانقضاض، أما المخطط اليوم فهو الخسف والقصف والإبادة من أول لحظة ، فاللعب قد أصبح على المكشوف ، ولم يعد هناك مكانا للمناورات والخداع وحوارات الغرف المغلقة ، فأنهار الدم ومشاهد القتل والتنكيل قد شكلت وعيا يصعب على أشد الخطط والمؤامرات كيدا أن تنال منه ، وعيا فشلت الآلة الإعلامية الجبارة للانقلاب في الداخل والخارج على تطويعه أو تدجينه أو بث روح اليأس فيه .

خامس هذه الاستحقاقات ، قصر عمر الانقلاب ، فقد كشفت السباق الانتخابي عن شيخوخة واضحة لدولة الانقلاب ، فالشرائح العمرية للكتلة التصويتية لمؤيدي الانقلاب لا تقل عن الخمسين وما فوق ذلك ، في حين أن الشرائح العمرية للكتلة المعارضة للانقلاب من الشباب ، فهم أكثر الناس تفاعلا مع الحراك الثوري المضاد للانقلاب ، وكذلك الغالبية العظمى لضحايا مجازر الانقلاب هم الشباب ، وقد ظهر أثر هذا الأمر في الحشد للسباق الانتخابي ، فقد جاء الحشد ضعيفا فاترا في معظم الدوائر ، وظهر أثر مقاطعة الشباب للمسرحية الانتخابية ، وفقد الانقلاب بفقد التأييد الشبابي الحيوية والانطلاق والمستقبل والتفاؤل ، فجاءت الصفوف الانتخابية كئيبة هرمة لا تقوى على الوقوف لكبر السن وأمراض الشيخوخة ، مما يؤكد على قصر عمر دولة الانقلاب .

سادس هذا الاستحقاقات وأهمها وربما اخطرها ، تهيؤ البلاد لإطلاق موجة ثورية جديدة ، فنتائج الانتخابات سيتم تزويرها وتزييفها يقينا ، فلن تحتمل دولة الانقلاب نتيجة انتخابات رئاسية ب 15 أو 20 % ، لذلك قموا بمد الانتخاب ليوم ثالث في سابقة انتخابية ، من أجل تمرير هذا التزوير .
وهذا التزوير المتوقع يمكن أن يكون فاتحة ثورة جديدة. فقد جاءت انتخابات 2010 لتسرع من معدل الحراك السياسي باتجاه ثورة يناير، أشهر قليلة وكان المسرح والمسرحية ينقلبان على المتلاعب المستخف بالشعب. لا نستبعد أن يكون هذا المشهد مفتتحاً لنضال سياسي ثوري متصاعد حتى يكسر الانقلاب .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق